مجلة الرسالة/العدد 375/كلمة أخيرة

مجلة الرسالة/العدد 375/كلمة أخيرة

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1940



من عجائب الاجتهاد

(لناقد أديب)

كتبت عن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد في مسرحية مفرق الطريق، فكان من عجائب الفهم الذود عنها بمثل ما كتبه الأستاذ طليمات. وهو يعتذر عن المؤلف بقوله: إن المعاني والفكر المتداولة أشياء يشترك فيها جميع الناس، وإنما العبرة بطرائق معالجتها، إلى آخر ما كتبه في هذا المعنى. وقد حمدنا للأستاذ هذا الرأي لأنه اعتراف مهذب بما كتبناه عن هذه المسرحية المصنوعة من قصائد الشعراء، لولا حديث عن المذاهب الفلسفية موسوم بطريقة المؤلف وأسلوبه في اللف والدوران، رأيت أن من حق القراء علي ألا أخدعهم به عن الموضوع، وألا أخدع نفسي به عما سقت الدليل القاطع عليه من كلام المؤلف نفسه، وكيف أن مسرحية (تخريمة) في الفلسفات وحشو من عفو التأليف.

فلما تحدث الأستاذ الكاتب عن (كانت) و (برجسن) قلت: إن غاية هذين المذهبين في الفلسفة هي الوصول إلى المعرفة وحقائق الأشياء وما وراء الطبيعة، وإن الخلاف بينهما في الأداة أو الوسيلة، فإذا كانت بصيرة (برجسن) قد عملت عملها في المسرحية كما يقول الأستاذ طليمات، فإن القمة الباردة التي تدور حول فلسفة (كانت) قد عملت عملها الواضح في هذا السبيل، وأبرزت أثرها الملموس حتى طمرت المسرحية بثلوجها. وقلت أيضاً إن بصيرة برجسن تستعين بالعقل وليست ضرباً من الهذيان الذي يضطرب في جوانب المسرحية، ودللت على هذا الخلط فعرضت للمؤلف كلاماً بنصه، فإذا هو مذهب فلسفي آخر، وإذا هذه المذاهب الثلاثة تتلاقى على غير هدى وإتقان، ويقوم إلى جانبه رأي آخر يعتذر فيه الكاتب عن المؤلف في اقتباسه صورة الصراع بين العقل والشعور فيشير إلى ذلك وإلى الصراع بين المادة والروح، ويعرض أسماء بيراندللو وإبسن وشكسبير وراسين؛ فرأينا أن نكتفي بواحد من أولئك الأعلام نضمه إلى كانت وبرجسن والسوليزم إرضاء للأستاذ طليمات وتخريجاً لمنطقه؛ فإذا هذا الخليط العجيب مصدر إزعاج للكاتب، وإذا به يتهمنا بما لم نقله إلا إرضاء له وإعجاباً به وهو يتشبث بما يظن فيه النجاة من هذا المضطرب.

وجاء الكاتب في مقاله الأول يقول: إننا حاولنا أن نقرب المسرحية من قصيدة العقاد فنسبنا تصميم غلاف المسرحية إلى بشر فارس وهو من صنع فنانة باريسية؛ فقلنا: إن هذا الرأي المعتذر الدليل كل الدليل على صحة ما ذهبنا إليه، لأن الفنانة الباريسية بعد أن قرأت هذه المسرحية العجيبة وهضمتها وتأثرت بها وأرادت إبراز فكرتها مصورة، لم تجد غير قمة باردة منارة، وطريق صاعد بين الصخور ومنحدر إلى غور؛ وإذا قصيدة العقاد مصورة على غلاف المسرحية، وإذا المؤلف في ختام مسرحيته يقول بمثل ما قال به الأستاذ العقاد في ختام قصيدته، وهو يدعو إلى النزول والانحدار وترك هذه الثلوج.

وقد يلذ لحامي المسرحية أن يسوق دعواه بأنه يقرر مذهباً فلسفياً فأنكرنا عليه هذه الدعوى، لأن المسرحية جاءت خليطاً من فلسفات شتى كما أسلفنا القول على ذلك؛ وهكذا أطرد سياق المسرحية في أسلوب من التعسف إلى غير هدف صميم من المذاهب الفلسفية التي أقتحم عليها فظلمها وإن كانت قد تأبت عليه إحدى قضايا النفس البشرية المشتركة بين جميع الأحياء، ولا يستعصي فهمها على الدهاء

