مجلة الرسالة/العدد 373/بين الفهم والاجتهاد

مجلة الرسالة/العدد 373/بين الفهم والاجتهاد

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 08 - 1940



المعاني شائعة ولا تجوز الملكية فيها

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

كتب ناقد أديب في الرسالة الغراء مقالاً عنوانه من عجائب الاجتهاد، يسجل فيها بعض المعاني التي أخذها الدكتور بشر فارس لمسرحيته من ديوان الأستاذ العقاد، وديوان الشاعر الأستاذ علي محمود طه المهندس

وهذا الاتهام - وأعني اتهام الشعراء بالسرقة والأخذ - قديم منذ اللحظة التي نشأت فيها حركة النقد الأدبي. وهي حركة ترجع إلى العصر العباسي حينما استطاع الذوق الأدبي أن يتكون. ومن أبطال هذه الحركة الآمدي صاحب الموازنة وأبن رشيق صاحب العمدة وقدامة بن جعفر نقد النثر ونقد الشعر وغيرهم

ولما استوت عوم البلاغة ووضعت لها قواعد والأصول، استطاع النقد الأدبي أن يجد فيها مستنداً يستند إليه. وأفردت فصول خاصة بالمعاني والسرقات الشعرية

والواقع أنه من الصعب أن يستقصى المعنى الواحد ويُتتبع ويرد إلى مخترعه أو مفتض عذرته. وقد حاول هذه المحاولة أبو هلال العسكري في كتابه ديوان المعاني، ونجح - إلى حد ما - في جمع المعاني الواحدة في سمط واحد مع التدرج في استعمالها، ووجوه الحسن في هذا الاستعمال وهل كان الآخذُ مفضِلاً على المأخوذ منه أم مساوياً أم مقصراً عن بلوغ شأوه

واشتط بعض البلاغيين في هذا الباب فوضعوا للسرقات الشعرية أسماء كثيرة كالمسخ والسلخ والسلخ والنسخ وغيرها. وكأنهم - سامحهم الله - جعلوا أسبقية الزمان سببا في الاتهام. فالشاعر التالي يعد في نظرهم آخذاً أو سارقاً إذا اتفق له معنى مما يكون قد اتفق لشاعر سابق. وقد يكون الشاعر المتهم بالأخذ أو السرقة أو السطو - أو ما شئت أن تسميه - بريئاً من ذلك كله. وقد يكون للمصادفة وحدها فضل اتفاق الخاطرين وورودهما على معنى واحد

ومثل الذي يقال في الشعر يقال في النثر؛ فمن الظلم أن يتهم دانتي صاحب الكوميديا الإلهية بالسطو على رسالة الغفران للمعري لاتفاقهما في كثير من الأفكار وأسلوب التحليق في السماوات، كما أنه من الظلم أن يتهم قصصي بالسرقة من قصصي آخر لمجرد اتفاق الفكر بين الكاتبين

نعم في الأدب العربي كما في أدب كل أمة جماعة من اللصوص الذين يحبون أن ينسب دائماً فضل غيرهم إليهم. وهذا النوع من اللصوصية جريء كل الجرأة، لأنه لا يستحي ولا يخشى النقد إذا ما ضبط. . . ولكن الغالب في هذا النوع أنه يتوارى متى كشف الناس أمره وتبين للناقدين زيفه

وهذا النوع لا يعنينا أن نكتب عنه لأنه لا يستحق الكتابة قدر استحقاقه العقاب. أما ما نقصد إليه فهو هذه المعاني الزاخرة المشتركة بين النفوس الإنسانية التي تعد بالملايين. . . هذه المعاني التي تدور على بعض النفوس، وتشترك في بعض الخواطر، ويعتلج بها بعض الصدور، فإذا ما سجلها بعضهم بالكتابة سمعت صيحات عالية تنادي أن هذه سرقة، وأن هذا المعنى لفلان دون فلان

وليس غريباً أن يتفق الشاعران أو الكاتبان في الفكرة الواحدة أو أن يقع في بعض النفوس ما يقع في البعض الآخر. وهذا النبع العظيم من التفكير الإنساني لابد أن يجد له مسيلاً في نفوس كثيرة متشابهة. فكثيراً ما نرى بعض الناس في أحاديثهم الخاصة تتفق أفكارهم الخاصة في لحظة معينة بذاتها. كأنما ألهم كل منهما الرأي إلهاماً

وكثيراً ما نسمع بين المتحادثين هذه العبارة المألوفة (عمرك أطول من عمري) وهي عبارة لا نحاول أن نثبت بها قضية نذهب إليها؛ وإنما نسوقها فقط لنبرهن بها على ما يجري بين المتخاطبين من توافق في الأفكار أو الألفاظ، كما يقع في كثير من الأحيان

