مجلة الرسالة/العدد 373/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 373/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 08 - 1940



ذكريات:

لن أنسى. . .

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

لست أدري ما الذي ذكرني الآن بهذا الموقف لشارلي شابلن في رواية البحث عن الذهب تضرب المحبوبة لشارلي موعداً، فيعد العدة له ويزين البيت له بالزهر والورق الملون، ويهيئ مائدة يقدم عليها كل ما يمكن أن يقدمه عاشق فقير مثله لمحبوبة صغيرة مثلها، في صحراء الآسكا التي أرضها ثلج وسمائها ثلج وهوائها ثلج

ولم يكن شارلي يشك مقدار ذرة من الشك في أن محبوبته موافيته راغبة مشوقة كما أنه انتظرها راغباً مشوقاً، ولكن ميعادها أزف، ثم فات، ثم بعد، فيئس شارلي، فاعترته لوثة، فأخذ يقفز في الحجرة ويرقص كما يرقص الطير المذبوح، ولكنه مع هذا كانت تصدر منه حركات تضحك إلى جانب ما تثير في النفس من الوجع

والذي لا أنساه هو أني كنت وأنا أشاهد شارلي في هذا الموقف المضحك وأبكى معاً

وليس هذا الموقف وحده هو الذي استطاع شارلي فيه أن يخبلني هذه الخبلة، وأن يوقظ في نفسي مالا يتفق بعضه مع بعض من الاحساسات والعواطف، وإنما كان له موقف آخر يشبه في رواية أنوار المدينة، فقد كان اعتاد أن يعين صغيرة فقيرة ضريرة تبيع الورد، بأن يشتري منها في كل حين زهرة، وما كان شارلي يحصل على ثمن الزهرة إلا عفواً، أو بعد عسر يطول، ومحرجات تتراكم بعضها فوق بعض، وما كان شارلي يقنع بأن يشتري الزهرة من هذه الفقيرة بالثمن الذي يدفع الناس مثله، وإنما كان قد عوّد صغيرته على أن تأخذ من يده التي عرفتها نفحة تسد الكثير من حاجتها. . .

وفي مرة من المرات التي كان شارلي يطير فيها إلى صغيرته طيراناً ليضع في يدها ما رزقه الله ليأخذ الزهرة - وقعت له واقعة من هذه الوقائع التي تتوالى عليه، فأبكاني أيضاً عندئذ وأضحكني. . .

وبهذين الموقفين آمنت بأن شارلي شابلن هو أعظم الفنانين في الأرض، ولا أقول أعظم الممثلين فقط، وأني أعتقد أنه قد شاهد بنفسه موقفه الأول في (البحث عن الذهب) ثم درسه ثم استخرج منه موقفه الثاني في (أنوار المدينة) فدبره تدبيراً ونسجه نسجاً، ثم حققه تحقيقاً نجح فيه إلى أقصى حدود النجاح. . .

وشارلي شابلن يمتاز بإطلاعه على أسرار النفوس وتمكنه من قوانينها. فهو يضع مواقفه التمثيلية ويعرف ما سيفعله كل منها في نفوس النظارة لا تفوته في ذلك فائتة، وإذا كانت عبقريته هي التي تساعده في غربلة رواياته وتنقيتها من المواقف الباردة المتكلفة وإذا كانت هي التي تهيئ له كمال الدقة في تصوير النزعات الإنسانية وحركات العقل الإنساني في المواقف المختلفة تصويراً يكون مؤلماً أحياناً ويكون مضحكاً في أغلب الأحايين، وإن كان هذا لا يبرئها من معاني الألم والشقاء. . . إذا كانت عبقريته هي التي تهيئ له هذا الكمال وهذه الدقة في تصوير كل عاطفة وكل نزعة وكل حركة من حركات العقل. . . فأي شيء هو الذي يمكنه من أن يصل إلى الكمال والدقة في خلط العواطف المتناقضة بعضها ببعض حتى ليخلط في نفوس الناس البكاء بالضحك فإذا بهم يجنون وهم يشاهدونه

أعبقرية هذه هي أيضاً؟

كلا. وإنما هو الجنون. فشارلي شابلن لابد أن يكون قد جن في حالة من حالات حياته جنوناً ربما لم يكن استغرق إلا ومضة من ومضات الروح تشععت فيها نفس شارلي من ناحيتين متضادتين، فاختبل، إذ أحب وكره في آن واحد، وإذ غضب ورضى في آن واحد، وإذ أحسن وأساء في آن واحد، وإذ حزن وفرح، وإذ تقدم وتأخر، وإذ شبع وجاع، وإذ ثار وهو منهد. . .

