مجلة الرسالة/العدد 380/سيجموند فرويد

مجلة الرسالة/العدد 380/سيجموند فرويد

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 10 - 1940



العالم النفساني الكبير

للأستاذ صديق شيبوب

- 2 -

زاول (فرويد) بعد عودته من فرنسا مهنة الطب بمدينة فينا وانصرف إليها يمارسها بالعناية التي انطبعت عليها نفسه والتي وصفناها في المقال الماضي.

وكان قد عرف قبل رحلته إلى باريس طبيباً يدعى (جوزيف بروير) فانضم إليه بعد أوبته واشتركا في مزاولة مهنتهما.

تحدث هذا الطبيب إلى (فرويد) قبيل سفره عن فتاة هستيرية أصيبت وغموض القوى الواعية، وروى له أنه لاحظ أن حالة الفتاة تتحسن كلما استطاعت التحدث ملياً عن نفسها. وكان لهذا السبب يصغي في صبر لحديثها عندما تترك فيه المجال لواهمتها الشعورية، وأنه لاحظ أن اعترافات الفتاة متقطعة، وأنها تخفي عن قصد أشياء يظهر أنها لعبت في حياتها دوراً هاماً، وكانت من مسببات علتها. فخطر له أن يستعمل التنويم المغناطيسي على أمل أنها، وهي معدومة الإرادة في حالة السبات، تبوح بما تخفيه في يقظتها. وهكذا استطاع أن يعرف من الفتاة أنها بينما كانت تعنى بوالدها المريض أحست في نفسها بمشاعر كبتتها لأسباب أخلاقية فاتخذت هذه المشاعر شكلاً آخر برز في أعراض مرضها. وكانت أعراض الهستيريا تزول كلما باحت بحقيقة الأمر.

لم يجد (بروير) في هذه الفتاة غير حادث مرضي استطاع كشف الستار عنه ومعالجته. أما (فرويد) فشعر بغريزته العميقة أن الأمر أشد خطراً مما توهمه صاحبه، وأنتهي من ذلك إلى هذه الحقيقة وهي أن (قوى النفس تتحول عن مراكزها) وأنه يجب أن يوجد في العقل غير الواعي قوة عاملة تحول الشعور عن مجراه الطبيعي وتقذف به إلى مظاهر نفسية أو طبيعية.

ولما كان هذا العارض الذي كشف عنه (بروير) يؤيد الاختبارات التي شاهدها (فرويد) بباريس ويبرزها في صورة جديدة، استقر رأي الزميلين على متابعة أبحاثهما التي قصدا إليها في طريق مظلمة وعرة. وهكذا وضعا كتاب (العمل النفسي في عوارض الهستيريا) الذي ظهر سنة 1893 و (رسالة في الهستيريا) ظهرت سنة 1895 فكشفا عن حقيقة هذا الداء في كتابيهما وأبرزاه تحت ضوء جديد.

وقررا للمرة الأولى في علم الطب أن الهستيريا ليست من علل الجسم الأصيلة ولكنها اضطراب ناتج عن صراع داخلي لا يشعر به العليل نفسه وأن تحت ضغط هذا الصراع تظهر عوارض هذا الداء، وهو انحراف مرضي.

تنتج إذن الاضطرابات النفسية عن كبت العواطف كما تنتج الحمى عن التهاب داخلي، وكما تهبط درجة حرارة المحموم عندما يجد الالتهاب منفذاً، كذلك تزول أعراض الهستيريا عندما يستطاع التفريج عن العواطف المكبوتة (والسير بها في السبل الطبيعية حيث تتركز القوى الشعورية منبسطة في حرية بعد أن كانت ملتوية أو بعبارة أخرى مخنوقة، وكان هذا الخنق سبباً لاستمرار عوارض الداء).

على أن الزميلين، (فرويد) و (بروير) انفصلا بعد لأي لأنهما كانا قد وصلا إلى نقطة لم يتفقا عليها. كان بروير طبيباً يخشى خطر الاعتماد المطلق على علم النفس ويصرف همه إلى وسائل معالجة الهستيريا والشفاء من أعراضها، بينما صار (فرويد) الذي اكتشف في مواهبه ميلاً إلى علم النفس مأخوذاً بالعوارض النفسية وبالأسرار التي يكشف عنها تبدل العواطف، وقد أثار فضوله أن هذه العواطف تكبت فتقوم مقامها عوارض جسمية فاستمر في البحث حتى بدا له أن هذه الظواهر تصح أساساً للتحليل النفسي، وأنها تفتح أبواب عالم جديد قائم على العقل غير الواعي، فوقف حياته منذ ذلك العهد على (درس المناطق غير الواعية في الحياة والنفس)، وكان ذلك أساساً لمذهبه الجديد الذي نفصله فيما يلي:

كان علماء النفس قبل (فرويد) يعرفون أن الطاقة النفسية لا تتلاشى كلها في عمل العقل الواعي، وأن هناك قوة أخرى خفية تؤثر في حياتنا وتفكيرنا، ولكنهم كانوا يجهلون هذه القوة ولا يحاولون إدخال العقل غير الواعي في محيط العلم والتجربة.

كان علم النفس أيامئذ، أي قبل سنة 1900، وهو العهد الذي قرر فيه (فرويد) نظرياته، لا يهتم بالأعراض النفسية إلا بقدر ما تدخل في دائرة الوعي الواضحة، فلا تدرس العاطفة إلا إذا ظهرت تماماً، ولا يعنى بالإرادة إلا إذا أملت مشيئتها فعلاً؛ وهكذا كان علم النفس يستبعد كل الظواهر النفسية التي لا تطفو على سطح الحياة الواعية في شكل بارز.

