مجلة الرسالة/العدد 376/القصص

مجلة الرسالة/العدد 376/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 09 - 1940



القديس لا يحار

للأستاذ يحيى حقي

تحلل القديس من قيود الوطن والأهل والأصدقاء ورحل يبلِّغ رسالته للناس، يبين لهم باطل الدنيا ودنس المال، ويدعوهم إلى اللحاق به في هجرته إلى الله وحده، لا يملك شيئاً ولا يستقر بمكان.

وسار وراءه نفر من أتباعه. رجال جاوزوا سن الثورة والاستهتار، خشنوا الجلد والملبس، إذا نزلوا بلداً سهل إيواؤهم وإطعامهم. . . وتشييعهم؛ ولو لم يتبعوه لظلوا أمام بيوتهم يصطلون الشمس طول النهار. ولكن من هذا الشاب الجميل الذي يسير في مؤخرة الموكب مديد القامة عليه سمة النبل، متئد الخطوة كأنه متبوع لا تابع. ما أصفى بياض يديه ورخوصة أنامله، يشد بها حافتي مسوحه فكأنها مشبك من الأحجار الكريمة. . . من يكون؟ ولماذا يسير مطرق الرأس؟

إنه النبيل (ع)، الابن الأصغر لسيد مقاطعة نائية، تربى في كنف العز وعاشر السعداء ولم تقع عينه على بؤس. ولما مات الأب، وورث الابن الأكبر لقبه وضياعه، دعا أخاه المدلّل وقال له:

- لا أطيق أن أصبح مميزاً عنك فأنفرد بالخير كله، ومقامك في قلب أبي الكريم كان فوق مقامي، فإن شئت عشنا سوياً لك مالي، وإن شئت اقتسمنا التركة بالتساوي.

فأطرق النبيل (ع) برأسه، ولم يجب؛ ثم غادر القصر واعتكف في كوخ صغير أياماً طويلة خرج بعدها يعلن لمن حوله أن هاتفاً هتف به بين اليقظة والمنام يدعوه أن التحق بالقديس. فلما ترامى الخبر للناس عدّوها كبرى معجزاته، وأكبروا في النبيل نزوله عن الغنى الواسع والعز العريض، واختياره التكفف وسؤال الناس كسرة الخبز في سبيل الله.

طارت شهرة النبيل بين الناس وتزاحموا حول الموكب لا ليروا القديس، فهم لا يجهلونه، بل ليتطلعوا إلى النبيل الوسيم كيف يبدو في ثياب الراهب. ينصرف الرجال عن الموكب وهم أرضى نفساً وأهنأ بطعامهم وشرابهم. أما الأمهات والجدات فكن يسبحن لله الذي سبقت إرادته فاختار هذا الوليد لحياة كلها حرمان وقسوة وما كان أجدر شبابه بالتمتع واللعب. أما الفتيات فكن إذا رأين يده الناعمة الرخصة فوق المسوح الخشن، وتطلعن إلى وجه الشاب الذي أصبح مناله صعباً بل حراماً، شعرن بقشعريرة تسري في أجسادهن وركعن على الأرض يتمتمن بصلاتهن، ولكن أحداً لم يفلح في أن يرى عينيه. . . لماذا هو مطرق، ولماذا يسير في مؤخرة الموكب ولو شاء لكان في أول الصفوف؟ ليس بينه وبين القديس إلا خطوة واحدة

وفي يوم مر القديس وحاشيته على قصر منيف، فسأل عن صاحبه فقيل له إنه لثري عظيم لا هم له إلا اكتناز المال ولم يسمع عنه في يوم أنه أحسن بدرهم. فعدل القديس عن مواصلة سيره ودخل القصر ليهدم منه للشيطان معقلاً ويظفر بتخليص أرواح ساكنيه. فوجد الثري جالساً أمام مائدته تتكدس عليها الأطباق والأقداح، عن يمينه زوجه، وعن يساره ابنته، وأمامه أولاده، ومن حواليه أتباع وحشم يتطلعون لشفتيه لعلهما تنبسان بأمر

امتلأت الردهة بالأصوات، ولكن الضجة لم تمنع النبيل - ولعل إطراقه ساعده على إجادة السمع - من أن ينتبه لضحكة رقيقة تحاول صاحبتها كتمانها فلا تقوى. . . هل مبعثها سرور أو دهشة؟ أم هي سخرية؟ رفع رأسه فوجد ابنة الثري تتطلع إليه بعيون ندية كلها أضواء. . . ورأى كيف تحتال حتى جاء مقعده إلى جوارها.

