مجلة الرسالة/العدد 388/القصص

مجلة الرسالة/العدد 388/القَصَصُ

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 12 - 1940



(سانياسي) أو الزاهد

مسرحية رمزية رائعة لشاعر الهند طاغور

ترجمة الأستاذ فخري شهاب السعيدي

- 1 -

((سانياسي) خارج الكهف)

- إني لا أميز بين النُّهُر والليالي، ولا أعرف فارقاً بين الأشهر والسنين، لأن تيار الزمن الذي يتراقص العالم على متن أمواجه تراقص العُصَافةِ والعساليج ساكن لدي. إني في هذا الكهف المظلم وحيد، مغمور في نفسي؛ والليل الأبديّ ساجٍ كبحيرة في جبل خائفة من عمق ذاتها؛ والماء يرشح ويَنْقُطُ من الشقوق، والضفادع القديمة سابحة في البُركِ. فأجلس مترنماً بترانيم العَدم؛ وحدود الكون تتناءى خطّاً إثر خط. أما النجوم فإنها تنطفئ انطفاءَ الشرر المتطاير من سندان الزمن؛ وأما سروري فهو سرورُ الإله (شيفا) الذي يستيقظ بعد دهور يقضّيها في حلمه فيجد نفسه وحيداً في قلب الفناء الذي لا حَدّ له. إني حرّ طليق. إني أنا هو الأحد الصمد العظيم. إني إذ كنتُ عبدَكِ يا أيتها الطبيعة: سَلْطْتِ قلبي على ذاته، وجعلتِهِ يثير حرب الانتحار الشعواءَ في عالمه. وقد أثارتْ فيّ سَورْة الغضب تلك الشهوات التي لا غاية لها غير نهش ذاتها والتهام كل ما يقترب من أفواهها، فركضْتُ ركضَ المجانين في مطاردة ظلي. لقد سقتِني بأسواط ملذاتكِ الخاطفةِ إلى خلاء الشبع، ومشاعر الجوع، وقادَتني دوماً مغرياتُكِ إلى القحط الذي لا انتهاء له حيث انقلب الطعام إلى تراب واستحال الشراب إلى بخار!

وإلى الوقت الذي كان فيه عالمي مُبقعاً بالدموع والرماد أقسمتُ بالانتقام منك يا أيتها السيدة التي لا حَدَّ لمظهرها وتنكّرها. لقد لذْتُ بالظلام، معقل اللامتناهى، وكافحتُ النور الخادع يوماً فيوماً إلى أن فقد جميع سلاحه وارتمى منخذلاً عند قدمي. والآن، وأنا منعتق من رق الخوف والشهوات؛ الآن، وقد زال الغمام وانبعث من عاقلتي نور الطهارة والذكاء. فَلأخرج إلى عالم الأكاذيب ولأجلس على قلبه غير ملموس وبلا حراك.

- 2 -

((سانياسي) على الطريق)

- ما أصغر هذه الأرض وما أضيقها، وما أشد هذه الآفاق ثباتاً في تطويقها! إن مرأى الشجرِ والدور وجميع الأشياء ليضغط على عيني ضغطاً. والنور! إنه مثل قفص في حبسه ظلام الأبدية عن الدخول. والساعات! إنها لتصرخ وتتواثب داخل حواجزها كأنها الطيور إذ تُحبس. ولكن ما لهؤلاء الرجال الصاخبين ينطلقون راكضين ولأي مقصد يِسعون؟ لكأنهم خائفون من أن يضيعوا شيئاً لا تستطيع أيديهم بلوغه!

(تمر زحمة من الناس)

(يدخل شيخ القرية وامرأتان)

المرأة الأولى: يا لله إنك لتضحكني

المرأة الثانية: ولكن من قال إنك عجوز؟

شيخ القرية: إن بعض الحمقى يحكمون على الناس من مظاهرهم.

المرأة الأولى: وا حسرتاه! لقد كنا نرقب مظهرك منذ عهد حداثتنا، وهو باق على ما عهدناه لم يتغير في خلال هذه السنين

شيخ القرية: مثل شمس الضحى

المرأة الأولى: أجل مثل الشمس في رائعة النهار

شيخ القرية: أيتها السيدتان، إن في ذوقكما ميلاً إلى الصرامة في النقد، إنكما تعنيان بتوافه الأمور

المرأة الثانية: دعك من هذا اللغو يا (أناكا) ولنسرع في العودة إلى البيت وإلا ثار ثائر زوجي

المرأة الأولى: أستودعك الله يا سيدي. وأرجو أن تحكم علينا من ظواهرنا فلن نعير ذلك اهتماماً

شيخ القرية: ذلك لأنه لا ذات حقيقية لكما يمكن التحدث عنها غير هذا الظاهر! (يخرجون)

