مجلة الرسالة/العدد 373/في الاجتماع اللغوي

مجلة الرسالة/العدد 373/في الاجتماع اللغوي

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 08 - 1940



تطور اللغة وارتقاؤئها

تأثير اللغة باللغات الأخرى: تبادل المفردات بين اللغات

للدكتور علي عبد الواحد وافي

مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب

عالجنا في المقال السابق عاملاً من عوامل تطور اللغة، وهو انتقالها من السلف إلى الخلف، وسندرس في هذا المقال عاملاً آخر من هذه العوامل وهو تأثر اللغة باللغات الأخرى

من المقرر أن أي احتكاك يحدث بين لغتين أو بين لهجتين - أيَّا كان سبب هذا الاحتكاك، ومهما كانت درجته، وكيفما كانت نتائجه الأخيرة - يؤدي لا محالة إلى تأثر كل منهما بالأخرى

ولما كان من المتعذر أن تظل لغة بمأمنٍ من الاحتكاك بلغة أخرى، لذلك كانت كل لغة من لغات العالم عرضة للتطور المطرد عن هذا الطريق

وأهم ناحية يظهر فيها هذا التأثر هي الناحية المتعلقة بالمفردات. ففي هذه الناحية على الأخص تنشط حركة التبادل بين اللغات، ويكثر اقتباسها بعضها من بعض: وقد تذهب بعض اللغات بعيداً في هذا السبيل، فتقتبس معظم مفرداتها أو قسماً كبيراً منها عن غيرها: كما فعلت التركية مع الفارسية والعربية، والسريانية مع اليونانية، والفارسية مع العربية. . . وهلم جرا.

وأما القواعد وأساليب الصوت فلا تنتقل في الغالب من لغة إلى أخرى إلا بعد صراع طويل بين اللغتين؛ ويكون انتقالها إيذاناً بقرب زوال اللغة التي انتقلت إليها واندماجها في اللغة التي انتقلت منها

ولهذا تخضع في الغالب الكلمات المقتبسة للأساليب الصوتية في اللغة التي اقتبستها، فينالها كثير من التحريف في أصواتها وطريقة نطقها، وتبعد في جميع هذه النواحي عن صورتها القديمة. فالكلمات التي أخذتها العربية مثلاً عن الفارسية واليونانية قد صبغ معظمها بصبغة اللسان العربي حتى بعد كثيراً عن أصله. ومن ثم نرى الكلمة الواحدة قد تنتقل من لغة إلى عدة لغات، فتتشكل في كل لغة بالشكل الذي يتفق مع أساليبها الصوتية ومناهج نطقها، حتى لتبدو في كل لغة منها غريبة عن نظائرها في اللغات الأخرى. فالكلمات العربية مثلاً التي انتقلت إلى اللغات الأوربية قد تمثلت في كل لغة منها بصورة تختلف اختلافاً غير يسير عن صورتها في غيرها

وكثيراً ما ينال معنى الكلمة نفسه تغيير أو تحريف عند انتقالها من لغة إلى لغة أو من لهجة إلى أخرى: فقد يخصص معناها العام ويقصر على بعض ما يدل عليه؛ وقد يعمم مدلولها الخاص؛ وقد تستعمل في غير ما وضعت له العلاقة ما بين المعنيين؛ وقد تنحط إلى درجة وضيعة في الاستعمال فتصبح من فحش الكلام وهجره؛ وقد تسمو إلى منزلة راقية فتعتبر من نبيل القول ومصطفاه. . . وهلم جرا