وتفجر القديس يلوم، وكأن روحه ترمي بالشرر، ثم يعظ، فكأن قلبه يفيض بالغيث المنهمر، وسحرت بلاغته الحاضرين فتقاربت الوجوه وتشابهت السحن فما يُميز بين السادة والخدم.

واختلت الفتاة بالنبيل وجرى بينهما حديث خافت:

- لو أنك مررت علينا من قبل لخطت لك هذا المسوح على قدّك فإنني أشفق عليك وأنت تتعثر في أذياله، وتتيه ذراعاك في أكمامه، فقل لي بالله عليك كيف تحتمله؟

- لا يكربك الأمر؛ فلست دالفاً إلى مرقص، بل ساعياً إلى رب ينظر إلى القلوب لا إلى الأثواب.

- ويلي إذن! لقد كنت أظن الرقص عبادة؛ فما رقصت مرة إلا شعرت أنني أقرب إلى الله مني في أوقات الفراغ والسأم.

وهنا وجد الشاب نفسه أسير نظرة فاحصة ماكرة، هازئة كلها عطف وفهم، فيها بريق عين النهم وهو جائع مقبل على أشهى أطعمة.

جرحه نفوذ النظرة إلى قلبه فانقبض، ولكنه استراح لعلمه أنه لو شاء لكان سلطانه على الفتاة أقوى من سلطانها عليه.

فأجابها قاصداً هدايتها كأنه لم يغضب ولم يبال:

- وما بعد الرقص؟ ألا تفكرين أن كل هذا سراب. وأن هناك موسيقى غير موسيقاكم. اللهم إن كلي آذن لسماع أناشيد التماسيح بحمدك، الصاعدة من الكون، المدوية في الفضاء، فأسألك اللهم أن تجعل من قسمتي سماعها!

- إن الله قد أغدق نعماءه على الكون ولم يحرم منها إنساناً له قلب وبصر، فذهابك الآن تقرع باب الله دليل على أنك عشت إلى اليوم غافلاً عن جماله. وهذا ماضٍ سيقعد لك في مستقبلك وإن جاهدت. خذها عني: إن الله لا يحب من عباده السائل اللحوح اللجوج، ولا من يستعين للوصول إليه بمسبحة طولها أمتار. . .

ثم مالت الفتاة على أذنه تقول:

- هلّم اعترف أنك فهمت أنني أعلم لماذا ارتديت المسوح. أنت طموح، مبدؤك إما الكل وإما العدم. تركت الثروة لأنها نصف. والدنيا لأن كل لذة لك فيها تنقضي، فإذا هي تقصر عن حد تتخيله. وتسير في مؤخرة الصفوف لأنك لست على رأسها. ولو وقفت بين يدي الله لسألته: ما وراءك؟ فتواضعك هو الكبرياء. وزهدك هو غاية الطموح. إنني أعلم أنك نشأت يتيم الأم، ولو عاشت لوجدت في عطفها ما يرطب قلبك، وما أشبهه الآن بصخرة في أعلى الجبل. . . ومع ذلك لم يُفقد الأمل فيك. لقد اخترتك لنفسي، فابق، أنظر إلي، وتمتع بجمالي. ستعلمك قوة حبي كيف تؤمن أولاً بإنسانيتك ليصح إيمانك بعدها بالله. إن لأبي جماعة من مهرة الموسيقيين إذا وقعوا على آلاتهم أرقصوا الجماد، سأجعلهم يعزفون إذا أذن رئيسكم ولا أظنه يرفض وإلا لما كان قديساً - فماذا عليك لو خلعت المسوح وارتديت أبهى الأثواب؛ فقمت إليّ وانحنيت أمامي وتناولت يدي ودار ذراعك حول وسطي وضممتني إلى صدرك، ورقصنا فتمثّلت النغمة في حركاتنا، ثم انفلت عنك وأنا أخبر بك وأنت أدرى بي. . . وسترى أنه لا يزال هناك أمل.

انهد كل شيء من حوله. لو أنه أطاع وسواسه لهوت يده عليها يشدها من شعرها، ويجرها على الأرض. ولداسها بقدميه أو لمال عليها يغمرها بقبلاته. ولكنه خطا خطوة ليس عنها نكوص. ولو نكث لما صدقه من بعد ذلك أحد، ولا صدق هو نفسه. ولقد بقى في أذنه من كلام الفتاة لفظ (الأمل). إنه سيظل حيث هو، جاهداً في طريقه متحملاً ما لا تقوى على تحمله الجبال، آملاً أنه في النهاية سيرى بارقة الرضا في وجه ربه الكريم. . . ولكن الآن! الآن! الحياة كلها أمامه في متناول يده. آلاف الأصوات في تناديه: أقبل! اشرب! إنني عطشى.