(يدخل ثلاثة قرويون)

القروي الأول: أيشتمني الوغد؟ لَيقْرعنّ سنّ الندم إذا

القروي الثاني: يجب أن يلقن الدرس بليغاً

القروي الأول: الدرس الذي سيتبعه إلى الرمس

القروي الثالث: أجل يا أخي، فلا تنثن عزيمتك ولا تترك له الفرصة السانحة

القروي الثاني: لقد أخذه الغرور والتعاظم

القروي الأول: تعاظم ينتهي به إلى الانفجار

القروي الثالث: إذا نجحت أجنحة النمل كان في ذلك هلاكه

القروي الثاني: وهل أحكمتم لأنفسكم منهاجاً؟

القروي الأول: لا منهجاً واحداً فحسب، بل مئات المناهج سأقلب عالي بيته سافله بمحراثي، وسأطوفه على حمار في المدينة مشهراً به صابغاً وجهه بالصباغ الأبيض والأسود، وسأثير غضب العالم كله عليه و. . .

(ينصرفون)

(يدخل تلميذان)

التلميذ الأول: إني واثق بأن الغلبة في المناظرة إنما كانت للأستاذ (مدهب)

التلميذ الثاني: كلا، بل الأستاذ (جاناردان) هو الذي فاز

الأول: لقد ثبت الأستاذ مدهب على رأيه حتى النهاية وقال بأن الرقة بنت الخشونة

الثاني: ولكن الأستاذ جاناردان قد أتى بالبرهان القاطع على أن الرقة هي أصل الخشونة

الأول: يستحيل ذلك

الثاني: بل هذا أمر واضح كالنهار

الأول: إنما أصل البذور الشجرة

الثاني: بل البذرة هي أصل الشجرة

الأول: ما قولك يا سانياسي؟ أي هذا هو الحق؟ أي هذين الأصل: الرقة أم الخشونة؟

سانياسي: لا هذه ولا تلك الثاني: لا هذه ولا تلك؟ إن في هذا الكفاية

سانياسي: ما الأصل إلا النهاية، وما النهاية غير الأصل. إنها حلقة، وإن من جهلكما ينشأ الخلاف بين الرقة والخشونة.

الأول: الأمر واضح جداً. وما أرى في هذا غير قول أستاذي

الثاني: بل إن هذا لينطبق على تعاليم أستاذي أنا بغير شك

(ينصرفان)

سانياسي: هذه الطيور لواقط كلم، وما سعادتها إلا بالتقاط اللغو الملتوي الذي تملأ به أفواهها.

(تدخل بائعتا زهر)

تغنيان: (تمر الساعات بطيئة؛

وتذوى الأزهار المتفتحة في النور

فتسقط في الظل

وقد خيل إلي أنني سأضفر إكليلاً

في سجسج الصباح لمحبوبي؛

ولكن الصبح يجر ذيوله متثاقلاً،

والزهر على غصونه لا يجد قاطفاً،

لأن حبيب النفس مفقود. . .)

أحد السابلة: ولم هذا الأسف يا عزيزتي؟ إذا ما تهيأت الأكاليل فالأعناق حينئذ متيسرة

إحدى الفتاتين: وكذلك الأرْسان!

الفتاة الثانية: إنك لشجاع مالك دنوت مني هذا الدنو؟!

الرجل: يا فتاتي، شجارك هذا لغير ما داع، فبيني وبينك ما يتسع لمرور فيل.

الفتاة الثانية: أفي الحق هذا؟ أمخوفة أنا بهذا القدر؟ إني ما كنت لآكلكَ لو أنك دنوت مني

(يخرجون ضاحكين)

(يجيء سائل)

السائل: أيها السادة الرحماء، اعطفوا، فلعل الله أن يكتب لكم التوفيق. أعطوني يسيراً من خيركم الوفير.

(يجيء جندي)

الجندي: هيا ابتعد من هنا، أما ترى ابن الوزير قادماً؟

(يخرجان)

سانياسي: هذه ظاهرة النهار. إن الشمس لتستطع وتتوهج، والسماء كأنها طاس من النحاس منكفئة تتقد، وهذه الأرض تزفر بأنفاس حرار فتتراقص الرمال المائجة. كم من مشاهد هذا الإنسان رأيت فهل في استطاعتي أن أتراجع ثانية في صغر هذه المخلوقات لأكون منها؟ كلا، بل أنا طليق لا يعوقني في هذا الكون شيء. إني إنما أعيش في قفر موحش!

