مجلة الرسالة/العدد 38/في البحوث الروحية

مجلة الرسالة/العدد 38/في البحوث الروحية

مجلة الرسالة - العدد 38
في البحوث الروحية
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 03 - 1934


4 - في البحوث الروحية

للأستاذ عبد المغني علي حسين

منذ أسابيع، وجهت إحدى المجلات المصرية إلى عدد من النوابغ المصريين استفتاء في دعوى مخاطبة الأرواح أيصدقونها أم يكذبونها، فأعرب البعض منهم عن تشكك في صحة الدعوى أو نفي لها للأسباب الآتية: -

1 - إن الدعوى لا تقوم على أساس علمي.

2 - إن واحدا من كبار الباحثين الروحيين غرق في حادث الباخرة (تيتانيك)، فلم لم تنبئه الأرواح بالحتف الكامن له في عرض المحيط؟

3 - لم نسمع بان ساسة الدول وقادة الجيوش قد استخدموا الأرواح في استطلاع ما يضمره خصومهم السياسيون والحربيون

4 - لم نسمع بأن رجال الأمن قد استغلوا مخاطبة الأرواح في كشف خفايا الجرائم وتعقب المجرمين.

هذا مجمل الاعتراضات. ولكن مع احترامي لقائليها، لست أراها تذهب بعيداً في نفي دعوى المخاطبة. أما القول بأن الدعوى لا تقوم على أساس علمي فقول غامض. وما هو يا ترى المقصود بالأساس العلمي؟ إذا كان المراد أن المخاطبة لم تأت كنتيجة منطقية أو رياضية لإحدى النظريات القائمة في العلوم الطبيعية فالاعتراض صحيح، إذ المفروض أن المخاطبة مشاهدة تجريبية مستقلة لا تقوم على نظرية علمية سابقة. ولكن من قال بأن النظريات العلمية السابقة يجب أن تكون أساس كل حقيقة علمية جديدة؟ إن أساس الأسس العلمية هو المشاهدة والتجربة لا النظريات العلمية السابقة.

في ساعة من ساعات التجلي السماوي، جلس (جيمس واط) يرقب إبريق الشاي وهو على النار يغلي ويئز، ورأى البخار يدفع الغطاء من آن لآن فيفتح فرجة يهرب منها، فتملكت (واط) فكرة استغلال قوة البخار المحبوس، ومال على هذا المبحث بكل ما أوتي من ذكاء، وجد في تهذيب ما سبق في هذا الميدان من محاولات ساذجة، فوضع أساس صرح ضخم من البحوث والمخترعات، وحمل البخار الناس في البر والبحر وطار بهم في جو السماء؛ فهل كان اكتشاف قوة البخار بادئ ذي بدى نتيجة لنظرية علمية سابقة؟ كلا. لقد كان مشاهدة تجريبية مستقلة.

وفي ساعة من ساعات التجلي السماوي، تنبه وليم جلبرت من أهالي كلشستر بإنجلترا، إلى أن الكهرباء (الكهرمان) المدلوكة بالصوف تجتذب خفاف القش، وقصاصات الورق، وكان جلبرت ذكي الفؤاد بحاثة، فجرب وجرب، ووضع أساس كل ما نعرف اليوم عن الكهرباء، وما ننعم به من مخترعاتها وبدائعها ومعجزاتها، فكشف الكهرباء أيضاً لم يكن قائما على نظرية علمية سابقة، بل كان مشاهدة تجريبية مستقلة.

القول إذن بأن مخاطبة الأرواح لا تقوم على أساس علمي هو على الأقل قول غامض. أما بقية الاعتراضات فليس لها من الخطر ما لهذا الاعتراض الأول. وهي تفاصيل لا أرى التعجل بالخوض فيها، ولعلها تتعلق بالأرواح ذاتها، وما تستطيع وتحب أن تفعله وما لا تستطيعه أو لا ترى في فعله خيرا. وإذا انجلت هذه البحوث عن إثبات علمي لوجود العالم الروحي، وعن تقوية للأيمان بأوتاد من العلم اليقيني، فكفى بذلك نفعا، بل ذلك هو النفع كله، وهو اللباب الدسم، أما ما زاد عليه فألياف تافهة.

هذا الاعتراضات إذن قد أدلى بها على عجل. ولكن كما أنها لا تذهب بعيداً في نفي دعوى المخاطبة فكذلك ردودي هذه لا وزن لها كإثبات لصحة الدعوى. إذ الحقائق العلمية لا تقوم على الجدل الكلامي، وإنما الوسيلة إليها هي البحث التجريبي.

فهل ثمة بحث تجريبي جدير بالاعتبار يجري في هذا الموضوع؟ في العواصم بأوربا وأمريكا مجامع لهذا الغرض، أعضاؤها من المثقفين المفكرين، بينهم المحامي والطبيب والمربي والموظف والصحافي والأديب، وعدد صغير من أساتذة الجامعات وأفراد من العلماء الأفذاذ. تستحوذ هذه المجامع على وسطاء

يزعمون فيهم الإخلاص وطهارة الطوية، ويدونون تجاربهم في سجلات، وينشئون لإذاعتها المجلات. وقد يختلفون في تفسير الظواهر، ولكنهم مجمعون بادئ ذي بدء على صحتها، وانتفاء الدجل منها، وأنها مفتاح ما استغلق من خصائص العقل البشري ومدى علاقته بمحيط المادة

