مجلة الرسالة/العدد 379/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 379/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 10 - 1940



تأملات:

بين الكواليس. . .

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

بدءوا يستعدون للموسم التمثيلي الجديد، وسيكون موسماً بإذن الله، وستكون بدايته حافلة ببعض الروائع التي طال اشتياقنا إلى أمثالها. فأم كلثوم تعرض في هذا الأسبوع (دنانير)، وهي أوبريت موسيقية ساهم في تلحينها كل من: زكريا أحمد، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي. والفرقة القومية تعرض هذا الأسبوع أيضاً (يوم القيامة)، وهي أوبريت كتلك، انفرد بتلحينها زكريا أحمد، ووضع أزجالها بيرم التونسي، وأخرجها عمر جميعي. وملك تعرض هي أيضاً في هذا الأسبوع مسرحية بدوية زجلية لبيرم التونسي، لحنت هي أغانيها وأناشيدها. ونجيب الريحاني مشغول في هذه الأيام بإعداد روايته الجديدة التي يظن أنه سيستطيع أن يفرغ منها في هذه الأيام ليبدأ العمل بها في رمضان، والتي أظن أنا أنها ستتعطل بين يديه قليلاً أو كثيراً حتى يتم له إخراجها على النحو الذي يرضيه هو تدقيقاً وتنميقاً. ويوسف وهبي قد أعلن عن المسرح الجديد الذي سيحتله هذا العام، وإن لم يكن قد أعلن عن روايته الجديدة؛ ولكن يوسف مضمون من حيث محافظته على المواعيد، فهو يستطيع أن يؤلف رواية في يوم وأن يخرجها في يوم، وأن يطالع بها الجمهور في اليوم الثالث، وهو واثق من أن الجمهور سيرضى بها وسيرضى عنه. . .

وقد خطر لي أن أقوم في هذا الأسبوع بجولة (بين الكواليس)، لأرى كيف يهيئ هؤلاء الفنانون عملهم، فرأيت، وكما رأيت تذكرت حوادث قد يلذ للقراء أن يطالعوها:

اضربني يا علام. . .

كان على الأستاذ جورج أبيض أن ينطلق إلى المسرح ساخطاً هائجاً في موقف من مواقف (عطيل) أو (لويس) لا أذكر. . . وراح الأستاذ جورج يهيج نفسه ويثير فيها ألواناً من الغضب الصناعي يستعين به على الاندماج في الدور، ولكن نفسه كانت في هذه الساعة مملوءة حلماً ووداعة، فلم تتح له شيئاً من الهياج والغضب اللذين كان يطلبهما. . . فحزن، وتبادر اليأس إلى نفسه، وتراخت أعصابه، وكاد يتسرب من المسرح ويدع الجمهور ويهرب، لأنه كره أن يخرج إلى الناس بارداً في موقف يجب أن يكون فيه كالإعصار أو أشد ثورة. . . وبينا هو في هذا اليأس المعتم أبصر بالأستاذ أحمد علام يتبختر بين الأستار منتظراً أن يحين موقفه وأن يناديه مدير المسرح. . .

فأسرع الأستاذ جورج إلى الأستاذ علام وقال له بهذه الطفولة الضخمة المتجسدة فيه:

- هيجني يا علام. . . أغضبني!

- العفو يا أستاذ!

- لا عفو، ولا يحزنون، أريد أن أغضب وأن أثور. . . اضربني. . .

- لا يصح يا أستاذ. . .

- أرجوك يا علام. . .

- ولكن كيف أضربك يا أستاذ. . .

- هكذا. . .

. . . وهوى الأستاذ جورج بكفه على وجه الأستاذ علام بضربة كاد علام يفقد فيها أضراسه وأسنانه، وكانت هذه الضربة مفتاح الغضب الذي نشده جورج، فهاجت عندها أعصابه، وكانت دخلته إلى المسرح أزفت، فناداه مدير المسرح فدخل، ورآه الجمهور هائجاً مائجاً ساخطاً كما يجب أن يكون السخط والغضب فرضي عنه. . .

ولكنهم لم يروا علاماً الصريع الذي كان يتلوى بين الكواليس من الوجع والألم. . .

