مجلة الرسالة/العدد 371/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 371/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 08 - 1940


للدكتور زكي مبارك

العمر الضائع بين المداراة والرياء - الأندية الصحفية - نادي المعارف - الإذاعة اللاسلكية - إذاعة وزارة المعارف.

العمر الضائع

هو عمري وأعمار أكثر الأدباء في الشرق، فأعمارنا تضيع بين المداراة والرياء، ومن أجل هذا يقل في أدبنا ذلك الجوهر النفيس: جوهر الصراحة والصدق. ومن أجل هذا أيضاً يقل السائلون عنا والراغبون فينا، لأنهم يعرفون أنهم لن يطلعوا على أفق جديد من آفاق القلوب والعقول حين يقرءون ما نطالعهم به من حين إلى حين.

أقول هذا وقد وأدت صفحتين كتبتهما بالأمس، صفحتين صورت بهما من عزفت من الوزراء وتصويراً يعين بعض الملامح من تاريخ العصر الحديث.

ومن أعجب العجب أن نعجز عن قول الصدق، حتى في الأحوال التي يكون فيها ذلك الصدق خيراً محضاً، لأن الجمهور الذي نعاصره يتأذى من الصدق الذي يسر أكثر مما يتأذى من الصدق الذي يسوء. وإنما كان الأمر كذلك لأن هذا الجمهور لا يرضيه أن يكون الصدق وسيلة لتوكيد بعض الحقوق التي غنمها بعض الناس بصدق الجهاد.

ويجب أن نسجل أن النوابغ في الشرق لهذا العهد لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه بفضل تشجيع الجمهور أو تشجيع الوزراء والأمراء، فما نبغ نابغٌ في الشرق لهذا العهد إلا بقوة ذاتية حَمَته وعصمتْه من كيد المخذِّلين والمعوِّقين، فهم كالأشجار التي تنبت في الصحراء ثم تصير بواسق برغم الظمأ والأعاصير.

وهنا تظهر العلل الأساسية لغضب الجمهور من الصدق الذي ينفع، هنا يظهر السبب في أن الفضل أصبح من أكبر الذنوب، لأنه من صور الانتصار على الجمهور، والمنتصر لا يقابَل بغير الموجِدة والغيظ. وهل كانت شماتة الناس بالمغلوبين إلا تعبيراً عن هواهم الدفين في أن تدول دولة القوة والتفوق؟

فالذين يغضبون من الصدق المؤذي لا يغضبون لمن آذيت، وإنما يغضبون عليك، لأنك ملكت من القدرة أكثر مما يملكون، وكانوا يتمنّون لو كان إليهم المرجع في القدرة على الإيذاء. والذين يغضبون من الصدق النافع يُعبِّرون بغضبهم عن علة خفية هي بغض الخير للناس، ويزيد ألمهم كلما تذكروا أن جودك بالكلمة الطيبة قد ينفعك. وهذا يشرح أسباب حرصهم على تزييف المجاملات بحجة أنها من وسائل النفع، كأنه لا يجوز أن يقصد الرجل بمجاملة النافعين من الرجال غاية شريفة هي رفع العوائق من طريقه والاتسام بسمة التلطف والترفق والذوق.

وكنت قلت في حديث سلَف إنه يجب على الأديب أن يتعرف إلى من يعاصر من الوزراء والزعماء ليساعد على توجيه الحياة الاجتماعية وليكون له مكان في تسديد خطوات الجيل، فرأى بعض الصحفيين أن يقول إني أشرت إلى أسماء كان أكثرها من وزراء المعارف السابقين واللاحقين.

فما معنى ذلك؟ معناه أني أٌلاطف قوماً قد أحتاج إلى معونتهم في بعض الأحيان!

والذي قال هذا الكلام صديق، وقد نشره في جريدة هي أيضاً صديق. نسأل الله الحماية من الأصدقاء!

وأقول بعبارة صريحة إني غير راض عن نفسي، لأن جوانب الهجوم لها الحظ الأوفر من أدبي، وذلك باب من الشجاعة بالتأكيد، وهو يعرِّضني لكثير من ألوان المكاره والمتاعب، ولكن هناك شجاعة أعظم من هذه الشجاعة، وهي التي تنبعث عن القدرة على كلمة الإنصاف والتأييد في المواطن التي يحتاج فيها من نعاصرهم إلى الجهر بكلمة الإنصاف والتأييد.

فأنا حين أهجم على رجل أقيم الشاهد على الزهد في المنافع الشخصية، وقد تلقى كلمات الإعجاب بلا حساب. وهذا المذهب لا يضمن الخلوص من هوى النفس.

