مجلة الرسالة/العدد 383/إلى. . .

مجلة الرسالة/العدد 383/إلى. . .

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 11 - 1940


للدكتور زكي مبارك

مولاتي

إليك أقدم نجوى القلب وحنين الروح، ثم أعتذر عنك إن سمحت، ففي رسالتك الكريمة ألفاظ تحتاج إلى اعتذار، فليس من الصحيح أني أصانع فلاناً وأتوسل إلى فلان، كما تتوهمين، وإنما أنا رجل مر العداوة حلو الوداد، ومن كان كذلك فهو خليق بأن يوغل في مخاشنة أعدائه حتى يوصم بالإفراط في القسوة والعنف، وأن يكثر من محاسنه أصدقائه حتى يتهم بالإسراف في الرفق واللين

ومع أني أنزه نفسي عن اختلاف المعايب لأعدائي فأنا أترفق في ابتداع المحاسن لأصدقائي، ولست من الذين يستبيحون إيذاء أصدقائهم باسم الحرص على منفعة المجتمع أو الصوالح القومية لأن الصداقة عندي مبدأ من المبادئ ورأي من الآراء وعقيدة من العقائد، وأنا أعد الاستهانة بحقوق الأصدقاء جريمة روحية تعرض القلب لعقاب الله ذي العزة والجبروت

أنا يا مولاتي أومن بأني مسئول أمام الله عن واجب التلطف مع أصدقائي، بل أنا مسئول عن وجوب الاعتقاد بأنهم منزهون عن المآثم والعيوب، فاحترسي من اتهامي بالتقرب والتزلف، فلله غَضَبات تنصبُّ على رءوس من يتهمون الأبرياء، حماك الله من التعرض لغضبات السماء!

وقد يقع أن أصوب سنان القلم إلى زميل أو صديق، ثم أظل مع ذلك سليم القلب، أمين الروح، لأن لي رأياً في البر بأصدقائي، وذلك الرأي يحتم الاهتمام بآثارهم الأدبية والعقلية من حين إلى حين، لأني أومن بأن النقد البريء من الغرض صورة جميلة من صور العطف والرفق والإعزاز، وأصدقائي يرون في هذا المسلك ما أراه، إلا أن ينحرفوا عن القصد فيروه من مذاهب الاستطالة والكبرياء، كالذي وقع من فلان وفلان وفلان. على أيامي في صحبتهم ومودتهم سلام الروح وتحية الفؤاد!

أما بعد فما هذا الذي تقولين؟

كنت مريضة منذ شهور طوال؟؟؟ لله الحمد وعليه الثناء، فما كان المرض أهول ما أخاف، وإنما كنت أخاف عليك بغي وعدوان العقوق!

كان قلبي في تلك الشهور يهتف بالشوق إلى الروح اللطيف الذي كان يتصدق على بالسؤال من وقت إلى وقت، ثم انقطع عني مع قدوم الصيف، كأن لم يكف ما حل بنا من المخاوف مع قدوم الصيف! كان قلبي يقول ويقول ويقول، لقد قال كل شيء، ولم يقل إنك مريضة، ولو أنه قال لقدمته فداء لأظرف فتاة فهمت أسرار قلبي وسرائر روحي

كنت يا مولاتي أرجو دائماً أن أصل من الهتاف بالحب إلى محصول نفيس من فهم ما في الوجود من تيارات خفية تصنع ما تصنع في وصل القلوب بالقلوب، والأرواح بالأرواح، بلا جهد ولا مشقة ولا عناء

فهل أستطيع القول بأن قلبك الغالي كان من نفائس ذلك المحصول؟

وأعيذك أن تظني - وبعض الظن حق - أني أستهدي لمحة جديدة من لمحات العطف، فأنا راض بأن تظلي محجوبة عني، مادام لك هوى في ذلك الحجاب، فهو على كل حال فرصة ثمينة لمن يزدهيها أن تقول: أتحداك أن تعرف من هي (ليلى من الليالي)

وأنا يا مولاتي أعرف، فلقلبي أرصاد وعيون يطلع بها على الذخائر التي تفرد بها وطني، الوطن العظيم الذي ينجب عرائس لها أرواح في مثل روحك العذب الجميل

