مجلة الرسالة/العدد 38/تولستوي

1 - تولستوي اجتماعياته عشق تولستوي المدنية الاوربية، فطاف في أنحاء أوربا وأعجبه منها تقدمها الآلي ونظامها المتسق. وبهره فيها حركتها الدائمة ونشاطها المتجدد. ولكنه ما لبث أن نفذ إلى أعماقها. وكفاه أن يرى في تجواله رجلا يشنق في باريس أم المدنية على مرأى ومسمع من الجماهير حتى ينقلب ساخطا متذمراً متشائماً. وحتى يرجع إلى روسيا غضبان أسفا، فيهاجم الحضارة الحديثة في سخرية لاذعة وتهكم مر. تناول تولستوي الناحية النفسية من المجتمع. وأخذ يصورها بقلمه الماهر تصويراً دقيقاً. فبين أن حياة العامل اليوم أشقى بكثير من حياة الرقيق بالأمس. فقد كان يؤمن هذا إيماناً لا يخامره الشك انه خلق عبداً. وأن الله أراد أن يكون هناك أحرار وعبيد. وكان يوقن أن لا مرد لأمر الله، وفي هذا الإيمان تعزية. وفي هذا الاعتقاد سلوة. . أما العامل الحر اليوم فقد علموه المساواة، فلا نبيل ولا حقير. ثم هو يرى أن عليه أن يتعب، ولهم أن يستريحوا. ومن واجبه أن يشقى، ومن حقهم أن يسعدوا وهو ولا شك غير راض بهذا ولا قانع، ولابد له أن يتساءل لماذا يشقى؟ وهو منته إلى الشك في عدل هذا العالم وإنصاف القائمين بأموره. وفي هذا الشك. وفي ذاك التساؤل تعس ليس بعده تعس، ثم رجل الطبقات الوسطى لا تقل حالته النفسية عن حالة العامل تناقصاً واضطراباً: إذ يرى عجبا، يرى قوما إذا ما أجادوا التمليق وأحسنوا الاحتيال وداسو على الشرف والكرامة ارتفعوا على أكتاف الغير وتولوا قيادة الأمم، ثم طائفة أخرى تتمسك بالأمانة وتتعلق بالشرف. وهي أبية لا تقل ذكاء ولا مهارة عن الأولى ولكنها مهما كدت وجدت فنصيبها في الحياة القدح المنيح، ثم هو متعجب لماذا يجب عليه أن يؤدي ضرائب ثقيلة على نفسه لتتمتع بها قلة مستهترة. وماذا يحمله على محاربة الموت في ميدان القتال، ما دام الغنم كله راجعاً إلى القواد والساسة!؟ ويزيده شقاء على شقاء انه مضطر إلى مجاراة العالم في نظمه وأساليبه، وهو يحمل لها بين طوايا نفسه انتقاماً مراً. ورجال المناصب وقادة الأمم من ساسة وحكام لهم آمال عريضة ومبادئ قويمة. ولكنهم إذا ما تولوا الحكم وقبضوا على أزمة الأمور انتهوا إلى منهاج من سبقهمواضعين مبادئهم في أحد أدراج مكاتبهم التي يستريحون إليها! ويمتد هذا التناقض إلى نفسية الأمم كمجموعة. فليس أعجب من أمم مسيحية تعتنق ديناً يدعوها ألا تقابل الشر بالشر وأن تدير الخد الأيسر لمن يلطم الخد الأيمن. وهي لا تتورع عن قتال دام تعد له أشد الآلات فتكا لإهانة تافهة، أو لطمع أشعبي في قطعة أرض أو تصريف محصول. فرق بعيد إذن بين ما يعتقد البشر وبين ما يعملون. وبون شاسع بين ما يؤمنون انه واجب أن يكون، وما هو كائن بالفعل، وفي هذا سر الشقاء والبؤس الذي يسود العالم. كان من نتيجة هذا الخلاف بين ما تراه ضمائرنا وما تعلمه أيدينا أسوأ العواقب. فالنظم والأوضاع الاجتماعية الحديثة لا تستند إلا إلى القوة. ولا تقوم إلا بالعنف. فليس من حكومة تستطيع أن تدبر أمر دولة دون أن يكون من ورائها شرطة تجبر الناس على الطاعة. وليس من قانون يسري إلا إذا اعتمد على قوة تنفيذية تضطر الناس إلى الإذعان له، وليس من عمل يدار إلا إذا تحكم أصحاب رؤوس الأموال في العمال، ويتجلى هذا العنف في أبسط نواحي الحياة الاجتماعية أو أكثرها تعقيداً من العلاقات العائلية إلى العلاقات الدولية، فلا يتاح لأسرة أن تستمر إلا إذا استبدت المرأة بالرجل أو الرجل بالمرأة، ولا يمكن لنزاع إن يحسم بين دولة وأخرى إلا إذا أريقت الدماء وأزهقت الأرواح ولو ترك الناس وضمائرهم لما جبيت الضرائب، ولما لفت الجيوش، وما كان ليخطر