يا حبيبتي يا بنتي

وكان على الأستاذ عزيز عيد أن يخرج على الناس باكياً في مشهد من رواية لا أذكرها هي أيضاً. . . والأستاذ عزيز في طبعه صبر متأصل، ورضى متمكن؛ ورجل هذا شأنه، لا يستطيع أن يبكي بسهولة. ولذلك، فأنه حاول البكاء قبيل مثوله بين أيدي الناس، فلم تجبه من عينيه دمعة واحدة

فماذا صنع؟

رأى ابنته عزيزة الصغيرة تلعب مع الممثلين والممثلات، وتطفر في أرجاء المسرح من هنا إلى هناك، فجاءته فكرة عجيبة. . .

نادى ابنته. . . ونادى اثنين من عمال المسرح، وطلب منهما أن يسرعا فيحضرا له نعشاً كانوا يستعملونه في إحدى الروايات، فأحضر العاملان النعش، وطلب عزيز من ابنته أن تنام فيه، وأن تغمض عينيها وقال لها:

. . . موتي قليلاً يا ماما. . .

وابنته، أبوها هو، وأمها فاطمة رشدي، فالتمثيل يجري في دمها وأعصابها. . . نامت في النعش، وتماوتت، بل إنها استطاعت أن تكتم أنفاسها وأن تبعث إلى وجهها صفرة وبرودة، وأخذ عزيز ينظر إليها وهو يقول لها:

- يا حبيبتي يا بنتي. . . الله يرحمك يا بنتي. . . أنا مسكين بعدك يا زوزو. . .

. . . انطلق لسانه بهذا، فسمعته أذناه، فصدقه عقله، فأحسه قلبه، فذرفت الدموع له عيناه. . . بكى، ولم يكن يريد إلا أن يبكي، ودخل إلى المسرح باكياً كما أراد. . .

الرقم القياسي

معروف عند أهل الفن أن الأستاذ نجيب الريحاني هو أشد المخرجين أتعاباً لممثليه، فهو يكثر من البروفات إكثاراً مضنياً حتى ليحفظ ممثلوه أدوارهم حفظاً عن وجه قلب لا عن ظهر قلب. فالممثل منهم بعد أن تتم بروفات الرواية يجد نفسه قد لبس في حياته الخارجية الدور الجديد الذي عهد إليه به، ويجد نفسه يحادث أهله وأصدقاءه في البيت والشارع بالجمل والعبارات التي تضمنها دوره. . .

هذا هو المعروف عند أهل الفن، ولكن الأستاذ عمر جميعي قد وصل إلى رقم قياسي عال جداً في اهتمامه ببروفات (يوم القيامة) فقد حمل ممثليها من أفراد الفرقة القومية على أن يقوموا بها أكثر من ثلاثمائة مرة بدون مبالغة، وليس ذلك لعجز فيه ولا ضعف، فقد شهد كثير من الفنانين الذين يعتد برأيهم وعلى رأسهم الأستاذ منسي فهمي بأن كل الروايات التي أخرجها الأستاذ عمر للفرقة القومية كانت أكثر روايات الفرقة القومية نجاحاً وتوفيقاً. . . وإنما يفعل عمر ذلك (بيوم القيامة) لأنها فتح جديد في عمل الفرقة القومية، فهي الأوبريت الأولى التي تقدمها الفرقة للجمهور، وقد أنفقت الفرقة على إعدادها أكثر مما أنفقت على أي رواية أخرى، وهو يشعر بخطورة هذه الأمانة الملقاة على عاتقه، وهو لذلك يريد ألا تخرج هذه الرواية من بين يديه إلا على أكمل وجه يستطيع تحقيقه. . .

ولا ريب أن الله سيكافئه على أمانته وجده هذين.

أبو العلاء المعري

أعلن الأستاذ علي الكسار يوماً عن رواية البخيل لموليير، وذكر في الإعلانات أنه ترجمها إلى العربية بنفسه، والأستاذ علي الكسار ممثل موهوب من غير شك وإن كان التعليم ينقصه، فقد فاته حتى أن يلم بالقراءة والكتابة، وهذا شيء لا يحط من موهبته الفنية.

