مجلة الرسالة/العدد 37/المادة لا تنعدم

مجلة الرسالة/العدد 37/المادة لا تنعدم

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 03 - 1934


للأستاذ احمد أمين

هكذا يقول علماء الكيمياء ويشرحون قولهم، ويبرهنون عليه. ويرون أن المادة تتغير وتتحول وتعود إلى عناصرها الأولى ولكن لا تنعدم، والعالم كله كساقية جحا، تغرف من البحر وتصب في البحر، فقد يحترق هذا المكتب الذي أمامي لا قدر الله، ولكنه سوف لا ينعدم، بل يتحلل إلى عوامله الأولية. وسيتغذى منها النبات ويتكون منها خشب جديد، قد يكون مكتب المستقبل.

قال الكميائيون ذلك، وقصروا قولهم على المادة لأنها مادة عملهم وموضع تجاربهم.

ولو عرض لهذا فيلسوف واسع النظر غير محدود البحث لقال (لا شيء ينعدم)

إن الأعمال من خير وشر لا تنعدم، بل تنمو وتتحول، وتؤثر وتتأثر، ولكن على كل حال لا تنعدم، إن كذبة واحدة تكذبها على أولادك في بيتك، ومن غير أن تعيرها اهتماماً لا تنعدم، فسوف تبيض وتفرخ وتنتج كثيراً من أمثالها، وسوف يكذب أولادك وستخرج الكذبة من حجرتك إلى سائر بيتك، وستخرج من بيتك إلى المدرسة، وستخرج من المدرسة إلى مصالح الناس ومعاملتهم فكيف تنعدم

قد يدق العمل ويصغر حتى لا تراه أعيننا. ولا تسمعه آذاننا، ولا تشعر به نفوسنا، ولكنه موجود، يعمل عمله في هذا الوجود، ويفعل وينفعل، ويتسع نطاقه، ويعمل في دوائر مختلفة قد لا تخطر بالبال، وما أظنك تجهل أن حصاة ترميها في البحر الأبيض المتوسط لابد أن يتأثر بها المحيط الأطلنطي، وان لم تر ذلك عيوننا. والدليل على ذلك بديهي، فلو كبرت هذه الحصاة ملايين المرات، أفلا تؤمن بهذا الأثر؟ إذن فآمن بأن هذه من تلك وعلى نسبتها ومقدار حجمها، وجزء من ألف من الشعرة له ظل حقيقي وان لم تره عيوننا، ولولا ذلك لما كان لألف ألف شعرة ظل، ولما كان لثوبك الذي تلبسه ظل

وعملك الخير مهما صغر له أثره في أمتك مهما صغر، أعلنته أو أسررته، نجحت فيه أو فشلت، علم الناس أنك مصدره أو لم يعلموا، وهل مقياس رقى الأمة وانحطاطها إلا عبارة عن عملية حسابية مركبة من جمع وطرح؟ جمع لما صدر منها من حسنات، وطرح لما صدر من سيئات - لتكن هذه العملية أشد ما تكون من صعوبة، ولتحتج إلى ما شئ آلاف دقيقة للجمع والطرح، فان رسم الحل لهذه المسألة في منتهى البداهة

وليس الأمر قاصراً على الأعمال، فإذا قلنا (الأعمال لا تنعدم) فهو تكرير لقول الطبيعيين (المادة لا تنعدم) وهل الأعمال إلا نوع من المادة؟

بل الأفكار والآراء من هذا القبيل، فالفكرة لا تنعدم، والرأي لا ينعدم، فإذا دعوت إلى فكرة أو جهرت برأي، فقد أخرجت إلى الوجود خلقاً جديداً ينطبق عليه القانون العام، قد ينجح الرأي وتعتنقه الأمة، بل ويعتنقه العالم وتظهر آثاره في أعمال الناس وحياتهم ونظامهم، فتسلم معي بأنه لم ينعدم ولكنه قد يفشل، وقد يستعمل الناس في اضطهاده وحربه كل أنواع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، والرفيعة والوضيعة، حتى يختفي ولا يظهر في الوجود، فتظن إذ ذاك انه انعدم، وهو ظن غير موفق، فقد يخفى ليعود إن كان صالحاً، ولكن كان قبل أوانه فيستتر وينكمش، ويبقى حياً يتغذى في الخفاء وتنميه الأحداث، حتى إذا تم نموه وتهيأ الناس له برز إلى العيون ثانية أو ثالثة وهو أشد على مقاومة الحرب، وأقوى على مصارعة الباطل، حتى يكتب له النجاح - وحتى إذا كان الرأي فاسداً سيئاً لا يصلح لحال ولا لمستقبل فليس مما ينعدم، إنما هو يتحول ويتحور كلوح خشب لا يصلح بحالته أن يكون شباكاً فينجر، أو لوح زجاج ليس بالحجم الذي تريده فيصغر، أو حديدة لا يناسب شكلها وحجمها فتوضع في قالب جديد بعد أن تصهر، وهكذا في الرأي يغير ويعدل، ويطعم بآراء أخرى حتى يخرج خلقاً آخر، ولكنه في كل ذلك لا ينعدم وفرق كبير بين أن تقول: فشل الرأي وفشل المشروع، وأن تقول انعدم الرأي وانعدم المشروع. فالفاشل موجود والمعدوم معدوم. وشتان بين الموجود والمعدوم. فالرأي الفاشل أو المشروع الفاشل شيء حي قد تلقى درسا من الفشل ليصبح بعد رأياً قويماً ومشروعاً ناجحاً، وهذا لا ينطبق على المعدوم

بل أذهب إلى ابعد من ذلك، وأرى أن العارض يمر على النفس، أو الخاطر يخطر بالذهن، لا يضيع ولا يذهب سدى ولا ينعدم، وإنما هو دخان قد يكون بعدُ سديما، ثم قد يكون السديم كوكبا يلمع أو نجما يتألق، وقد يكون على العكس من ذلك صاعقة تحرق، أو وميضاً خلباً يبرق، وعلى الحالين فسيكون مولوداً جديداً، شقياً أو سعيداً، أليس كثيراً مما يعترينا من حزن يسبب الكسل والخمول والملل، أو فرح يدعو إلى العمل، سببه طائف مجهول طاف بالنفس، وخطرة متنكرة خطرت لها، فغيرت حالها وكيّفتها تكييفا خاصاً في هذا الوجود؟ أو ليس كثير من الآراء التي أسبغت على هذا العالم نعماً، وكثير من المشروعات التي عم الناس خيرها أو شرها بدأت خطرة ثم كانت فكرة، ثم أصبحت بعدُ عملاً أو خيراً، أليس مما يكوّن الإنسان خطراته، فهو خيّر أو شرير بخطراته، وهو بائس أو منعدم بخطراته، ولو كشف عنا الحجاب لقرأنا في صفحات الإنسان خطا عميقا خطته في نفس الإنسان خطراته وآراؤه، وهو أدل على الإنسان من مظاهره الكاذبة، ومناظره الخارجية الخادعة، (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) كل هذه الخطرات قد تتحول وتتغير ولكن لا تنعدم

وعلى الجملة فان قال علماء الكيمياء إن المادة لا تنعدم فكل ما في الوجود يقرر أن (لا شيء ينعدم). إن كان هذا حقاً فويل للخيّر يقعده عن الخير انه لم ير بعينه آثار عمله، وويل للخيّر صرفه عن خيره نكران الجميل وجحد المعروف، وويل للمجد عدل به عن جده أن لم يسبح الناس باسمه، ويشيدوا بذكره، ومرحى لمن كان مبدؤه (الخير للخير، ولا شيء ينعدم).