وأنا حين أتردد في إزجاء كلمة الصدق لمن تنفعهم كلمة الصدق إنما أخدم نفسي بإبعادها عن المواطن التي قد أُتهم فيها بالتزلف؛ وهذا رأيي جبن بشع لأنه من صور الخوف من تزيُّد الناس، ولا يخاف تقوُّل المرجفين إلا الجبان.

وخلاصة القول أنه يجب أن ندرس نفوسنا دراسة عميقة لنعرف إلى أي حد نتأثر بالجمهور في غضبه ورضاه، فهذا الجمهور كالطفل المدلل، ورأيه أضعف من هواه، ولا يخضع الرجل في تفكيره إلى هوى الجمهور إلا حين يكتب عليه الخذلان.

الأندية الصحفية

يظهر أن الحرب الحاضرة سيكون لها تأثير في مصاير الأندية الأدبية: ذلك بأن الظلام الذي يغمر شوارع القاهرة في هذه الليالي قد أضاع بهجة القهوات، وصرف روادها إلى أماكن جديدة هي إدارات الصحف والمجلات.

فقهوة نيويار بميدان إبراهيم لم تعد أمسياتها ملتقى السامرين من أهل العلم والأدب والذوق، وكذلك صارت قهوة السلام بذلك الميدان مجفوة من روادها بعض الجفاء، ومشرب سيسل جفاه أصدقاؤه الأقدمون، وقهوة ريجينا صد عنها من كانوا يجعلونها ندوة الصيف. . . وهكذا صار من العسير أن نجد الفرصة للأنس برؤية بعض الإخوان على غير ميعاد في تلك القهوات كلما جذبنا الشوق إلى أطايب الأسمار والأحاديث.

ومع ذلك عوضنا الله خيراً، فقد انتقلت تلك الأندية إلى إدارات الصحف، وصار من السهل أن نجد من نحب من الإخوان حين نريد، ولكن ما خصائص تلك الأندية الصحفية؟

أرجو أن تسنح فرصة قريبة لتفصيل الكلام عما يقع في إدارات الصحف والمجلات من العناية بتعقب أخبار الآداب والفنون.

نادي المعارف

وما أريد (نادي المعارف) في بغداد الذي يلتقي فيه جمهور المعلمين كل مساء، وإنما أريد النادي الذي أنشأناه بوزارة المعارف في المنطقة الشمالية من الديوان.

ونواة هذا النادي كانت بمكتب تفتيش اللغة العربية، وكان وقوده من المجادلات النحوية والصرفية واللغوية، ثم انتقل إلى البهو الفسيح الذي يجتمع فيه كاتمو أسرار الوزير والوكيلين، إن صح أن لوزارة المعارف أسراراً لا تذاع!

هو ناد مبعثر، ولكنه جذاب، لأنه يجمع أشتات الألوان ولأن أعضاءه جميعاً من أهل البصر بالأدب الرفيع، وإن كان فيهم من لا يقرأ المجلات الأدبية إلا بالمجان، وحجتهم أن وزارة المعارف لا تشترك في بعض المجلات الأدبية إلا لتوفر على موظفيها من الأدباء بضعة قروش في كل أسبوع، وهي حجة من الوجاهة بمكان!

وليس لهذا النادي مواعيد، فأنا أذهب إليه حين يخف ضجيج الجدل بمكتب تفتيش اللغة العربية، وعبد الرحمن صدقي يخف إليه حين يحتاج إلى استعارة جريدة أو مجلة من أحد الرفاق، وعلي أدهم يقر في مكانه إلى أن تنزل عليه نازلة من بعض من يسألون عن مصاير الأدب حين تصطلح الحيتان في بحر الشمال، وسيد نوفل يتلبث ويتمكث إلى أن يجئ من يحدثه عن مدارج البلاغة في غياهب التاريخ.

وسيقوى هذا النادي بعد البشاشة التي شاعت بوجه الأستاذ فريد أبو حديد، وقد تطيب الدنيا فينضم إلى نادينا فريق من الذين كانوا يظنون أن جو وزارة المعارف لا يساعد على خلق الروح الأدبي، لأن وزارة المعارف فيما يزعمون ليس لها أثر مذكور في تشجيع الأدباء.

وزارة المعارف؟ ذلك هو اسمها، والأسماء لا تعلل، كما كان يقال. وإلا فكيف جاز. . .

لقد إنساني الشيطان ما كنت احب أن أقول!

