مجلة الرسالة/العدد 37/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 37/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 03 - 1934


ُلوم

ملاءمة الكائنات الحية لبيئاتها

للأستاذ احمد عبد اللطيف النيال

مدرس النبات بكلية العلوم

تختلف الحيوانات والنباتات بالنسبة لبعضها اختلافا عظيما حسب المناطق والأجواء التي تعودت الحياة فيها. فكل كائن نشأ في بقعة اعتاد هو وأسلافه عليها وتدرع لها بخواص تكفل له المعيشة في تلك البقعة على أصلح حال ممكنة.

يعتقد أغلب العلماء الطبيعيين أن الكائنات الحية جميعها نشأت من اصل واحد وفي بيئة واحدة هي الماء. وهذا الكائن الأولى يسهل علية تهيئة نفسه للمعيشة في أي وسط يوجد فيه. تكاثر هذا الكائن ولما أن ضاقت به بيئته نزح إلى غيرها طلباً للمعيشة والغذاء. فلكي ينجح وينمو ويتكاثر لابد له أن يتأهب ويحور نفسه بطرق توافق بيئته الجديدة , استمر هذا الانتقال تدريجياً أعني من وسط مائي صرف (ويغلب أن يكون ذلك الوسط بحراً) إلى نصف مائي ثم إلى أرضي، ومن هذا إلى المياه العذبة والى الهواء. ومن المحقق أن هذا الانتقال قد تدرج على كر العصور والأحقاب في ملايين السنين. وفي أثناء هذا الصراع في سبيل الحياة كانت تنقرض هذه الكائنات التي جمدت أمام بيئتها الجديدة، وعجزت عن الملاءمة بين تركيبها وما يحيط بها - على حين نجح غيرها تدريجياً، وتشعبت أفرعه التي انتشرت في أنحاء المعمورة، وباين بعضها بعضا تبايناً عظيماً وفقدت كل شبه لأصلها ولأقاربها. ويمكن تقدير مدى نجاح الكائن الحي وسعة انتشاره بقدرته على الملائمة بينه وبين الوسط الذي يحتويه.

وقد اجتهد النبات في تكوين غذائه بنفسه واتخذ الأرض أصلا ثبت فيها والهواء وسطا تفرع فيه. ولكي يقوم بكل عمليات الحياة ولوازمها اختص كل جزء منه للقيام بوظيفة خاصة. إذ ضربت جذوره في الأرض لمسافات مختلفة وارتفع ساقه في الهواء لحمل أفرعه حيث تنوعت كذلك لحمل الأوراق التي تفرطحت وتركزت فيها مادته الخضرية لتمكنه من الحصول على أكثر كمية مناسبة من الأشعة الضوئية ومن الغازات الجوية.

ولكي يقوى على حمل ذلك الحجم العظيم تكون له هيكل داخلي (الخشب) ليحفظ قوامه من فعل الرياح

أما الحيوان فقد سلك طريقاً آخر لم يجتهد في تحوير نفسه لتكوين غذائه (ولربما اجتهد ولم يفلح) ولكنه طمح إلى أخذه قهراً ممن هو قادر على تكوينه وهو النبات فتركز جسمه ليشغل حجاً صغيراً يمكنه من الوصول إلى غايته وتحورت أجزاؤه إلى أعضاء للحركة تمكنه من الانتقال من مكان إلى آخر. وتناسبت أعضاؤه الداخلية لكل هذه التحورات حتى تقوم بأصلح ما يمكنها القيام به

وتحورات النبات عديدة جداً شملت كل عضو من أعضائه ولكني سأقتصر على ذكر أهمها بالأجمال

نشاهد النباتات التي تعيش على الأرض تختلف عن مثيلتها التي تعيش في الماء، ونسمي الأولى أرضية والثانية مائية، والنباتات الأرضية تختلف باختلاف أنواع الأراضي التي تنبت فيها، فمن صحراوية إلى صخرية إلى تلك التي تنبت في أرض خصبة. ثم إن نباتات المناطق الحارة تختلف عن نباتات المناطق المعتدلة

فنباتات الصحراء مثلا كونت لها جذوراً امتدت امتدادا عظيماً حتى يمكنها أن تجمع ما يلزمها من الماء والغذاء. وضمرت أفرعها وأوراقها لتقتصد بقدر الإمكان ما تفقده من الإسراف في ماء النتح ولقد تحصن بعض النباتات الصحراوية بشكل آخر إذ كون له مخازن مائية يملؤها وقت الكثرة ليتصرف فيها حين الضرورة والقلة، وعلى العكس من ذلك تحورت النباتات المائية لأنها محاطة بغذائها فاضمحلت جذورها لعدم الحاجة إليها وتكاثرت أفرعها على قدر غذائها، وتوسطت بين هذين - النباتات التي تعيش في الأراضي الخصبة إذ تناسبت أجزاؤها امتداداً وترفعاً

أما تأثير الأجواء فله أهمية عظمى في تكييف النبات جملة وأعضائه خاصة. ولقد كان انقلاب الجو وتغييره في الأزمان الغابرة سبباً من أسباب انقراض الكثير من النبات كما كان سبباً في تكاثر بعضها الآخر

