مجلة الرسالة/العدد 384/القصص
مجلة الرسالة/العدد 384/القصص
الملازم ألبير
للأستاذ محمد محمد مصطفى
كان يحمل أملاً بساماً بين جنبيه، وبشراً طافحاً في عطفيه وهو ينهب الطريق إلى قريته. لا يحس مسغبة وبطنه طاو، ولا يشعر بظمأ وحلقه جاف. وبدا الطريق كئيباً موحشاً وسوق القرية خالية وعهده بها غاصة بالوافدين. . . لشد ما غيرت الحرب معالم الطريق فلا ظل وارف ولا طير غرد وهذه الحفر من فعل الطائرات، وتلك الغابة أحرقها الألمان فامتد لهيبها إلى الحقول وأهلك ما فيها من زرع وضرع
ورأى قسيس قريته مقبلاً عليه فخيل للفتى أن فاجعة ألمت به فهو يمشي وئيد الخطى أغبر الوجه، كأنما يحمل على كاهله وقر السنين. ونراه يدنو من الفتى فيعرفه ويسلم عليه ويسأله:
- أحقاً يا بني سقطت بروكسل وألقيتم السلاح؟
فسقطت دمعة كبيرة من عين الفتى وقال:
- كان ذلك حقاً يا أبتاه. . . وإلا فكيف تراني هنا. . . أمرنا الملك بإلقائه فأطعنا وما كان لنا أن نختار وآلات الألمان تفتك بنا فتك الوباء
- ليغفر الله لليوبولد زلته. . . وإلى أين يا بني؟
- إلى أمي وخطيبتي يا أبتاه. إلى قريبتي الحبيبة (فورنتيه)
- خير لك يا بني أن تعود. فقد مسحت القرية من خريطة الوجود
- ماذا. . .!
- أقول إن الجيش الألماني لم يترك حتى ما يدل عليها
- وأمي يا أبتاه!
فربت القسيس على كتف الفتى، فكاد يسقط لفرط ما دهاه، وقال له:
- يا لها من ليلة هائلة يا بني. تعال، اجلس هنا على حافة الطريق، فقد هدني من يومها الهم وتضافرت على جسمي الأمراض. . . وسكت قليلاً كأنما يستعيد ماضياً بعيداً ثم أردف: - كانت فرقة من الجيش البلجيكي تعسكر في غابة القرية حينما هاجمتها الطائرات وأشعلت فيها ناراً أمتد لهيبها إلى عنان السماء، فبدت القرية على وجهها هدفاً ممتازاً دكته الطائرات. . .
وضرب الفتى في الطريق إلى بروكسل تنوء بحمله ساقاه وتخذله قوته، فيسقط في الطريق
- أماه. . . انظري! إنه ضابط من فرق القناصة يحتضر
- ماء يا فلورندا من النبع الرقيب
ويفيق الفتى ليرى رأسه على حجر امرأة فيشكرها، وتعاونه الأم وابنتها على المسير إلى كوخهما القريب
- تفضل فاجلس على هذه الحشية فلم يعد لنا بيت ولا أثاث
وبدا على وجه الفتى آيات من الألم الممض والحزن العميق. ولما قدمت له فلورندا شيئاً من الحساء، أحس بالدفء والراحة واستطاع أن يتكلم. . .
وانتشرت نفس الأم عليه رقة ورحمة، وأحبته الفتاة في صمت. ولم يأبه بذلك الفتى، ولم يجد له فراغاً بقلبه المعذب المفؤود
وجمعتهم نكبتهم المشتركة في قريتهم وأعزائهم فكان جل حديثهم يدور حول دمار بلادهم. وتصعب معرفة من كان منهم أشد سخطاً على الألمان، ولكن الفتى كان أكثرهم جنوحاً للصمت والتفكير العميق
. . . ويوماً قال ألبير:
- ليست فلاحة الأرض صناعة ضباط القناصة ولا يليق بي وقد رزئ وطني باحتلال النازي أن أكون هنا
- فأين يجب أن تكون يا ألبير؟
- في العاصمة أو حولها ليشعر الألمان أننا لم نستكن لحكمهم، وأن في بلجيكا رجالاً
فأدركت الأم مرماه وقالت: إنك تلقى بنفسك في أوار الجحيم
قال: لأشارك أمي ميتتها وقريتي محنتها
وعبثاً حاولت الأم ثني عزمه. . .