وهل خفي عني منك شيء؟

في كل لفظة من رسائلك الكريمة عروس تتخطر وتميس في دلال وكبرياء، وفي كل نبرة من صوتك الرنان - ولم أسمعه إلا عن طريق التليفون - في كل نبرة من صوتك لحن ينقل قلبي برفق ولطف إلى أجواز الخلود

فإن كنت فتاة حقيقية، فأنت البشير بأمل معسول، وإن كنت فتاة خيالية، فأنت المطلع الجميل لأنشودة رائعة من وحي الخيال. . .

ولي غرض من هذا التشكيك، فما أحب أن تكوني أنت أنت، لئلا يعرف السفهاء باب التطاول على نجم السماء

إن الغرض الأصيل من نجوانا هو خلق روح جديد في الأدب الحديث، ولابد من أن نقول مثل هذا القول دفعاً لمكايد الرقباء، وهل يكون السياسيون أعقل منا وهم يستبيحون تسمية الأشياء بغير أسمائها لغرض مدفون؟

المهم هو أن تعرفي بالرغم من هذا الرياء المصنوع أن قلبي أبر وأعطف من جميع القلوب، ألم أقل ألف مرة إني أول من تقرب إلى الله بالرياء؟

وأنا مع ذلك أشهد بأني لم اكن أصدق أن في مصر فتاة ترجع إلى مقالات صدها عنها المرض في شهور طوال، ثم تفكر في تقسيمها إلى لوحات فنية مختلفة الظلال والألوان

ولكن ما السبب في أن أطرب لرأيك الجميل كل هذا الطرب؟

أيرجع السبب إلى أنه يزدهيني أن أشعر بأن هنالك قلوباً يسرها أن أكون في دنيا الصبابة آمر يطاع؟

أم يرجع السبب إلى أنها أول مرة أشعر فيها مرة أشعر فيها بقسوة الحرمان من نشوة الافتضاح؟

لو تعرفين أيتها الروح بعض ما أعرف لسرك أن أكون في الحب من أبطال الرياء!!

ولو فهمت بعض الفهم لما آذاك أن أكون فيما تحدثت عن زيارة المنصورة من المرائين

أسمعي، أيتها الروح الطروب

قيل وقيل: إن طيارات الأعداء قد تنتفع من النور الضئيل إذا أضيف بعضه إلى بعض، لأنه عندئذ يكون هالة نورانية تدل على المستور من المنازل والقصور

وأنا كذلك أبخل بالكتابة عن الحب في جميع الأحاديث، كما تقترحين، لأن ذلك لو وقع سينتفع به الحاقدون من أعداء الأدب الرفيع

ومن هذا الحديث تفهمين أني أعرف هويتك الصحيحة، فأنت طفلة بالتأكيد، لأنك تجهلين عواقب الافتضاح

أنا افتضحت وسلمت - إن كنت سلمت - لأني أقمت أدبي على أصول من الرمز والإيماء، فما هواك في أن أدل عليك بلا ترفق ولا استبقاء؟؟

ومن يسترنا إذا افتضحنا، يا ظلوم؟

ومن يستر الشمس إذا أطلت بوجهها على الوجود؟

الحب هو الشمس، والرياء هو السحاب، وللشمس قدرة سحارة على تمزيق أردية السحاب، فإن زعمت أنك مستورة بسحاب من فوقه ظلمات، فاعرفي يا شقية أن ظلام الحب يعقبه صباح، وسنلتقي ولو بعد حين، وسنذوق أذى الناس ولو بعد أزمان!! نحن أيتها الروح غرباء في هذا الوجود، وآية ذلك أني لا أستطيع التسليم عليك في صبيحة العيد، لأني - وفقاً للعرف - لا أمت إليك بغير الوشيجة الروحية، وهي وشيجة مجحودة الأصول والفروع عند أكثر الناس

