مجلة الرسالة/العدد 37/تحديد الزمن عند قدماء المصريين
مجلة الرسالة/العدد 37/تحديد الزمن عند قدماء المصريين
للأستاذ عبد الحميد محمود سماحة
مفتش مرصد حلوان
لا شك في أن الكثير من الظواهر الفلكية كان من أهم العوامل الرئيسية في تكوين العقل البشري منذ أقدم العصور، ثم في بناء المدنيات المتعاقبة في التاريخ.
فظهور الشمس في ناحية ما من السماء، وارتفاعها عند الظهر نحو السمت، ثم انحدارها في الناحية المقابلة غرباً، واختفاؤها بعد ذلك كل يوم دون انقطاع، وما تجليه أثناء النهار من النور والدفء، وما يسببه اختفاؤها في أثناء الليل من الظلام والبرد؛ ثم ظهور القمر في ليال معدودة مبدداً حلكة الظلام؛ وشروق النجوم الثابتة من حيث تشرق الشمس، ومغيبها من حيث تغيب؛ وتلكم الكواكب السيارة التي تتحرك وسط النجوم الثابتة؛ وهذه المذنبات التي كانت تفاجئ الناس بظهورها ثم تفاجئهم ثانية باختفائها؛ وما كان يروعهم من كسوف الشمس وخسوف القمر؛ كل أولئك أو بعضه لا شك قد أيقظ انتباه (الإنسان الأول) كما تدل عليه آثار العصر الحجري
وتاريخ أقدم المدنيات يدل على مقدار ما كان لهذه الظواهر الفلكية المتعددة من الأثر في بناء هذه المدنيات نفسها؛ فعلى ضفاف النيل - حيث أشرقت على العالم أولى المدنيات - نجد في آثار أجدادنا ما يؤيد هذا الزعم
ولكي نستطيع ان نحكم بالدقة على مبلغ ما وصلوا إليه في هذه الناحية دون تورط في المديح أو مبالغة، لا نرى مندوحة من أن نذكر القارئ بالعقائد الرئيسية الثلاث عندهم، وهي التي صبغت بها مدنيتهم في جميع مظاهرها:
فالأولى - الشمس وهي الإله المعبود (رع)
والثانية - النجوم - منازل المباركين
والثالثة - النيل - النهر المقدس - الذي لم يزل يفيض على جوانبه الخير والبركات
ولما كان أهل مصر منذ القدم يعيشون على فلاحة الأرض، كان لزاما عليهم معرفة الوقت الذي يفيض فيه النهر المقدس ليربطوا تبعاً لذلك أزمنة الحرث والبذر والري والحصاد. ومن المصادفات الموفقة أنهم لاحظوا أن فيضان النيل يأتيهم عندما يرون الكوكب الأ سوثيس (الشعري اليمانية) يشرق لأول مرة قبيل شروق الشمس؛ ومن ثم اتخذوا الفترة الواقعة بين فيضانين متتاليين يحددها تحديداً فلكياً رؤية هذا الكوكب مرتين متتاليتين قبيل شروق الشمس وحدة للزمن. ويقول الأستاذ برستيد أن أول سنة حددت في التاريخ على هذا الأساس الفلكي - بل إطلاقا - هي سنة 4241 قبل الميلاد. غير انهم قاسوا هذه الفترة بخمسة وستين وثلاثمائة يوم. ذلك لأنهم فيما اتفق عليه اكثر المؤرخين كانوا رجالا عمليين اكثر منهم نظريين، فلم يأبهوا بأكثر من ذلك لدراسة حركة الشمس لاستنباط وحدة للزمن أدق من هذه التي كفتهم حاجتهم في تحديد أعيادهم الدينية ومواسمهم الزراعية؛ ولو أنهم فعلوا لوصلوا من غير شك إلى نتائج لا نستطيع ان نتكهن بمدى تأثيرها في المدنية، ولكننا نعتقد عند ذلك بإمكان تأسيس مدينة نظرية في مصر قبل اليونان حيث نشأت الفلسفة النظرية ومبادئ العلوم الحديثة.
دعت الحاجة بعد ذلك فيما اقتضته مرافق الحياة عندهم وما وصلوا إليه من درجة في المدنية أن يقسموا اليوم نفسه إلى اقسام، فاستخدموا الساعات الشمسية والمائية. وتدل آثارهم على أنهم استعملوا منها أنواعاً متعددة نقتصر هنا على وصف أهمها:
فالصورة (2) هي ساعة شمسية يرجع عهدها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وتتكون من قضيبين متعامدين ب ب توضع بحيث يكون مواجهاً قبل المشرق قبل الظهر وقبل المغرب بعده وظل على ب ب يبين الوقت أثناء النهار. ولقد قسموا الفترة بين شروق الشمس حين يكون الظل أطول ما يمكن والظهر حين لا ظل إلى ست ساعات ومثلها بعد الظهر.
والصورة (3) هي نوع آخر من الساعات الشمسية استخدمت لتعين الوقت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وهي لا تختلف كثيراً عن المزاول الشمسية المستعملة إلى وقتنا هذا. وقد اكتشفت ببلدة جيزار في جنوب فلسطين.
والصورة (4) هي إحدى أنواع الساعات المائية وجدت في معبد الكرنك، ويرجع تاريخها إلى عهد امنحت الثالث (1400 قبل الميلاد) وهي مصنوعة من المرمر ومزينة من الخارج برسوم الكوكبات والكواكب السيارة مع إلاهي الشمس والقمر، وصورة الملك بين آلهة الشهور الاثني عشر. وهذا النوع من الساعات عبارة عن إناء مملوء ماء ينصرف من ماسورة صغيرة في القاع. وقد جعل شكل الإناء بحيث يحدث تصرف كميات متساوية من الماء في أزمنة متساوية انخفاضات متساوية في سطح الماء
وفي أنواع أخرى من الساعات المائية كان يصب الماء من مصدر خارجي، وفي هذه الحالة يبين الوقت ارتفاع سطح الماء في الإناء
وربما كان أهم الاكتشافات العلمية في هذا الصدد تلك الآلة الزوالية الصغيرة التي ابتاعها الأستاذ برستيد من أحد تجار العاديات بلندن سنة 1923 لسببين:
الأول - إن الصانع الحقيقي لها هو الملك العظيم توت عنخ أمون نفسه كما تدل عليه الجملة الهيروغليفية المنقوشة على جانبيها (صنعتها بيدي)
الثاني - لأنها أقدم آلة فلكية عرفت في التاريخ، فقد دلت أبحاث الأستاذ جورج هيل على أن تاريخ استعمالها يرجع إلى حوالي سنة 3000 قبل الميلاد
وقد كانت تسمى هذه الآلة عندهم (مرخت) ومعناها آلة القياس، ولا يتسع المقام هنا لوصف طريقة استعمالها، ونكتفي بالإشارة إلى أنها تشبه - من هذه الناحية - الآلة الرئيسية في المراصد الحديثة المعروفة بالمنظار الزوالي. وبواسطتها يمكن تحديد الوقت برصد عبور النجوم على مظمار معلق من إحدى نهايتها.
ولا يفوتنا أيضاً أن نذكر أن آلة أخرى من هذا النوع أقدم من هذه التي ابتاعها برستيد توجد في ` متحف العاديات ببرلين
ويقول الأستاذ بورخات إن تاريخ استعمالها يرجع إلى عهد امنحتب الثالث
فليت شعري هل ترانا جديرين بهذا التراث العظيم. . . .؟؟!!
عبد الحميد محمود سماحه