وكان القديس لا يزال يعظ، ورويداً رويداً طأطأت الرؤوس على الصدور، وتصاعدت الآهات، وانفجرت الدموع، وركع الجميع أمام القديس، يلثم رداءه من لم يستطع الوصول إلى يديه المرفوعتين نحو السماء.

وترك الثري مائدته ووقف يقول للقديس بصوت يغالبه البكاء:

- أسلمت قيادي إليك. فأنا منذ اليوم من أتباعك، سأترك القصر وما فيه من متاع وما حوله من ضياع، سأترك مخازني، بعتيق شرابها، والحقل بعجيج دوابه سأتبعك كظلك، ولن أكون وحدي، بل سيتبعني أيضاً كل هؤلاء: زوجي وأبنائي وزوجاتهم وبناتي وأزواجهن والأصهار وأبناء العمومة والخؤولة وكل من انتسب إليّ من خدم وحشم وأتباع. أرنا الطريق ونحن في أثرك.

لم يحر القديس جواباً، لم يتعقد جبينه، فهو وضاء منير. ولم يزم شفتيه؛ فابتسامته الجميلة هي هي، ولكنه غائب عن الجمع، نظرته تائهة، لعله يستمع إلى وحي خفي يقول:

- لو تبعوك لخرب القصر وبارت الأرض ونفقت الدواب ومن أين لك إطعامهم وإيواؤهم وإيجاد عمل لهذا الجيش العرمرم. هل سيتكففون الناس مثلك؟

لم ينقص إيمان القديس ذرة، ولم يهتز لحظة، فكيف يكون قديساً إذا بدت له المسائل كما تبدو لبقية الناس متناقضة مضطربة، مضحكة مبكية، لهؤلاء القديسين نظرة تشمل الكون وتفهم الأسرار، فما يبدو عجيباً هو ذات الحكمة، وما يبدو متناقضاً هو عين الاتساق.

قال القديس بصوت كأنه يخرج من كهف عميق:

- يا بنيّ! أحمد الله أن هداك أنت ومن معك للحق. . . على يديّ! إن الطريق الذي تريد أن تسلكه وعر، لا يقوى عليه إلا القديسون أمثالي. فامكث مكانك وأقبل على عملك، واسكن إلى زوجك، وداعب أولادك وبناتك، وأشرف على شؤون خدمك وحشمك، وحقولك وضياعك، وتمتع بأكلك وشربك، على أن تعدني أن تفعل الخير وتذكر الله. تمثله لنفسك في كل لحظة حتى تعلم أن كل ما حولك زائل وأنك ملاق ربك فمحاسبك حساباً لا يضيع فيه مثقال ذرة من خير أو شر.

بدا الوجوم على وجه النبيل وكأنه لم يفهم شيئاً. فاستمر القديس يقول:

- لا تحزن. إنك ستمكث في القصر - في نظرك - ولكنك ستكون مع ذلك من أتباعي. ما قيمة التمسك بالذيل واقتفاء الخطوة، في حين أن الروح متبلد والذهن غائب؟ ستتبعني بروحك. بإيمانك. . . ولك عليّ أنني لن أنساك في يوم. فلن يغيب عنك ندائي بل سأحمل شخصك في قرار قلبي. سأنشئ لك ولأمثالك طريقة خاصة بكم تلتحقون بها فتربطني وإياكم.

وعادت الردهة إلى هرجها ومرجها ودبت فيها روح البهجة ودارت الأطباق والأكواب، وسكن الثري إلى زوجه وداعب أولاده وبناته، ونادى كلبه الأمين فأقعى تحت قدميه.

والتفت النبيل (ع) فوجد الفتاة عن يمينه، والقديس يهم بالانصراف عن يساره. . . ولكن هاتفاً هتف به فإذا هو يتمتم لنفسه:

- نعم! لا تيأس من رحمة الله.

فجمع أطراف مسوحه، وجرى إلى الجمع واتخذ مكانه بينهم، لا في آخر الصفوف هذه المرة، بل وراء القديس كأنه يلوذ به. وتحرك الجمع يرددون وراء القديس قوله:

اتركوا الباطل الزائل واتبعوني!

ووقفت الفتاة صامتة برهة، ثم همست تقول:

- يا له من غر مسكين لم يفهم الوحي. لما نادته رحمة الله أن ابق، فإذا به يولي عنها وينصرف.

ثم ضربت الأرض بقدمها وصفقت تقول:

- موسيقى! رقص!

يحيى حقي