رأى (فرويد) أن العقل لا يعد مصدراً لكل عمل نفسي، وأن العقل غير الواعي ليس طبقة سفلى يختلف عن الأول ويخضع له؛ وقرر أن كل الأعمال النفسية ناتجة أولاً عن العقل غير الواعي، أو ما دعوه بالعربية العقل الباطن، وأن الأعمال التي نعيها لا تختلف عن الأولى ولا تتفوق عليها، لأن وعيها نتيجة عمل خارجي. ومثل هذا كمثل النور حين يضيء بعض الأشياء، فهذه الأشياء موجودة وجوداً مادياً، ولكن النور يجعلنا نراها فليس النور الذي أوجدها لأنها عالقة بالعالم الطبيعي سواء أكانت ظاهرة لتسليط النور عليها، أم مختفية تحت ستار الظلام حيث نستطيع أن نتعرف باللمس شكلها وحجمها.

وهكذا يجد (فرويد) أن (غير الواعي) لا يعني المجهول أو (غير المستطاع الوصول إليه)، كما كان يظن العلماء من قبل وقد اعتقدوا أن في النفس خزاناً مظلماً راكداً أو مستودعاً يحوي المنسيات والمختلفات، فتستمد الذاكرة منه بين وقت وآخر أشياء بمعاونة العقل الواعي. وكانوا يعتقدون كذلك أن عالم غير الواعي عاطل في نفسه لا عمل له ولا شأن له كأنه حياة انصرم عهدها وماض مدفون لا أثر له في عواطفنا الحاضرة.

أما فرويد، فقد رأى أن غير الواعي ليس من رواسب النفس بل هو مادتها الأولى ولكنه لا يصل إلى سطحها المستنار بالوعي غير جزء يسير منه. ولا يعني طي بعض أجزاءه أنه عقل ميت أو أن لا قوة له، لأنه في الحقيقة حي عامل يؤثر في تفكيرنا وعواطفنا، ولعله أقوى العوامل في حياتنا النفسية. وعليه فإنه يخطئ من لا يحسب حساب الإرادة غير الواعية في كل ما تعمله وتمليه، لأنه ينفي العنصر الدخيل في قوانا الداخلية.

ليست حياتنا مظهراً حراً للعقل الواعي يسيرها كما يشاء، وليس عالمنا ملكاً لإرادة واعية تسيطر عليه. إن من ظلمات العقل الباطن تنبع الأنوار التي تلقي ضوءها القوي على أعمالنا، وفي أعماق عالم الغرائز تتألف العواصف التي تسيطر علينا وتغير المجرى الطبيعي للحياة التي كان مقدراً لنا أن نعيشها.

تلتقي في هذه الأعماق المظلمة من طبقات النفس البشرية العواصف التي مرت بالوعي في حين من الزمان، ورغبات الطفولة المنسية التي يظن أنها دفنت إلى الأبد، والمخاوف والأهوال التي قيل أنها زالت ومحي أثرها، وهي جميعها تضطرب حيرى قلقة عطشى إلى الظهور بواسطة الأعصاب.

لا يعيش هذا جميعه في أعماق النفس فحسب، بل هناك أيضاً شهوات الأجيال التي انقرضت واحداً بعد واحد صعداً إلى عهد الهمجية، فتلتقي فيها الذاتية الهمجية بالذاتية المتحضرة وفجأة تتحرك الغرائز الأولية الجامحة فتمزق سجوف المدنية الشفافة وتبرز قوية عنيفة من العالم غير الواعي إلى العالم الواعي وتحاول أن تنال قسطها من العمل الحر، فيتولد صراع عنيف بين عاطفتنا الأخلاقية المتمدينة وبين غريزة اللذة الهمجية الدفينة فينا. ولا شك أن كل كلمة نتفوه بها، وكل حركة نأتيها، مظاهر لهذا الصراع الذي تحاول فيه العاطفة المتمدينة التغلب على غريزة اللذة، بل إن حياتنا النفسية كلها صراع دائم مؤثر بين الإرادة الواعية وغير الواعية، وبين العقل المسؤول والغريزة غير المسؤولة.

وقد شاء (فرويد) من هذا جميعه أن يفهم كل إنسان معنى اندفاعاته غير الواعية، لأنه ليس من المستطاع معرفة عواطف الإنسان إلا إذا أنيرت طبقات نفسه المظلمة، ولا يعرف أسباب اضطراباته إلا إذا انحدر إلى أعماق نفسه، وليست مهمة العالم النفساني أن يكشف للإنسان عما يعيه، كما أن الطبيب لا يستطيع أن يعالج المريض إذا جهل حقيقة عقله الباطن.

ولكن كيف السبيل إلى الوصول إلى أعماق النفس المجهولة؟ يعتقد (فرويد) أن العقل الباطن يعبر عن نفسه بإشارات ورموز، وأن على من يريد الكشف عن أسراه أن يتعلم لغته. وقد وضع (فرويد) أصول هذه اللغة على الطريقة التي جرى عليها علماء الآثار المصرية حين كشفوا عن اللغة الهيروغليفية. فقد أخذ يبحث إشارة بعد إشارة ورمزاً بعد رمز حتى انتهى إلى تدوين لغة العقل الباطن ووضع قواعدها. وهكذا استطاع أن يقيم لعلم النفس أسساً جديدة على طريقة علمية، وأن يكشف عن عالم مجهول.

(للبحث صلة)

صديق شيبوب