وأمثال هذه المواقف والأحوال لا تحدث للناس عامة وإنما هي تحدث للأرهف منهم حساً، وللأذكى منهم عقلاً، ولأشدهم انطلاقاً نحو الحق. وحتى هؤلاء فإنه لا يحدث لهم هذا إلا قليلاً. ولو أنه كثير عليهم أو أطال بهم لفقدوا توازنهم ولاختلط عليهم أمرهم، ولاختل تكييفهم لأنفسهم بحسب الظروف العارضة لهم، ولقعد الجنون بهم عن تذليل المواقف العسرة التي تعترض حياتهم كما يقعد بهم عن الاستمتاع بالمواقف الحلوة التي تتفق لهم.

ويظهر أن هذين الموقفين أغريا نجيب الريحاني بأن يكون له موقف يشبههما. فقد عرض في رواية (حكم قراقوش) نفسه وهو محكوم عليه بالإعدام، ووقت التنفيذ لم يبق عليه إلا دقائق فهو مشفق على نفسه جزع الموت، ولكنه مع هذا يضطر إلى أن يدافع عن نفسه بسرد حقائق مضحكة يعرف النظارة أنها لفقت على هذا المسكين تلفيقاً، وأنه كان يجب عليه أن يدرك هذا من قبل أن تفوت عليه فرصة النجاة

بهذا الموقف أراد الريحاني أن يضحك الجمهور وأن يبكيه في آن واحد، ولكن الذي حدث هو أن الجمهور كان يضحك فقط، ولم يبك منه أحد. ففات على الريحاني بهذا مأربه الفني السامي الذي كان ينشده، ولست أظن الريحاني كان عاجزاً عن الوصول إلى ما وصل إليه شارلي، فإن فيه من صفاء النفس وذكاء العقل وطواعية الروح ما يستطيع أن يحقق به كل الذي يحققه شارلي شابلن، أو أغلبه على الأقل؛ وإني أعتقد أن الريحاني فشل في إدراك هذه الغاية البعيدة لأنه لم يوفق إلى التمهيد الكيس الذي كان يجب عليه أن يأخذ به نفوس النظارة قبل أن يعرض عليهم الموقف، فالذي أذكره هو أن هذا الموقف قد جاء في (حكم قراقوش) عقب موقف آخر كان النظارة فيه منطلقين ضحكاً ومعربدين مرحاً، فلم يكن من السهل بعد ذلك أن ينقلوا من هذا الضحك وهذا المرح ليستقبلوا هذا الموقف المعقد المؤلم المضحك في آن واحد

وعندي أن الريحاني لو أنه نثر في المواقف السابقة لهذا الموقف بعض المؤلمات المتميزة الواضحة ليتخذ منها بعد ذلك قواعد يقيم عليها أعمدة الألم في الموقف المعقد الذي قصد إلى إبرازه. . . أقول لو أن الريحاني فعل هذا، فإنه كان من غير شك يصل إلى ما وصل إليه شارلي، ولو في بعض الليالي التي يمثل فيها (حكم قراقوش) إن لم يكن فيها كلها، فالواقع أن موقفاً معقداً كهذا يرتاح ممثل السينما بعد تسجيله، ويشقى ممثل المسرح كل ليلة في تحقيقه، وهو دائماً معرض للفشل فيه كما معرض للنجاح. . .