(تدخل (فاسنتي) الفتاة وامرأة)

المرأة: ألست ابنة (رافو) يا فتاة؟ عليك أن تبتعدي عن هذه الطريق، ألا تعلمين بأنها مؤدية إلى الهيكل؟

فاسنتي: إني يا سيدتي على الطوار الأبعد منها

المرأة: حسبت أن قد مسك ثوبي. إني حاملة هداياي إلى الآلهة، وأرجو ألا تكون نجِّست

فاسنتي: أؤكد لك أن ثوبك لم يمسسني (تذهب المرأة) إني (فاسنتي) ابنة (رافوا) فهل أدنو منك يا أبت؟

سانياسي: ولم لا يا طفلتي؟

فاسنتي: لأني رجس كما يدعونني؟

سانياسي: ولكنهم جميعاً دنسون. إنهم يتمرغون في تراب الوجود؛ وليس من نقيّ غير من نقَّى ذهنه من هذا الكون، ولكن ماذا بدر منك يا ابنتي؟

فاسنتي - لقد استهزأ أبي الذي اخترمته المنون بقوانينهم وآلهتهم، ولم يكن يقيم شعائرهم

سانياسي - مالك تقفين بعيدة عني؟

فاسنتي - وهل سَتَمُسُّني؟

سانياسي - نعم، لأني لا يمسني في حقيقة الأمر شيء. إني موغل في اللانهاية، إذا شئت أن تجلسي هنا فافعلي.

فاسنتي - (متحسرة) لا تأمرني بمغادرتك إذا ما قربتني مرة منك سانياسي - كَفْكِفي عبراتك يا طفلة، إني أنا سانياسي الذي ليس ينفذ في قلبه شيء من ضغينة ولا هوى، وإذا لم تكوني لي فليس بوسعي أن أطردكِ. إن مَثَلَكِ إذا قيس بي كان كمثل هذه السماء الزرقاء. إني أراك كائنة وغير كائنة - أنت - في نظري

فاسنتي - أبتاه، إني منبوذة من الآلهة والناس على حد سواء

سانياسي - وكذلك أنا، لقد نبذتُ الآلهة والناس

فاسنتي - أليس لكَ أم؟

سانياسي - كلا

فاسنتي - ولا عندك أب؟

سانياسي - كلا

فاسنتي - ولا اصطفيْتَ خِلاَّ؟

سانياسي - كلا

فاسنتي - فسأكون معك إذاً. أفلا تغادرني؟

سانياسي - لقد استغنيتُ عن الفراق. في إمكانِكِ أن تظلي بجانبي ومع ذلك فأنت بعيدة عني!

فاسنتي - إني لا أفهمك يا أبتِ! خبرني أليس ثمة ملجأ لي في هذه الدنيا كلها؟

سانياسي - أتريدين ملجأ؟ ألم يبلغْكِ أن هذا العالم هوّة سحيقة لا تنتهي إلى قرار؟ هذه جماهير الخلق خارجة من حفرة اللاشيء في البحث عن ملجأ لها، فإذا هي تدخل في هذا الخواء الفاغر فاه وتضلَّ فيه! وتلك هي أخيلة الأكاذيب ملتفةً من حولكِ تقيم سوق أوهامها؛ وما الأطعمة التي تبيعها سوى الظلال! وإنها بذلك لتخدع جوعَكِ ولكنها لا تُشبِعُكِ، فاخرجي من هنا يا ولدي، اخرجي

فاسنتي - ولكني أراها في هذا العالم سعيدة يا أبتاه! أفلا نستطيع أن ننتبذ من هذه الطريق مكاناً نرقبها منه؟

سانياسي - إن هذه الجماهير لا تعي شيئاً ويا للأسف. إن بصائرها لا تدرك أن هذا الكون إنما هو الموت الأبدي الذي لا انتهاء له؛ إنه ليموت في كل لحظة ومع ذلك فلن ينتهي إلى الغاية. وأما نحن مخلوقات هذا العالم فإنما نحيا وقوام قوَّتنا هذا الموت.

فاسنتي - إنك لتملأ نفسي رعباً يا أبتاه!

(يدخل مسافر)

المسافر - هل أستطيع أن أتخذ لي ملجأ بالقرب من هذا المكان؟

سانياسي - يا بني ليس ثمة ملجأ إلا في أعماق نفس الإنسان. فابحث عن هذا وتمسك به إن أردت نجاة

المسافر: ولكني متعب وفي حاجة إلى ملجأ ما

فاسنتي: إن كوخي على مقربة من هذا المكان فهل تجيء معي؟

المسافر: ولكن من عسيت أن تكوني؟

فاسنتي: وهل لا بد لك من معرفتي؟ إنني ابنة رافو

المسافر: بارك الله عليك يا طفلتي؛ غير أني لا أستطيع بقاء

(ينصرف)

(البقية في العدد القادم)

فخري شهاب السعيدي ï»