سلك الحيوان مسلك النبات وتبعه أينما حل وانتشر في مختلف البقاع وتكيف حسب بيئته. وأهم أعضائه التي تأثرت أعضاء التنفس والحركة. فأعضاء التنفس يمكننا القول إجمالا أنها اتخذت نوعين رئيسين لبيئتين متباينتين هما: الماء والهواء، فالحيوانات التي تعيش في الماء كالأسماك تتنفس بواسطة الخياشيم التي تستخرج غاز التنفس من الماء. والتي تعيش على الأرض أو في الهواء تتنفس بواسطة الرئة، والحيوانات البرمائية كالضفادع جمعت بين هذين العضوين (الخياشيم والرئة) فتستعمل الخياشيم في أطوارها الأولى والرئة بقية حياتها

أما أعضاء الحركة فقد تحورت كذلك حسب حاجة الحيوان، فما عاش في الماء تفرطحت أرجله فصارت كالزعانف يستعملها للسباحة ولموازنة جسمه، وتفرطح ذيله كذلك ليستعمله دفةلحركته كالأسماك والحوت. ومن الحيوانات التي عاشت على سطح الارض ما تعود الجري فاستطالت أقدامه وقويت عضلاتها. ومنها ما كانت طبيعته الوثب فتستطيل خلفيتاه فقط. وما اعتاد الحفر قويت أماميتاه، والحيوانات التي عاشت وسط الأشجار كالقردة استطالت أيديها لتتمكن بذلك من الانتقال من فرع إلى آخر بسهولة وسرعة.

أما ما اتخذ الهواء وسطاً لسيره فتكونت له أجنحة تحمله في ذلك الوسط. وقد اختلفت الأجنحة حسب قوة طيران الحيوان، فأحسنها أجنحة الطيور ثم الوطاويط ثم القوارض الطيارة وأمثالها التي تطير مسافات قصيرة، وأقلها الأسماك الطيارة

ولذلك تغير شكل الحيوان الخارجي وتركيبه الداخلي. فالأسماك وأمثالها اتخذت شكلا مستطيلاً مدبباً وتكونت لها مخازن هوائية داخل جسمها تغير حجمها كيف شاءت فترتفع وتنخفض في الماء حسب رغبتها. والحوت تكون في رأسه تجويف عظيم مملوء بالزيت زيادة على تكوين مادة دهنية تحت جلده. هذه المواد الزيتية والدهنية أقل كثافة من الماء فتساعد على تقليل الثقل النوعي للحيوان

والطيور وأمثالها تحورت نحو تقليل وزنها بتكوين أكياس هوائية كثيرة تخللت كل جزء من جسمها حتى عظامها زيادة على الريش والزغب ومحو الأسنان وتقليل الزوائد وتكييف الشكل الخارجي العام بطريقة مناسبة

يظهر مما تقدم كيف اتخذت الكائنات أشكالاً عديدة تضمن لها النمو والتكاثر في الوسط الذي وجدت به، ولكن إذا لاءم الكائن بيئته لدرجة الكمال كان ذلك سبباً من أسباب انقراضه وتلاشيه إذا حدث تغير عم البيئة التي يعيش فيها ككثير من الزواحف الجسمية المنقرضة وغيرها. ولقد كان الفيل في العصور الماضية يقطن سيبريا وشمال الروسيا حينما كانت تلك البقاع دافئة فلما انخفضت حرارتها نزح إلى أسفل نحو خط الاستواء حتى وصل الآن إلى تلك المنطقة في بقعتين فقط هما: الهند ووسط أفريقيا، وانمحى بتاتاً من كل البقاع التي مر بها تاركاً آثاره ومعالمه، وقد ثبت ذلك بصفة قاطعة، فقد وجدت آثاره في مصر (بالفيوم) وفي سيبريا حيث يستخرج منها سن الفيل المنقرض ويستعمل في أغراض صناعية

وهناك حيوانات ذات قدرة على المعيشة في مختلف البيئات كالفأر والعصفور الصغير فأنهما منتشران الآن في جميع أنحاء العالم، مثلهما مثل الكائنات التي قاومت الانقلابات، الجيلجية في العصور الماضية فعاشت وأنتجت كائنات الأجيال التالية، وقد حدث في بعض جزر المحيط الهندي والهادي أن انتابتها براكين دمرت ما عليها من حيوان ونبات ما عدا القليل الذي أصبح أصلا نتجت منه الأجيال التي تكاثرت بتلك البقاع بعد ذلك

وإذا جفت البحر في منطقة ما، انقرضت الكائنات التي تعيش فيها، فمناحم الزيوت والأسمدة التي بمصر على ساحل البحر الأحمر كانت مغطاة بالمياه ثم جفت فماتت حيواناتها وتراكمت وتغطت بطبقات أرضية وتحللت أجسامها وتكونت منها الزيوت والأسمدة المختلفة التي تستخرج الآن من تلك البقاع

ومناجم الفحم أصلها غابات ناضرة نمت في العصور الغابرة، فلما انتابها تغيير فجائي في بيئتها سقطت وتغطت وتحللت وتكونت منها المناجم التي يستخرج منها الفحم الآن

وكثيراً ما انتاب سطح الأرض من الانقلابات ما غير معالمها فكان رائع التأثير على الكائنات التي تعمرها. فيأخذ بعضها في الانقراض ولكن لا يلبث أن يتكاثر ما يفلت من هذه الكوارث فيعمر البسيطة كرة أخرى فسبحان من يبدأ الخلق ثم يعيده.

أحمد عبد اللطيف النيال