فنم يعزي المحروم من طلعتك البهية وصوتك الرخيم في صبيحة العيد؟

ومن يواسي الهائم الحيران وهو من الهُيام والحيرة في شقاء وعناء؟

أَمَا والله لو تَجدين وجدي ... جمحتِ إليَّ خالعةَ العذارِ

وهل كانت الحياة إلا في الشعور بألا تعيش روح إلا مجذوبة إلى روح؟

ما هذا الذي أقول؟ وما الذي أجترح بهذا القول؟

أمن الصحيح أننا لا نجد السعادة الحق إلا إذا تلاقينا في صبيحة العيد وجهاً لوجه، وتصافحنا يداً بيد، وآذنا الناس بما نحن عليه من وداد وصفاء؟

أشعر يا مولاتي بأن موازين الأحكام الروحية قد اختلت بعض الاختلال، وإلا فما بالنا لا نصدق بالتصاق التام إلا إذا تصافحت الأيدي وتلاقت الوجوه؟

وماذا يصنع مثلى إذا أبتلى بهوى فتاة روحانية ترى الأنس في أن تلقاني في مقالاتي ومؤلفاتي، وأن ألقاها فيما تكتب إلي من رسائل معطرة بعبير الرفق والحنان؟

إننا غلبنا أسلافنا بكثرة الإنتاج الأدبي، ولكننا لم نصل بعدُ إلى مسابقتهم في ميدان الخلود، لأن أدبهم على قلته مطبوع بطابع الصدق؛ فقد كان فيهم من يقضي العمر وهو مجذوب إلى صورة لا تطمع في رؤيتها العيون؛ أما نحن فنيأس وننصرف لأول بادرة من بوادر المنع، ويكون من أثر ذلك أن تحرم أكبادنا قسوة اللوعة والاحتراق، وهي قسوة لطيفة محبوبة لا يتذوق عذوبتها غير الأديب والفنان

ومن يدري؟ فلعل لي غرضاً في العزلة يشبه غرضك في الاحتجاب، والإنسان حيوان لئيم. وهل أجد نفسي إلا حين أخلو إلى قلمي؟

وما سر تلك الخلوة؟ وما أخبارها؟

هي خلوة أقترب فيها من نفسي بعض الاقتراب، وأشعر بمواجهة اللهب المقدس الذي يمن به الله على أحد الأرواح في إحدى الأحايين، وأسمع صرير القلم بلهفة وشوق، لأن كتاباتي لها في أذني وقع، وفي قلبي وقع، وما خططت حرفاً إلا وأنا مشغوف بتصرف ما يتسامى إليه من ألحان وأغاريد، ولو شئت لقلت إن طاعة القلم هي التي تجذبني إليه، فهو لا يصدر إلا عن أمري ولا يصدح إلا بما أشاء، وهو لا يخطئ حين يخطئ إلا وهو مؤمن بأن أخطائي أصدق وأجمل من الحق ومن الصواب

فمن كان في صدره عتاب أو ملام لانصرافي عن محضره الأنيس فليذكر هذا القول، فأنا لا أصادق من يتوهم أني رجل يخطئ كما يصيب، وإنما أصادق من يعتقد اعتقادا جازماً بأن العيب حين يقع مني هو الغرة في هلال شوال. وهل كانت لي عيوب إلا في أوهام الذين أبنيهم ليهدموني؟ جزى الله بعض الزملاء (خير) الجزاء!

وماذا نصنع إذا التقينا يا شقية، يا شقية؟

سيهمك أن تعرفي الفرق بين زكي مبارك المؤلف وزكي مبارك المحدث (؟!)

وسيهمني أن أعرف الفرق بين الفتاة التي تكتب إلي من بعد والفتاة التي أراها من قرب (؟!)

وعندئذ آثم وتأثمين، لأن شريعة الحب تبغض هذا الفضول

ألم تقولي في إحدى رسائلك إني أصانع فلاناً وأتوسل إلى فلان؟

وأين كان التوسل والتصنع وقد صبرت على الحرمان من وجهك الجميل أكثر من عامين؟

وهل حُرمت منك عامين أو شهرين أو يومين أو ساعتين؟

الجواب عند ليلى، فاسأل ليلى، ليلى المريضة في العراق، اسأليها تخبرك أن صدها عني لم يكن إلا فناً من فنون الوصل، والصد المقصود ليس قطيعة، وإنما هو آية من آيات العطف، لا حرمني اللًه تعتب ليلاي هنا وليلاي هناك!