والسرقة هنا أمر عظيم وحادث جليل؛ والاتهام بها ليس من السهولة بحيث يستطيع توافق الأفكار أن يؤيده. أما سرقة الماديات فمن السهل إثباتها وإقامة الدليل عليها، لأنها في أبسط تعبير انتقال شيء من يد مالكه إلى يد مغتصبه. فملكية المالك هنا ظاهرة واضحة مشهود عليها بألف دليل ودليل. . . واغتصاب السارق لها واضح ظاهر مشهود عليه بألف دليل ودليل

أما ملكية الأفكار فمن الصعب إثباتها لوقوع الفكر دائماً على الشيوع لا على الاختصاص. والذين يضيقون علينا سبل التفكير والإنتاج والاجتهاد إنما يضيقون على أنفسهم، لأنهم في كثير من الأحوال غرضٌ يُرمَى كما يَرمْون. والواقع أن السرقة - بمعنى اتفاق الأفكار - موجود في كل نفس، لأن كل نفس بشرية يجري عليها الإحساس والعواطف والانفعالات وهي أمور مشتركة في الإنسانية جميعاً

وقد يكون وقع في مسرحية بشر فارس من الأفكار ما وقع في إحدى قصائد العقاد، وليس في ذلك مطعن على بشر ولا مفخر للعقاد

وقد وقع أكثر من هذا للفحول من كتاب الغرب فلم ينقص ذلك من مقامهم العلمي أو الأدبي، ولم يحجم التاريخ عن وضعهم في أماكنهم الصحيحة من سجل الخالدين. ولعلك تعجب إذا علمت أن موليير القصصي الفرنسي العظيم اتُّهم - في حياته - بالسطو على قصص غيره من المعاصرين والسابقين، فكان رده اعترافاً منه بالسرقة إذ يقول: (أنني وجدت شيئاً نافعاً فلا أحجم عن أخذه للانتفاع به). كما كان (تشسترتون) زعيم الحركة الرجعية في إنجلترا في العصر الحديث يُتَّهَم من برنارد شو وويلز بالسطو عل معاني الصغار من كتاب الصحافة البريطانية

والعقاد في شعره وفي كتابته غني بالمعاني، إلا أن هذا الغنى لم يكن ميراثاً خاصاً به؛ فهو ولا شك قرأ كثيراً وأفاد كثيراً مما قرأ. ولا شك أن رأسه يزدحم بكثير من المعاني التي تعرض له في مطالعته.

فليس ينقص من قدر العقاد أنه يشترك في كثير من معانيه مع كثير غيره من كتاب الإنسانية الذين يحسون إحساسه، ويتأثرون تأثيره

وعبد الرحمن شكري يعترف في مقال له بمقتطف مايو 1939 بأنه كان يحتذي شعراء الصنعة العباسية. فما قال منصف إنه سارق، ولكن قال المنصفون إنه متأثر. ولم يعب عليه المرحوم حافظ إبراهيم هذا التأثر (الاحتذاء) وهذه المعارضة بل أثنى عليهما. ولما سافر شكري إلى إنجلترا كان احتذاؤه الشعر الإنكليزي في توليد الموضوعات الجديدة لا في أساليبه

على أن الشاعر أو الكاتب لا يستغني في إنتاجه عن التأثر - المقصود وغير المقصود - بما يقرؤه، ولا يسلم من ذلك التأثر فحل من الشعراء أو مبرز من الكتاب. فالأستاذ أحمد حسن الزيات قد تأثر في مقاله (بين المهاجرين والأنصار) (الرسالة عدد 368) بفكرة الأستاذ أحمد أمين في مقال سابق بالثقافة. فأحمد أمين يصرح بأن الموت بالقنابل في القاهرة أفضل من الموت بالمكروبات في الريف، والزيات يجري على لسان المهاجرين هذه العبارة (إن الموت بالشظايا على دفعة، أخف من الموت بالجراثيم على دفعات)

وقد يكون - والعلم عند علام الغيوب - أن الزيات لم يطلع على مقال أحمد أمين المنشور بالثقافة.

والشاعر علي محمود طه قد تأثر في قصيدته محنة باريس المنشورة بالرسالة عدد (369) بمقال للدكتور طه حسين بك في الثقافة عنوانه باريس (عدد 77) فالدكتور طه حسين بك يقول: (ليست باريس رقعة من الأرض)، والشاعر علي محمود طه يقول مخاطباً باريس:

لست بنياناً ولا أرضاً ولا ... غاب آساد ولا جنة غيد

هذه كلمة أحببت أن أقولها بمناسبة كلمتين نشرتا في الرسالة بعنوانين هما (من عجائب الاجتهاد) و (من عجائب الفهم). وما أود أن أغمط بها فضل ذي فضل؛ وإنما هي كلمة حق لعلها تضع حدّاً لأمور ليس من مصلحة الأدب كتمانها والسلام.

(المنصورة)

محمد عبد الغني حسن