هذا من حيث الفكرة! فماذا من ناحية الأسلوب؟

لقد نهج المؤلف نهجاً ساذجاً في الاقتباس: فهو من الجهة الواحدة قد اقتطع الأستاذ العقاد في إيراد فكرته بقصيدة القمة الباردة، فعالج موضوعه على نفس الأسلوب صاعداً إلى القمة المثلوجة وهابطاً إلى الغور المظلم، ولو أنه كان مبدعاً في نهجه لأتخذ سبيلاً آخر وراح يناوح جنبات فكرته بين الشاطئ المؤنس وبين مضارب الصحراء مثلاً! بل إنه أمعن في هذا الاقتباس الغريب المريب فراح يعرض فكرة الصراع بين العقل والقلب على النمط الذي نهجه الشاعر علي محمود طه في قصيدة قلبي إذ صب معانيه في قالب ألفاضها دون أن يصوغها في قالب آخر؛ فهو يعمد إلى قوالب النار والظلمة والاحتراق دون أن يلجأ إلى صيغ جديدة تضفي على فكرته مسحة الأصالة شأن من يمتازون بشخصيتهم الأدبية المستقلة، وفضلاً عن ذلك كله فقد أثقل المؤلف بأسلوبه على مذهب الرمزية، وطغى عليه حتى مسخ طبيعته وشوه فضيلته وأفسد غايته. ذلك أنه تطاول على هذا المذهب إلى حد المواءمة بين المطبوع والمصنوع، ولقد وضحنا أن الأصل في الرمزية أن تنشأ مع النفس وفي التفكير، لأنها التعبير عما وراء الطبيعة، أو ما وراء أفق الشعور بما تعجز الألفاظ عن إبانته والإفصاح عنه، بينما تعالج المسرحية قضية بسيطة ومعاني عادية يجب أن تلتزم مكانها من التعبير المباشر الصريح دون إبهام أو إيهام، وضربنا في ذلك المثل بالمقبرة البحرية. ويمعن الكاتب في التطبيق الأعرج، فيعكس على نفسه الغاية إذ يصعد إلى الثلج مريداً خلاص النفس من ألم الإحساس البشري قياساً على الفكرة التي رمز العقاد إليها بالثلج مريداً (الإدراك المجرد) فأخذنا عليه اعتسافه في التطبيق على (النفس) هكذا إذ يحرمها بطريقة (استبدادية عرفية) حظها المقسوم المحتوم من الشعور باللذة أو الشعور بالحياة.

ذلك شأن المسرحية وشأن المدافع عنها، وقد عز علينا أن يخونه التوفيق في محاولاته العجيبة في نواحيها الأخرى، من ذلك أنه انتهج طريقة المداورة فأسرف على نفسه حين تكلم عن حظ الأدباء من الفلسفة وما يجب أن يأخذوا به أنفسهم، وتلك بديهة لا خلاف عليها، وإن كنا نعجب له بعد ذلك حين أخذ نفسه بالاعتذار عن الأستاذ العقاد قائلاً: (لا لوم ولا تثريب على أستاذنا العقاد أن يورد قصيدة من شعره تحمل في طياتها نزعات فلسفية لمدرسة معروفة) كأنما العقاد قد أتى بهذا ما يعاب، ولكنه الخلط ومجرد الكلام بما لا يجدي في دفع الإقحام.

ويزعم الأستاذ طليمات أننا قلنا إن المذهب الرمزي في الأدب ليس إلا ضباباً كثيفاً من الإبهام والإيهام، وتلك دعوى باطلة مردودة لم نقل بها وإنما هي من بدائع مخيلته، وهو يعود في مقاله الأخير إلى بصيرة برجسن بكلام لا يخفى مغزاه على المشتغلين بالأدب والفلسفة. ولقد عجبت له وايم الحق وهو يشفق (أن تسوخ قدمه) فينكر الفلسفة على (إبسن) بحجة جريئة هي أنه (ليست له مدرسة فلسفية بمعالمها وحدودها) ورحم الله فلسفة الاجتماع!

ولسنا من أصحاب الدعوة السياسية نريد أن نؤلب بها الجماهير أو نقود الدهماء، وإنما نتحدث إلى العقول والقلوب ونسوق الدليل ونأتي بالبرهان، وإنما هو حديث الأدب الخالص الذي يتناول الدرس والاستقراء بالبينات دون الشبهات ويعرض لآثار الأدباء دون ذواتهم

فالذاتية لا اعتبار لها في هذا المجال، وهي لا ترفع من قدر الكاتب إلا بمقدار ما يصيبه القراء في بحثه من الأدب الخالص والفكر الناضج والعلم الصحيح.

ناقد أديب