الإذاعة اللاسلكية

لا تنقطع أصوات الاعتراض على ضعف مناهج الإذاعة اللاسلكية، ولا يكون من المغالاة أن نقول إن في الناس من نسي أن في مصر إذاعة تواجه الجمهور بالطيبات من الأحاديث الأدبية والعلمية والاجتماعية، فصار من المألوف أن تلقى في محطة الإذاعة بعض المحاضرات الجيدة بدون أن يتنبه لها جمهور المتشوقين.

فما علة هذا النقص؟

لا ترجع العلة إلى ضعف من يسيطرون على محطة الإذاعة، وفيهم أدباء فضلاء، من أمثال فلان وفلان وفلان، وإنما ترجع العلة إلى كسل أولئك الأدباء الفضلاء.

ولكن كيف؟

لم يتفق للمشرفين على محطة الإذاعة أن يفكروا في الانتفاع بمواهب الأدباء الكبار انتفاعاً يشهد بأنهم يحرصون على تزويد الجمهور بأطيب ما في مصر من ثمرات العقول والقلوب والأذواق، وإنما يقبع المشرفون على المحطة في مكاتبهم لفحص ما يرد عليهم من طلبات الشادين والمبتدئين من الذين لا يعرفهم الجمهور أول مرة إلا عن طريق المذياع.

من حق محطة الإذاعة أن تشجع بعض المبتدئين، ومن حقها أن ترفع إصر الخمول عن بعض الخاملين، ولكن هذه النية الطيبة ستعود عليها بالضرر البليغ، وسيكون حالها كحال المجلات التي تسقط جدرانها فوق رءوس من تشجع من التلاميذ.

ويظهر أن محطة الإذاعة تنسى أن لها جماهير في أقطار الشرق، وأن تلك الجماهير لا تنظر بعيون الارتياح إلى عنايتها بتدريب المبتدئين، وتشجيع الخاملين.

أكتب هذا وقد سمعت أن المشرفين على محطة الإذاعة أقسموا بالله جهد أيمانهم ليغلقن آذانهم عن كلمات النصح، حتى لا يقال إنهم ضعفاء تخيفهم أسواط النقد الأدبي.

وأنا أحترم هذا النوع من الشجاعة، وأرجو أن يعرفوا أني يائس من آذانهم كل اليأس، وما حملني على تسطير هذه الكلمة إلا الرغبة في أن تعرف جماهير الأمم العربية أن مصر بخير وعافية، وأن محصول محطة الإذاعة لا يمثل ما في مصر من حيوات القلوب والعقول.

إذاعة وزارة المعارف

زعموا أن وزارة المعارف نظمت دروساً للراسبين في امتحانات الثقافة العامة وامتحانات القسم الخاص

وما يهمني إلا الدروس الخاصة باللغة العربية، لأنها تصور مواهب المدرسين بالمدارس الثانوية. وأنا أقترح أن تسجل تلك الدروس لنستطيع مؤاخذة أصحابها حين نشاء، فبعض من يلقون تلك الدروس يقعون في اللحن الفاحش، ويسقطون في تفسير النصوص سقطات لا يتردى فيها العلماء، فإن اعتذروا بأن بعض من يفسرون القرآن عن طريق المذياع يقعون في أغلاط أبشع من أغلاطهم فذلك هو العذر الذي قيل إنه أقبح من الذنب!

ولو تفضلت محطة الإذاعة فسجلت طوائف من الأحاديث لاستطاع النقد الأدبي أن يطوق بعض أصحابها بأطواق من حديد.

ولكن متى تصنع وهي تزعم أن ليس في الإمكان أبدع مما كان؟! ومع ذلك يعاب علينا أن نثور من وقت إلى وقت، كأن من الواجب أن نفرح بكل ما يصدر عن أبناء الوطن الغالي!

أيكون من حق بعض الناس أن يصدعونا باللحن والخطأ في جميع الأوقات، ولا يكون من حقنا أن نعرك آذانهم في بعض الأوقات؟

سنزجي أيام هذا الصيف بتعقب أولئك (الفضلاء) إلى أن يصدر الأمر بأن محطة الإذاعة محطة حكومية وأن توجيهها إلى السداد من الممنوعات. فمتى يصدر ذلك الأمر ليعرف الجمهور أن سكوت النقد الأدبي عن محطة الإذاعة ليس، إلا فنا من الطاعة لا ولي الأمر منا؟

عفا الله عمن حرضوني على هذا النقد اللاذع من القارئين والقارئات والسامعين والسامعات، وإن كان تحريضهم شاهداً على أن في مصر ناساً يقرءون ويسمعون! وهل من القليل أن يكون في مصر من يرجو أن تفرض (الرقابة الأدبية) على من يكتبون ويخطبون؟

زكي مبارك