مجلة الرسالة/العدد 386/إنجلترا هي المثل

مجلة الرسالة/العدد 386/إنجلترا هي المثل

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 11 - 1940


قال شوقي: (وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت). . . فقال تشرشل: صدق وإنجلترا هي المثل! وكأنه حين قال: (فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا). . . قال بيتان: صدق وفرنسا هي المثل!

ولكن الذي يضع القاعدة بالقول لا يستوي هو ومن يطبقها بالفعل؛ وشتان بين من يطبقها على وجه السلب بين من يطبقها على وجه الإيجاب!

إن تحريك اللسان في الفم أسهل على المرء من تقليب اليد في العمل. وإن رجل التجربة والخبرة، أصلح للحياة من رجل النظر والفكرة. وإن تنشئة الفرد على حب الفضيلة أدخل في إمكان المربي من بناء الأمة على أساس الخلق. . . ذلك لأن تهذيب النفس عمل البيئة والقدوة والعادة، وتهذيب الجنس أثر الانتخاب الطبيعي والدهر الطويل. ومن الكثير الغالب أن تجد واحداً تصلح فيه كل عريزة، ولكن من القليل النادر أن تجد فيه كل واحد. ولعلك لا تجد في عمر الإنسانية شعباً سلم جمعه بسلامة آحاده غير الشعب العربي في الماضي والشعب الإنجليزي في الحاضر. ومرجع ذلك فيما نظن إلى انعزال العرب في الصحراء، وانعزال الإنجليز في البحر، والعزلة في مثل هذه الحال تنفي خبث الاختلاط عن مزايا العنصر الأصيلة فتنضج وتخلص كما ينضج الدر اليتم في قاع البحر، ويخلص الحجر الكريم في جوف الأرض. فلما خرج العرب للفتح، ثم خرج الإنجليز للاستعمار، ضيع بنو الصحراء خصيصتهم لأنهم انماعوا في الشعوب الأخرى بالمصاهرة، وحفظ بنو الماء مزيتهم لأنهم انقبضوا عن الناس وترفعوا عن الأجناس فظلوا في عزلة

كان الناس يقولون أن إنجلترا أدركتها أعراض الهرم من دوام النعيم وطول السلامة، ويعجبون مع ذلك أن تملك سدس العالم وتستمكن فيه، والإنكليز في كل أرض قله، ووسائلهم في تملق القلوب ومداهنة النفوس قاصره، والتمويه والخداع والاستغفال والمصادفة والحظ عوامل قد تساعد على الغلب، ولكن فعلها لا يجوز على كل الناس ولا يدوم على طول الزمن. فلم يبق إلا أن يكون في هذا الشعب العجيب سر من أسرار الطبيعة تنبجس عنه حياته الدفاقه الخلاقة كما تنبجس الحيوات الدنيوية بمظاهرها وآثارها عن الروح المجهول

فلما أخذت العالم هذه الرجفة النازية ووقعت إنجلترا بقوتها وسطوتها وثروتها ووجودها في سمير المحنه، استعلن في حلك الخطوب ذلك السر فإذا هو الخلق، ولا شيء غير الخلق.

ولم تسفر الأيام عن أصدق من هذا المثل الإنجليزي الحاضر لقدرة الخلق العظيم على حياطة الدولة ووقاية الأمة وخلق المعجزة التي تحيل القنوط أملاً والضعف قوه

كانت أوربا في العام المنصرم من طول ما هولت عليها الهتلرية الباغية قد وقفت صفوفاً متلاصقة متلاحقة من الشباب والحديد والنار ترابط على الحدود لشياطين الصليب الآعقف؛ وكانت إنكلترا من وراء البحر تمدها بالمال والرجال والأسلحة لا تدخر لجزرها شيئاً منها، ولا تكاد تخطر على بالها أن العدو سيجد من بين هذه الصفوف المرصوصة ثغره يقتحمها ليرميها عنها. ولكن هتلر هجم على أخلاق أوربا قبل أن يهجم على جيوشها؛ فهتك أستار الدول بالجواسيس، وبلبل عقائد الناس بالدعاية، وشرى ضمائر الساسة بالمنى، وبث في دخيلة كل أمه دعاة الهزيمة وسماسرة النفاق يزيفون الوطنية في كل نفس، ويميتون الحميه في كل رأس، حتى تركوا القوم تماثيل من غير خلق ولا روح؛ ثم أرسلوا على هياكلهم النخرة الجوفاء الدبابات كما ترسل على هشيم الحنطة آلة الحصاد. فلم تك إلا أيام تضيق عن فناء القطيع بالوباء السريع، حتى استكان الضعيف، واستخذى القوي، وانبسط ظلام النازية، على ممالك كانت بالأمس مسارح للسلطان والمجد، فأصبحت اليوم سجوناً لأحياء وقبوراً للموتى، ووقفت إنجلترا وحدها أمام أوربا الصارعة المصروعة، وقد فرغ لها الطاغيتان وسلطا عليها في الغرب والشرق، وفي الجو والبحر، كل ما ادخراه وارصداه من آلات الدمار والبوار في بضع سنين

كانت خطتها في الدفاع قائمة في أكثر ميادين البر على عاتق فرنسا؛ فلما وهى هذا العاتق ونحل سقطت هذه الخطة على خلاء. فكانت على إنجلترا بعد نكبة جيشها في الشمال وانهيار حليفتها المفاجئ أن تجدد العدة وتسد الخلل وتدفع الموت الهاجم على أرضها ونيلها من الجهات الأربع؛ وكل ذلك كان يقتضي أن يكون لها في كل أرض جيش، وفي كل بحر أسطول، وفي كل سماء أسراب. فلو أنها استجابت لهذه الجدود العواثر ونكلت نكول فرنسا لما خالف ذلك منطق الحوادث

ولكن هنا ظهرت المعجزة، وما المعجزة إلا خلق هذا الشعب المختار! تجرد هذا الشعب عن فرديته، ونزل عن حريته وثروته، وجعل مُلكه وجهده وروحه في يد تشرشل ينفقها حيث يشاء وكيف يشاء؛ وانكب هو على العمل الدائب ليل نهار، لا تعوقه الأخطار ولا تضعضعه الكوارث، حتى رأيناه في أقل من خمسة أشهر يفسد على الفوهرر خطة الغزو، ويفوت على الدتشى فرصة الهجوم، ويشد على أنفاس أوربا بالحصر، ويلجئ الطغاة العتاة إلى استجداء المعونة من الأقل، وابتغاء النصرة من الأذل! ذلك ولم نسمع خلال هذا الصراع الجبار وذلك الخطر الموئس أن جنديا عبث، أو قائداً خان، أو وزيرأً غش، أو حزباً نفس على حزب ما نسميه نحن نعمه الحكم

إن الله أمد الإنجليز بجيوش لا تقهر من الصدق والصبر والثقة بالنفس والإيمان بالله والحرية والديمقراطية والإمبراطورية

فيا ليتنا حين حالفناهم على السياسة والدفاع، حالفناهم كذلك على الآداب والخلق! لقد كنا بأخلاق القرآن قدوة للأقوياء، فأصبحنا وا أسفاه بضلالات الأذهان عبرة للضعفاء!

أحمد حسن الزيات