أين أنا مما أريد؟ وهل ترينني أفصحت بما أريد؟

ما نظرت في رسائلك إلي إلا زاغ بصري وطار صوابي؟

فهل من الحق أنك تخافين عواقب التصريح باسمك المكنون؟

أنا لم أجترح معك غير هفوة واحدة يوم استبحت تسجيل صورة من خطك البديع في الكتاب الذي تعرفين وقد نهيتني فانتهيت فما تحجبك عن المحب الذي (أدبتهُ عقوبة الإنشاء) فتاب وأناب؟ على أنني راضٍ عما صرنا إليه من الاكتفاء بمصافحة القلوب، أدام الله عليك نعمة العافية، وجعلك مصباحاً وهاجاً لبيتك الرفيع، ولا أراني فيك إلا ما أحب، يا زهرة الشباب في الوطن المحبوب، ويا أصدق شاهد على صحة ما قال قاسم أمين وهو يُهدي كتاب (المرأة الجديدة) إلى سعد زغلول

ثم ماذا؟ ثم كان العطف النبيل في منحى لقب (أمير البيان) فهل ترين هذا اللقب على سموه يستوجب الدخول في خصومات كالتي عاناها شوقي (أمير الشعراء)؟

أن لقب (أمير البيان) أضيف إلي أول مرة على سبيل السخرية في إحدى مجلات لبنان، ثم أضيف إلي مرات على سبيل الإنصاف في بعض الجرائد في مصر والعراق، فماذا ترين أن أصنع في حراسة هذا اللقب الرفيع؟

أنا أومن يا مولاتي بأنه لا يمكن لأحد أن يكون أكتب مني، إلا إذا استطاع أن يكون أصدق مني، ومن المستحيل أن يكون في الدنيا أحد أصدق مني، وهل هان الصدق حتى يكون لي فيه منافسون من أبناء الزمان؟

الصدق يحتاج إلى تضحيات عظيمة جداً، ومن تلك التضحيات ما تعرفين وما تجهلين، ولو علمت الغيب يا شقية لعرفت أن الصدق جرني إلى معاطب ومهالك لا يصبر على محرجاتها ومؤذياتها إلا من كان في مثل إيماني، وقد صبرت وصبرت حتى أتهمني الغافلون بالبلادة والجمود، لأنهم لم يعرفوا أن دنيا الأدب فيها مبادئ تروض أهلها على الترحيب بمكارة الظمأ والجوع، إن جاز القول بأن اللَه رضي لحظة واحدة بأن أحس مكارة الظمأ والجوع، ولن أموت إلا مقتولا بنعمة الترف في الطعام والشراب، فليغفر الله ما أدعية زوراً من الترحيب بكاره الظمأ والجوع، وهو الغفور التواب

وهل أنسي يا شقية أن الصدق حرمني نشوة الاستصباح بوجهك الوهاج؟

هل أنسى أن الصدق جعل لأعدائي حججاً دوامغ في مقاومة مؤلفاتي؟

الصدق في الدنيا غريب، وأنا في الدنيا غريب، والله هو المسئول عن رعاية الغرباء!

أما بعد، ثم أما بعد، فسأظل إلى الأبد عند ظنك الجميل، وسأغفر لك التطاول على من حين إلى حين لأني آخر من يتذوق تجاهل المحبوب لأقدار الحبيب

من نعم الله أن نعيش قلباً إلى قلب، لا جنباً إلى جنب، فما كان الهوى العذري إلا الروح المكنون في قصيدة الوجود

وإلى اللقاء يا شقية في عالم الفكر والوجدان

ولكن متى؟ متى؟ متى؟ وأنت تؤمنين بأن البخل أشرف خلائق الملاح!

قالوا عشقتَ فقلت كم من فتنة ... لم تغن فيها حكمة الحكماء

إن الذي خلق الملاحة لم يشأ ... إلا شقائي في الهوى وبلائي

زكي مبارك