أما الفتاة فقد بكت قائلة: - أرجو أن تبقى هنا إلى جانبي أعوضك من حناني ما فقدته من حنان الأم. . . ألا تسمع. . .؟ إنني أرجو. . .
- أرجو أن تسكتي فقلبي عنك في شغل. . .
صادفت دعوت ألبير هوى في نفوس المنكوبين المغامرين الذين سرحوا من فرقته، وكان عملهم منظماً شأن رجال الجيش، فبعضهم لنسف الكباري، والبعض الآخر لقطع الجسور، وهؤلاء للسطو ليلاً على المخافر الصغيرة، والاستيلاء على الأسلحة والذخيرة، وأولئك لاقتناص البارزين من رجال الحملة الألمانية وغير ذلك من الأعمال التي سببت للمحتلين شتى المتاعب
وشاع أسم ألبير في وطنه وأكبر مواطنوه ووضع الألمان جائزة لمن يأتي به حياً أو ميتاً
وكانت فلورندا تتلهف شوقاً لأخباره وقلبها الطاهر الغض يذوب إشفاقاً عليه، وكان جل مناها أن تراه فتتبعه رضي أم كره وتعنى به، فمن يطبخ له يطبخ له ويوقد له النار ويرتق له الصدار. . . كانت غارقة في الحب مسبوهة اللب، وكأنما كان ألبير يضفي على الحقل بهاء والدوح رواء والسماء صفاء، فلما ذهب أضحى الكون موحشاً كئيباً والجو خانقاً والشمس مصفرة حزينة كأنما تشاركها الألم وتقاسمها الشجون
وتأسى الأم لذهول ابنتها وإغراقها في حب رجل أهدر دمه. . . ولن يعود، فتقول:
- وهبك ملأت الأرض أنيناً، أفتظنينه يسمعك يا فلورندا
وتحطمها كلمات الأم فهو حقاً رجل هالك كان في حياتها كل شيء فلما ذهب خسرت كل شيء ولكنها لا تطرف ولا تجيب وتلوي عنانها إلى الحقل تطوف بمجالسه، وتلثم آثاره، حتى إذا ما ألقى الليل غواشيه قفلت عائدة وفي صدرها سعير من الوجد يذيب الحشا ويرمض الجوانح
ولم يذكرها ألبير فقد ملكت عليه ثورته لوطنه كل جارحة فيه، وكان ينفث من حميته الهائلة وفكره الجبار ناراً تدفع بزملائه إلى أهول الأخطار. فإذا انكفأت إليه ذكرياته وألح عليه ماضيه بدت له فلورندا شبحاً باهتاً يظهر ويختفي كلما سلب من حياته الجديدة ساعة فراغ
وضجت قيادة جيش الاحتلال من فعاله فشددوا الرقابة وبثوا في مظان وجوده العيون ويوماً شاع في العاصمة أن قطاراً قادماً يحمل زائراً عظيما فسرى بين الناس أن هتلر هو راكب القطار
وكيفما كان الراكب فقد عزم ألبير على أن يفجع الألمان فيه.