ثم إن الكلام نفسه في هذه المواقف مما يدعو إلى تبريدها وتخفيف حدتها والتهوين من عنفها، ولا ريب في أن صمت شارلي هو الذي ساعده على النجاح في هذين الموقفين، كما أن ثرثرة الريحاني في موقف قراقوش هي التي عطلته

ذلك لأنه ليس من السهل أن يهتدي الكاتب أو المؤلف إلى كلمة مجنونة يعبر بها عن حالة مجنونة فيها الألم والراحة معاً إلا أن يكون ذلك الكاتب مجنوناً، أو يكون قد جن في حالة من الأحوال، وروايات الريحاني يكتبها اثنان: الريحاني نفسه وهو يكتفي برسم معانيها لأنه أميل إلى الصمت والتعبير بإطلاق الحس كما يفعل شارلي شابلن. . . ويعاونه الأستاذ بديع خيري وهو الذي يصوغ الكلام له، وهو رجل عاقل جداً لا أظنه جن يوماً حتى يستطيع أن يؤدي مع الكلام وثقله ما يريد الريحاني أن يؤديه على نحو الذي أداه شارلي بالصمت

على أني لم أيأس من أن تتاح للأستاذين المصريين فرصة قريبة في رواية قريبة يقدمان فيها مثل هذه الدرة الفنية العاتية الجبارة، فأنا أعرفهما يهيمان بكل ما هو عات من الفن جبار، وما دمت في معرض الذكريات فإني أسجل مع التقدير ليوسف وهبي دوره في كرسي الاعتراف، فقد كان عليه في هذا الدور أن يتصنع الجنون، وكان أشق ما عليه هو أن يوحي إلى النظارة أنه يتصنع الجنون من غير أن يكون في هذا الوحي شيء يصح أن يقول فيه أحد إنه كان من الممكن أن يلتفت إليه بطل من أبطال الرواية أو بطلة من بطلاتها

وما كان يوسف وهبي إلا لينجح في مثل هذه الرحلة المعقدة من هذا الدور، فهو أقدر ما يكون على الأدوار المعقدة لا الأدوار السهلة. . .

وذلك لأنه في حياته الخاصة لا يحب أن يترك نفسه على سجيته، لكثرة ما لاقى من متاعب في حياته، ولكثرة ما تعرض لأذى الناس وهجماتهم، فهو دائماً منكمش فيما بينه وبين نفسه، مطل على كل إنسان بناحية يعتقد يوسف أنها هي الصالحة لمواجهة هذا الإنسان، وهو بهذا يمثل دائماً، فإذا كان له دور سهل يراد منه فيه أن ينطلق على سجيته لم يجد سجيته، فهو مضطر بعد ذلك إلى أن يبحث عن سجية ما يتظاهر بها، وعندئذ ينكشف يوسف وهبي للعين النافذة ويظهر كأنه ممثل ضعيف، بينما هو يتقمص الأدوار المعقدة التي يعجز عنها كثير من فحول الممثلين ينطلق فيها متدفقاً كأنما يوحي إليه وحي، وكأنما يلهم التمثيل إلهاماً.

والذين شاهدوه في أدواره الأولى التي ظهرت بها فرقة رمسيس أول ما ظهرت لا يستطيعون إلا أن يشهدوا له بأنه ممثل مجيد ممتاز، وإذا كان النقاد في ذلك الحين قد اتهموه بالتهويش فإن هذا (التهويش) لم يكن مطلقاً إلا مبالغة فنية مقبولة استساغها الجمهور وأقبل عليها إقبالاً شديداً

وإني انتهز هذه الفرصة لأسأل يوسف وهبي عن هذه الأدوار لماذا تركها؟ يخيل إليّ أن الجواب عندي. وهو أن هذه الأدوار ورواياتها تحتاج إلى تشجيع ورعاية، وإن الحكومة قد خصت بتشجيعها ورعايتها للفرقة القومية وهي مجموعة الممثلين الذين تتلمذوا على يوسف وهبي، أو عاونوه لزمن طويل. . .

وهذه حالة عجيبة فلم تكن تحدث إلا في مصر. فلم يكن معقولاً أن تأخذ الحكومة فرقة من صاحبها ثم تتركه في الميدان يعتمد على الهواة والممثلين المبتدئين، ثم تتركه بعد ذلك من غير تشجيع مادي يعوض عليه ما بذله في تدريب فرقته التي أُخذت منه.

عزيز أحمد فهمي