ويختلف مبلغ ما تأخذه لغة عن أخرى باختلاف العلاقات التي تربط الشعبين وما يتاح لهما من فرص الاحتكاك المادي والثقافي. فكلما قويت العلاقات التي تربط أحدهما بالآخر، وكثرت فرص احتكاكهما، نشطت بينهما حرمة التبادل اللغوي ولذلك تبلغ هذه الحركة أقصى شدتها حينما يسكن الشعبان منطقة واحدة أو منطقتين متجاورتين؛ فالإنجليزية قد أخذت عن النورماندية أكثر مما أخذته عن أية لغة أخرى؛ لأن الغزاة من النورمانديين قد أستقر بهم المقام في نفس بلاد الإنجليز المغلوبين. واللاتينية قد اقتبست من الإغريقية أكثر مما اقتبسته من أية لغة أخرى؛ وذلك لتجاور منطقتيهما وشدة الامتزاج بين الشعبين الناطقين بهما. ولهذا السبب نفسه بلغت حركة التبادل اللغوي أقصى شدتها بين العربية والفارسية والتركية. وما اقتبسته ألمانية سويسرا من اللغة الفرنسية لا يذكر بجانبه ما اقتبسته منها ألمانية النمسا مثلاً؛ وذلك لأن القسم الألماني اللغة في سويسرا متاخم للقسم الفرنسي اللغة ولشدة الاحتكاك بين سكان القسمين، على حين أن النمسا غير متاخمة لمنطقة فرنسية اللسان. وقد تسرب إلى لغة رومانيا عدد كبير من مفردات الشعبتين الصقلبية والمجرية، على حين أن أخواتها اللاتينية الأصل (الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية) لم تكد تتأثر بهذين اللسانين؛ وذلك لأن رومانيا قد انعزلت عن أخواتها اللاتينية وأحاط بها من جميع جهاتها أمم صقلبية اللسان أو مجرية والمفردات التي تقتبسها لغة عن غيرها من اللغات يتصل معظمها بأمور قد اختص بها أهل هذه اللغات، أو برّزوا فيها، أو امتازوا بإنتاجها أو كثرة استخدامها. . . وهلم جرا. فمعظم ما انتقل إلى العربية من المفردات الفارسية واليونانية يتصل بنواح مادية أو فكرية امتاز بها الفرس واليونان وأخذها عنهم العرب. ويتألف معظم المفردات التي أخذتها الإنجليزية عن النورماندية من كلمات دالة على معان كلية وألفاظ تتصل بشئون المائدة والطهي والطعام؛ وذلك لأن النورمانديين كانوا يفوقون الإنجليز كثيراً في هاتين الناحيتين، فغزرت مفرداتهما في لغتهم بينما قل ورودها في لغة الإنجليز القديمة. وقد انتقل إلى اليونانية، ومنها إلى اللاتينية، كثير من الكلمات الفينيقية المتصلة بشئون الملاحة والبحرية؛ وذلك لأن الفينيقيين قد سبقوا غيرهم من الشعوب في هذا المضمار. وانتقل إلى اللاتينية كثير من الكلمات الإغريقية المتعلقة بالمصطلحات الفلسفية والدينية؛ وذلك لبراعة الإغريق في ميدان الفلسفة، ولأن الدين المسيحي قد أنتشر بفضلهم في شرق الإمبراطورية الرومانية ووسطها. وقد أخذت اللغات الجرمانية عن اللاتينية كثيراً من المفردات المتصلة بالقضاء والتشريع ونظم الاجتماع والسياسة. . . وما إليها، وذلك لأن الرومان كانوا مبرزين في جميع هذه الشئون، ولهذا السبب نفسه انتقل إلى الفرنسية كثير من الكلمات الجرمانية المتصلة بشئون الحرب نفسها، ومنها كلمة الحرب من الكلمات الإيطالية المتعلقة بالموسيقى وآلاتها والفنون الجميلة؛ وانتقل إلى معظم اللغات الأوربية وغيرها المفردات الإنجليزية المتصلة بالألعاب الرياضية، والمفردات الفرنسية المتعلقة بالأزياء وألوان الطعام

ومن أجل ذلك تنتقل مع المنتجات الزراعية والصناعية أسماؤها في لغة المناطق التي ظهرت فيها لأول مرة أو اشتهرت بإنتاجها أو تصدر منها في الغالب، فتنتشر عن هذا الطريق في لغات البلاد الأخرى. فكلمة الشاي قد انتقلت إلى معظم لغات العالم من لغة جزر ماليزيا التي كانت المصدر الأول لهذه المادة ((شاي) في العربية في الفرنسية في الإنجليزية. . . الخ)، وكذلك كلمة الطباق؛ فقد انتقلت إلى معظم اللغات الإنسانية من لغة السكان الأصليين لأمريكا حيث كشفت هذه المادة لأول مرة ((طباق) في العربية في الفرنسية في الإنجليزية. . . الخ).

وعن هذا الطريق انتقل إلى اللغات الأوربية كثير من الكلمات العربية الدالة على منتجات زراعية أو صناعية: كالليمون الموصلي (وهو نسيج خاص ينسب إلى الموصل)، الزعفران، الشراب، السكر، الكافور، القنوة (عسل قصب السكر المجمد)، القهوة، القطن، القرمزي، الكمون، الدمشقي (نسيج ينسب إلى دمشق)

في الإنجليزية , , , , , , , , , , , ,

وفي الفرنسية , , , , , , , , , , , ,

علي عبد الواحد وافي

دكتور في الآداب من جامعة السربون