وكان بارع التدبير حار الحماسة لتدمير القطار
ووقف على شاطئ خياله ليرى هتلر تبعثره الألغام وإذا الدنيا كلها بين يديه تسأله أي جزاء يختار. . . حقاً. . . ماذا يختار؟
قال لنفسه: (أأكون ملكا. . . ولم لا. وأنا منقذ العالم من الدمار؟)
ودخل من خياله إلى قصره الملكي الموشى باليانع من الزهور الملفوف بالباسق من الأشجار تشدو عليها الطيور، فإذا العرش ممرد منيف والفراش وثير، وإذا المائدة تزخر بألوان من أشهى الأشربة وأطيب الآكال فيأكل ويروى ويسلم جسده لأريكة من فاخر الرياش
ويطير بأحلامه صفير القطار. . . إن نوره القاتم يشق غياهب الظلام وهو يقبل مسرعاً إلى حتفه المحتوم - فتهيأ ألبير للعمل العظيم. . . قال: القطار الآن فوق المنطقة الملغومة. فلأشعل الفتيل
وي. . . أن الألغام لا تنفجر. . . أترى رفعها خائن أم أخطأ في تركيبها زملائي المفاليك
وسمر ألبير في مكانه ليرى بغتة صرح آماله ينهار بينما يجري القطار على قضبانه متطامناً سلس القياد
وأخذت تنتاب رأسه فورات من اليأس والحزن العميق. فجلس على أنقاض حلمه وقد كست عينيه غشاوة حجبت عن ناظره المرئيات. وسمع قهقهة عالية فريع قلبه ونظر فإذا جنود تحيط به كأنما قد تثاءبت عنهم الأرض
- لقد أجهدتنا كثيراً يا ألبير
قالها قائد القوة في تهكم وتشف
وأسقط في يد ألبير ولكن روعه أفرخ حينما ذكر أنه أدى لوطنه رسالته وإن كانت لم تتم، وكان رافع الرأس شامخ الأنف وهو يمشي بينهم إلى حيث لا يعود
وطلعت الصحف بنبأ القبض على الثائر ألبير وقرار إعدامه في ساحة عامة ليكون عبرة لمواطنيه
وزلزلت فلورندا ومادت برأسها الدنيا واحلولكت مرائيها
وضربت في الطريق إلى بروكسل تتقصص أثره وتتسقط خبره، بينما يصهرها الأسى ويفري أحشاءها العذاب، وشاطرتها الطبيعة الألم، فاربد وجه الجو وهطل المطر غزيراً كأنما فتحت ميازيب السماء
وكنت ترى في شوارع بروكسل فتاة ذاهبة العقل تمشي الهوينى مرتهكة الأوصال والناس يقتحمونها بأنظارهم مشفقين
ولم يجد قائد حامية بروكسل في مظهر الفتاة القروية ريبة فسمح لها بوداع (شقيقها) ألبير
ومشت فلورندا في ممرات السجن الرهيب تتلمس سبيلها كالعميان، ونزلت إلى قبو رطب تنفذ أشعة ضئيلة من كوة فيه، وكان ألبير يقبع هادئاً في ركن منه. . . وتبينته بعد لأي فرمت نفسها على صدره، وطوقت عنقه وراحت تقبله:
- أواه يا ألبير. . . ألا تنبئي. . . أنا الوالهة فلوراندا
وأرتج على ألبير. . . وشدهته زيارتها الطائرة وفاض صدره بالسعادة التي أقبلت عليه في غمرة همه. . . أي مفاجأة هذه. . . أو كانت تضمر له هذا الوجد وهو عنها لاه بالفتك بالألمان؟ قال:
- ولكن ذلك يحببني في الحياة يا فلورندا وقد نفضت يدي منها
ويغص فم الفتاة بالأنين والزفرات، وتخرج كلماتها كحشرجة المحتضر؛ وقد بح صوتها فلم يدرك منه ألبير إلا أنها مريضة مدنفة، وأن نبأ إعدامه دمرها فهي راغبة عن الحياة. . . قالت:
- إنني جد ظمأى يا ألبير
ولما قام ليأتي لها بماء أخرجت من ثنية في ذيل ثوبها ورقة بها مسحوق قاتم الزرقة، وفي غفلته وضعته في الكوب
وداعاً يا ألبير. . . والى اللقاء. . . في أطباق السماء. وبدأت تتسلل روحها وتهمد أنفاسها
وبدت في غفوتها الأدبية كطائر وسنان، وكأنما أزال الموت ما رسمه الهم على محياها اللاغب الوهنان؛ فأشرق وجهها وانتشرت عليه علائم الاطمئنان وحدق فيها ألبير وحدثه نفسه:
- لقد تجرعت سكرة الموت من هذا الكوب ما في ذلك ريب، وفيه بقية تذهب بي إليها وتنقذني من إصر الألمان. . . وصبها في جوفه!
وانبعث من خلال أوهامه شبح فلورندا يناديه:
- تعال. . . تعال إليّ يا ألبير
فأجابها وهو يلفظ نفسه الأخير:
- هاأنذا قادم على أثرك يا فلورندا. . . ألا ترين جسدي يدب فيه الفناء؟!
محمد محمد مصطفى
بإدارة مدرسة البوليس