ولكن جمهور المفكرين لن يطمئنوا تماماً إلى حكم هيئات كهذه في موضوع خطير كهذا. قد يسلم الجمهور بأن في الأمر ما يستحق البحث، ولكن البحث الذي يرضيه يجب أن يكون بين جدران الجامعات. الجمهور يعتبر هؤلاء الباحثين ثائرين على العلم الرسمي، ينشئون داخل مملكته دولة يحكمون فيها باسمه، مع أنه - بحق أو بغير حق - لا يعترف بدولتهم ولا بأساليب حكمهم. ولكن لما كان رجال من وزراء البلاط العلمي قد انضموا إلى الثوار فقد جل الخطب عن السكوت؛ وها نحن أولاء نتساءل إلى متى تتحمل الهيئات العلمية الرسمية تبعة شذوذ الموقف؟ ولماذا لا تجلب على الموضوع بالخيل والرجل، فأما أن تهلكه وإما أنت تضمه تحت جناحها؟

العلم لا يعترف إلى اليوم إلا بشيئين - المادة وما يحرك المادة من قوى آلية. ولكن الروحيين ينادون بأن في الكون أيضاً قوى خفية ذات عقل وإرادة تؤثر في المادة في بعض الظروف. هل لهذه الدعوى من الحق نصيب؟ سؤال ملح موجه إلى الهيئات العلمية الرسمية.

ويخيل إلينا أن العلم الرسمي قد بدأ يصغي إلى السؤال. فقد تألف بلندن في الأيام الأخيرة مجمع جديد للبحث الروحي، أعضاؤه من صميم رجال العلم، يرأسه البروفسور جرافتون أليوت سميث عضو المجمع العلمي البريطاني والعالم العالمي في الأنثروبولوجيا (علم أصل الإنسان) وأستاذ التشريح بجامعة لندن. . أعلن هذا الرئيس تأليف المجمع بخطاب أرسله لمحرر مجلة اللانسيت (مجلة للعلوم الطبية) ونشر في عدد 13 يناير من تلك المجلة، وفيما يلي ترجمته: -

سيدي:

صحت كلمة عدد من رجال العلم على تأليف مجمع للبحث في الظواهر المسماة عادة بالروحية أو غير العادية، وذلك بالوسائل العلمية التجريبية المتبعة في علوم الطبيعة والفزيولوجيا. يحدث كثيراً أن يدعى رجال العلم لإبداء رأيهم في تلك الظواهر فيعجزون عن الإتيان بحجج مستقيمة تبرر موقفهم السلبي، والأولى بهم لكي يكون موقفهم أكثر التئاما مع الروح العلمية أن يتقدموا لبحث تلك الدعاوى بالوسائل العلمية المعروفة بدلا من أن يقتصروا على نفي وجودها، والمجمع الجديد ينوي القيام بهذه المهمة تلبية لنداء مجلة (نايتشر) في مقالها الرئيسي بعدد 23 ديسمبر سنة 1933 قال مستر جيرالد هيرد عضو اللجنة الاستشارية لمجمعنا في كلمة إذاعها باللاسلكي يوم 5 يناير، إن الوقت قد حان ليتنبه العلم الرسمي إلى وجود ظواهر تشذ عن القوانين المعروفة في العلوم الطبيعية، ولا تلتئم مع أي نظام مادي، ولا يصح إغفالها بعد اليوم، منذ أربعين عاما كان رجال الطب ينكرون الدعاوى الغريبة التي جاء بها التنويم المغنطيسي، ولكن التجربة والاختبار أثبتا صحة تلك الدعاوى وأهميتها، وها هو العلم اليوم في موقف مشابه لموقفه ذاك منذ أربعين عاما. عندما كنت طالب طب بالسنة النهائية، كان زملائي من الطلبة يسخرون مني لمجرد قراءتي كتابا في التنويم المغنطيسي، ولكني نجحت في إقناعهم بصحة التنويم بأن نومت كبير الساخرين مني. قد أورد مستر هيرد في خطابه المذاع باللاسلكي طرفا من تلك الظواهر النادرة الغامضة التي يزعمون حدوثها. ظواهر فيها المجال واسع لكل باحث كفء في علوم الطبيعة والفزيولوجيا والسيكولوجيا. إن لدى العلم اليوم لأجهزة ووسائل للبحث غاية في الدقة لم تكن موجودة منذ ثلاثين سنة، مثل تصوير الأشعة فوق البنفسجية ودون الحمراء، ومثل أشعة إكس والحاكي ومضخم الأصوات وأشرطة السينما وغيرها مما لم يكن يعرفه الذين بدأوا البحوث الروحية أمثال كروكس وريشيه ولدج. لن نبدأ البحث متأثرين باعتقاد في الأرواح ولا بأي اعتقاد آخر. وسنسير على النمط الجامعي كما هو الحال في معامل البروفسور وليم مكدوجال بأمريكا وفي جامعات أخرى بأوربا. وسنعامل بكل اعتبار أولئك الذين يسمون بالوسطاء. وسيضطرب هذا المجمع في مستهل حياته حتى يكون مستقلا في ماليته، ولكن رجال العلم ليسوا دائماً ذوي مال، ومعلوم أن بين الأثرياء اليوم من يهمهم جدا تشجيع هذه البحوث، فلعلهم يجودون بسخاء لإقامة المجمع على دعائم مالية ثابتة. ونزولا على إرادة البروفسور مزيزرهاريس، الذي أكد لي أنه يعبر عن رغبة باقي زملائه من أعضاء المجمع قد قبلت أعباء الرياسة، ولكن ليس معنى هذا القبول أنني أعرف الكثير في هذا الموضوع، بل معناه إني أتعهد بان أجعل البحث جديا وبعيدا عن كل تحيز.

هذا خطاب رئيس المجمع الجديد، وقد أدلى إلى الصحف اليومية الإنجليزية بأحاديث لا تخرج في معناها عما بهذا الخطاب

عبد المغني علي حسين

خريج جامعة برمنجهام