ببال إنجليزي أن يقتل فرنسيا، ولا فرنسي أن يستعبد سوريا ولو كان الأمر شورى والمبادئ التي نودي بها من مساواة وإخاء حقيقة واقعة لما وجدنا طبقة حاكمة وأخرى محكومة. وما كان يتاح لأحد أن يسعد ولآخر أن يشقى. ونحن نحس كل هذا ونشعر أن ما نعمله مساقون إليه سوقا ومدفوعون إليه دفعا. وإنا لا نستطيع مع الأنظمة الحالية صبراً، ولكن لسنا من الشجاعة الأدبية بحيث نجهر بضرورة تغيير نظام العالم وبوجوب قلبه رأساً على عقب. لقد أصبحت المدنية الحالية نسجاً مهلهلاً ونظاماً معطلا لا يصلح لما يجيش في نفوسنا ويجول في عقولنا. وأمست رياء وخداعا تتدثر بمسوح كهنوتي لتخفى فجورها وشراستها. فهي إن استعبدت الأمم فلكي تأخذ بيدها إلى الرقي! وهي إن لجأت إلى القوة في هذاالسبيل فذلك عمل إنساني نبيل. نعم. لقد أصبحت النظم الحالية من سياسية واجتماعية واقتصادية نظماً عتيقة لا تشرف الإنسانية في قليل أو كثير. ولكن. أي نظم تستبدلها بها. وعلى أي صورة تكون هذه النظم هذا ما بحثه تولستوي، وكان من نتيجة بحثه أن وصل إلى رأي قاطع - 2 - ولم يكن رأي تولستوي خيالاً أو أديالاً يستحيل تحقيقه، ولم يتطلب من البشر أن ينسوا بشريتهم ليصبحوا ملائكة. وهو لا يقول لك أكثر من أن تتبع التاريخ لتتبين بنفسك مجرى الإنسانية إلى أين تسير وفي أي اتجاه تتجه. لقد أتى على العالم حين من الدهر كان فيه أسراً وعشائر. وكانت الأسر في تطاحن وتناحر، يعتقد أفراد كل أسرة أن سعادتها في التغلب على الأسر الأخرى. ثم ظهر لهم أن لا ثمرة يجنونها من قال طويل ممل. فاندمجت الأسر في قبائل. وبدأت القبائل دوراً آخر من أدوار التاريخ سودت صفحاته بحروب الغلبة والثأر. ثم ما لبثت أن تحققت بدورها أن سلامها في تعاونها فاتحدت القبائل. وكان من نتيجة اتحادها هذه الدويلات التي عظمت حتى سميت بعد بانجلتره وفرنسا والولايات المتحدة. . . في تتبعك لهذا الأدوار استكشاف لسر الإنسانية. فهي تتجه إلى الوحدة. وتسعى إلى الالتئام فليس من المستحيل أن تصبح الدول دولة واحدة. وبذا تنقطع من صفحات التاريخ سلسلة المجازر البشرية. قد تقول أن هذا حلم فيلسوف وخيال شاعر. وأن ليس من الوطنية مفر. ولا من الحرب بد، وأن الشقاء والبؤس من لوازم هذا العالم. ليس في الإمكان أبدع مما كان. ويضحك منك تولستوي. ويقول إن ما تحسبه اليوم قد حسبه أجدادك من قبل. فالأثيني ما كان يخطر بباله أن يتعاون مع أخيه الإسبرطي تحت علم واحد متناسياً أحقاده مضحياً بمصلحة مدنيته في سبيل اسم أجوف دعوه اليوم دولة اليونان وانجلتره التي يضحي الإنجليزي من أجلها بنفسه وماله. لم يكن لها من قبل وجود. وما كان يتصور الاسكتلندي أو الارلندي قبل بضع مئات من السنين أن يأتي وقت يتنازلان فيه عن استقلالهما الشخصي وتقاليدهما الموروثة وليصبح لهما وطن مشترك، وعنوان واحد، والرقيق كان يحسبه البعض منذ مائة سنة ضرورة من ضروريات الحياة وقانوناً طبيعياً إرادة الله وليس إلى تغييره من سبيل. وأين الرقيق اليوم؟ وهكذا، فما تتخيله اليوم من أن اتحاد البشر أمر محال وأن إلغاء الحروب خيال بديع سيصبح بعد غد حقيقة واقعة وشقاؤك آت من أنك تؤمن بضرورة هذا الاتحاد، ولكنك تحكم باستحالته. وسعادتك لن تتحقق إلا إذ اعتقدت بإمكانه فتعمل له هذا اليوم الذي تختفي فيه الوطنية لتحل محلها الإنسانية. وتتنازل فيه الدول عن بعض حقوقها لتعيش في هدوء وسلام هو الضالة التي يجب أن ننشدها وهو الغاية التي يجب أن نقصدها. ثم هو النهاية التي لا شك إنا واصلون إليها. كيف يتحقق هذا الحلم الجميل؟ ذلك ما يجيبك عنه تولستوي مرة أخرى. (البقية في العدد القادم) شهدي عطيه الشافعي