فسأله سائل: كيف جرؤت يا أستاذ (علي) على أن تدعي أنك مترجم (البخيل) مع أن الناس يعلمون أنك لا تقرأ ولا تكتب؟

فأجابه الأستاذ الكسار مسرعاً: وهل كان أبو العلاء المعري يقرأ وهل كان يكتب؟

وكان جواباً مسكتاً من غير شك.

رهان

يسبق إحساس الأستاذ يوسف وهبي عقله ولسانه وهو على المسرح أحياناً، وفي هذه الأحيان لا يرضى الأستاذ يوسف وهبي بأن يتريث وأن يتثاقل بإحساسه حتى يواتيه عقله ويواتيه لسانه بالألفاظ العربية التي يجب أن ينطق بها حتى يفهم الجمهور ماذا يريد أن يقول، وإنما يترك الأستاذ يوسف في هذه الأحيان نفسه ويدع لسانه ينطلق بأي ألفاظ مفيدة كانت أو غير مفيدة، عربية كانت أو غير عربية، ويكتفي الأستاذ يوسف في هذه المواقف بأن يعبر بصوته المنغم وإشارته المحكمة عما يريد أن ينقله من نفسه إلى الجمهور على شرط أن يختم هذه الانطلاقة بكلمة واحدة أو كلمتين فيهما تلخيص أو تركيز للمعنى الذي يريد أن يعبر عنه. . . فإذا كان في حالة سخط مثلاً، وحدث له هذا الذي يحدث له من مس الجن أو مما لا أدري، قال مثلاً: (أنت يا من جهنم والحديد شرر من أبالسة النار ينهار فوق رؤوس الشياطين حمم ونار وكبريت) يقول هذا، أو يقول ما يشبهه، والجمهور مأخوذ به، قد استولت عليه الكهرباء المنبعثة من أعصاب يوسف الذي يحرق نفسه على المسرح؛ فلا يستطيع الجمهور إلا أن يقبل هذا الكلام على أنه معقول ومفهوم، وعلى أن معناه متصل بالمتميز من ألفاظه، وألفاظه المدركة المتميزة هي: نار، وجهنم، وأبالسة، وشياطين وحمم وكبريت. . . والجمهور لا يعنى في مثل هذه الحال بتحديد المعنى على وجه الدقة، وإنما هو يرضى بعموم المعنى وعموم الحال. . .

وقد حدث أن زار الأستاذان بديع خيري وزكريا أحمد الأستاذ يوسف وهبي في مسرحه يوماً، ودار بينهم الحديث عن هذه المسألة واتهم الأستاذ بديع خيري الأستاذ يوسف وهبي بأنه (يهوش) الجمهور بها. . . فقال له يوسف:

- إنني لا أهوش. . . وهاأنت ذا تعرف أنني أفعل هذا، ولست أطلب منك إلا أن تنزل إلى القاعة، وأن تشاهدني الليلة وأنا أمثل، وهاأنذا أحيطك علماً منذ الآن بأني سأختم الفصل الأول بشيء من هذا، وكل ما أرجوه منك هو أنك تصدقني القول بعده، وأن تقول لي اهتزت لي نفسك أو لم تهتز، وهل صفقت لي أنت وصاحبك زكريا هذا أو لم تصفقا. . . وأطلب قبل ذلك من الله أن يسهل لي الانطلاق الذي أريده. . .

وتراهنوا. .

ونزل بديع وزكريا إلى القاعة، وتابعا يوسف وهو يمثل، ولم يشعرا بنفسيهما إلا والستار يسدل عن الفصل الأول وهما يصفقان مع المصفقين ليوسف.

ولم يدرك أحدهما أن يوسف فعل فعلته إلا بعد نزول الستار، عندئذ ضحكا حتى كادا يختنقان من الضحك، ويقول الأستاذ زكريا أحمد إن الأستاذ بديع خيري صعد بعدها إلى حجرة يوسف وقال له:

- إنني آمنت بك. . .

. . . أما أنا فأعوذ بالله من يوسف وهبي فهو جن وإن كان من المسلمين.

عزيز أحمد فهمي