مجلة الرسالة/العدد 386/يا عروسي. . . في قبرها
مجلة الرسالة/العدد 386/يا عروسي. . . في قبرها
(لقد تعجلنا يوم الزفاف. . وتعجل القدر فزفها إلى قبرها. . .
ولم تلبس ثوب عرسها)
للأستاذ علي متولي السيد
. . . منذ أربعة شهور تحقق الحلم الذي أملناه. . . ودنت أو كادت - تلك الأماني التي طالما ترقبناها. . . ووضعت يد في يد. . . وسأل سائل وأجاب مجيب. . . وأخذنا الميثاق. . . وتعاقدنا أمام الله والناس. . . ثم أنفض المجلس وارفض السامر وخلا المكان إلا مني وإلا منك. . . ونظرات الحياء ترمقيني بها في سحر وفتنة. . . والابتسامة البنفسجية الرائعة تحدثيني بها في خجل ومتعة. . . رويداً رويداً ترفع الكلفة بيننا. . . فتنطلقين تحدثيني وأنطلق. . . ونظل زمناً من الزمن بعيدين عن العالم وما فيه. . . الدنيا تبكي ونحن نضحك والعام كله يقف على أسنة الحراب وألسنة اللهب ونحن في نشوة الفرح نرشف عذب الهوى وفي غمرة الحب نسقي بكأس الأمل ونهزج سوياً بأغرودة السعادة. . . وطيور السماء فوقنا تبارك بالنشيد الباسم حبنا الموفق. . . وهمسات الأهل والصحب حولنا تؤيد بالدعاء الصادق عهدنا المقدس. . . ونحن في حلم الهناء نتعجل يوم الهناء. . . فننطلق معاً إلى القاهرة نعد معدات العرس. . . ونختلف ونتفق. . . وأوثر اللون الأحمر وتفضلين اللون الأخضر، ونفتن في اختيار الأثاث نقلبه على شتى وجوهه ونطرق من أجله كل معرض نزاوج بين ذوق وذوق. . . ونرسم معاً - في أنفسنا - حجرة النوم وحجرة الاستقبال وموضع هذا في هذه ومكان هذا في تلك، ثم نعود وقد أعددنا كل شيء ولم تبق إلا أيام قليلة نسعد بعدها بالزواج الموفق الهنيء. . .
. . . ثم تدفعني بعض أسباب الحياة لأسافر سفراً قصيراً، وأعودك بعد العودة، وقد حملت لك باقة من زهرات البنفسج التي تحبين وتعشقين. . . فأجدك طريحة الفراش، وأنظرك فأراك ساهمة واجمة، وأتأمل عينيك فأرى فيهما دمعة حائرة تترجرج. . . وأسألك ما بك؟ فتشكين إلى بذات الجنب. . . وأهدئ جزعك، وأنهنه شكواك وأكتم في نفسي الألم البالغ، وأتعمل الهدوء لأشعرك بأنها نكسة خفيفة. . . ونذهب إلى الطبيب ليفحصك. . . فيهون الأمر على نفسك وعلى نفسي. ويعطيك دواء حسبنا فيه الشفاء. . . وخلناه جميعاً سحابة صيف سريعاً تنكشف. ولكن المرض يلح، ولكن العلة تزداد. . . ولكن اللون الأحمر الطبيعي الجميل الذي يزين وجهك يتحول إلى صفرة باهتة فيها معنى الموت. . . ولكن عينيك النجلاوين يشوبهما تلون غريب يشعر الناظر إليه بمعنى الفناء
. . . وأقضي الليل مسهداً إلى جانبك مؤرق القلب والفكر مفتوح العين أرمق عينيك الساجيتين فأسمع من نظرتهما معنى الذبول، وأرنو إلى فمك النائم فيهزني صمته بنشيد الموت. وأجدك تحملين يدك بجهد وتمدينها إلي متثاقلة لأضعها بين يدي كما كنت تفعلين. . . وكأنك تطلبين مني اليوم عهداً جديداً على الوفاء. . .
ثم. . . ثم. . . ثم ما زالت يدك بين يدي تزلزلني شهقتك الطويلة وتسلمين الروح لبارئها. . . وتنتقلين سريعا ً - ونحن معاً - من دار إلى دار. . .
يا عروساً لم تلبس ثوب عرسها. . .
إنها دارك. . . وقد زيناها معاً. . . فهي محرمة على غيرك. . . وسأقضي ما بقي من العمر فيها وحدي. . . أرتل - خاشعاً - في محرابها صلوات الهوى الطاهر اعف والحب الملائكي النبيل
هاهو ذا رسمك يا عروسي يطالعني صباح مساء وكأنك أنبته عنك ليكون شاهداً على إن نكثت بالعهد ولعبت بالميثاق. . .
هاهو ذا رسمك يا حبيبتي معي دائماً. . . لن أقبله. . . لن أضمه إلى صدري. . . وكيف؟! وقد تعاهدنا على أن نعيش في الحرمان حتى يوم الزفاف، وضننا على أنفسنا حتى بالقبل البريئة. . . وكنا يهود الهوى فالخزائن ملآى. . . وما بها حلال لنا، والرقباء غفل ولكننا كنا البخلاء تدخر كل لذة وكل متعة ليوم الزفاف. . . يوم نعب كما نشاء في عش الزوجية الجميل. . .
يا عروسي. . . في سمائها!
لقد شئنا. . . وشاء الله. . . فما نملك من أمرنا شيئاً، وإن رحلتك إلى هنا ختامها. وأما شوطي فما زال فيه بقية. . . سأقطعها وفياً لعهدك صائناً حبك. . . مقدساً ذكرك. . . ولن أكون في هذا إلا راداً لك بعض حقك، مؤدياً لك يسيراً من دينك. . .
يا عروساً. . . زفت إلى قبرها. . .!
لقد كنا نتعجل الزفاف، نحشى أن يجرفنا تيار الحرب فنذهب في غباره. . . وكم أعددنا الهدايا الرقيقة الضاحكة نفاجئ بها صحبنا تعجلنا يا عزيزتي. . . وتعجل القدر. . . فاختطفك الحمام وأثواب العرس ما زالت تحاك. ووسائد الفراش ما زالت تنجد. وضمك القبر قبل أن يضمك الحبيب، وأعلام الفرح الخضراء نكسناها في يومك الرهيب. . . والبطاقات الوردية الجميلة التي أعددناها للمدعوين جللناها بالسواد، ونعياك بها للمشيعين والمعزين
يا عروسي. . . في جوار ربها. . .!
وداعاً. . . وداعاً. . . إلى لقاء. . .
علي متولي السيد