مجلة الرسالة/العدد 388/حول نقد كتاب الذخيرة في علم الطب
مجلة الرسالة/العدد 388/حول نقد كتاب الذخيرة في علم الطب
للأستاذ إسماعيل مظهر
قرأت في مجلة الثقافة الغراء منظومة من النقود وجهها الأب أنستاس ماري الكرملي إلى صديقي الدكتور جورجي صبحي ناشر كتاب الذخيرة المنسوب في بعض المؤلفات القديمة إلى العلامة الكبير ثابت بن قرة.
ولنشر كتاب الذخيرة تاريخ لو أن حضرة الأب المهذب الرقيق قد علم طرفاً منه إذن لالتمس للدكتور صبحي بعض العذر عن أخطاء وقعت في الكتاب. فقد كان موعد الاحتفال بالعيد المئيني للقصر العيني قد أزف. وحَسُنَ عند صاحب السعادة الدكتور علي إبراهيم باشا أن يُطْبَعَ كتاب (الذخيرة) إحياءً لأثر قديم وتعبيراً عن اتصال ثقافتنا بثقافة أوائلنا وتذكيراً بتراثنا المجيد. وبُدِئ بطبع الكتاب من نسخة سقيمة سيئة الخط محشوة بالتصحيفات قبل موعد الاحتفال بشهر واحد. وما إن حان الموعد حتى كان الكتاب مطبوعاً معداً للنشر. فكان لهذا العامل أثره فيما يكون قد وقع في الكتاب من تصحيفات لا أشك أقل شك في أن أكثرها موجود في النسخة الأصلية؛ وكان من المتعذر مادياً بحثها وتصويبها في مثل هذا الزمن القصير الذي استغرقه طبع الكتاب. وما قولك في أن حضرة الأب اشترى الكتاب في فبراير من سنة 1934 ولم يستطع أن يحقق ما ورده في نقوده من الألفاظ إلا في شهر يوليو من سنة 1940 إذ بدأ بنشر نقوده التي ألمعنا إليها. يدلك هذا على أن تحقيق هذه الألفاظ كان صعباً والرجوعَ إليها في مظانها أمر يستغرق السنين. فللدكتور صبحي على أية حال عذر إن تعذر عليه تحقيق بعض ألفاظ الكتاب وتصحيح عباراته تصحيحاً كاملاً.
ولا أريد أن أتعرض هنا لشيء مما صوب به حضرة الأب بعض أخطاء الكتاب، ولكن أريد أن أنشر حقائق ثابتة لا يتسرب إليها الباطل، عن الدوافع التي دفعت حضرة الأب المحترم إلى نشر نقوده هذه. فإن وراء هذا النقد ماضياً يجب أن يعرف، وله بداية كانت هذه النقود نهايتها. فقد أطلعني الدكتور صبحي بك على كتاب بخط يد الأب المحترم يسأله فيه أجراً على تصحيح الكتاب، وكان الدكتور صبحي بك مريضاً فلم يعر الأمر اهتماماً وشغل بمرضه عن كل ما عداه. واتصل طبيب بالقاهرة بالدكتور صبحي بك يغريه على أن يجيب حضرة الأب إلى طلبه فرفض صبحي بك معتذراً. وإلى هنا تنتهي مقدمات النقد. وكان النشر بمجلة الثقافة نتيجة لهذه المقدمات.
ولعل القراء يعجبون كيف أن رجلاً من رجال الدين المنقطعين عن لهو الحياة الزاهدين فيها، المترهبين في سبيل الله والعلم ينزلق في هذا المنزلق ويزل هذه الزلة ولا حاجة له بمال ولا مطمع له في الدنيا ولا زوجة له ولا ولد؟ نعم إن هذا لباعث على العجب مفض إلى طول التأمل. ولكن ذلك هو الواقع مع الأسف. وما كنت لأتطوع جاهداً في كشف هذا السر العجيب لولا أن حضرة الأب المحترم قد تمادى في الهجوم على رجالات مصر، ومن قبل هاجم الدكتور شرف بك ثم الدكتور أحمد عيسى بك ثم حضرة صاحب العزة أحمد العوامري بك، وغيرهم من كبار رجالنا المشار إليهم بالبنان المكبين على العلم لأجل العلم لا لأجل المال. أولئك الذين أفنوا أعمارهم وأموالهم في الطلب والفحص والتنقيب غير مترقبين من الناس مالاً ولا مستجدين منهم أجراً، عالمين أن أجرهم عند الله أبقى.
لئن كان حضرة الأب قد نشر هذا النقد خدمة للعلم حقيقة فما هي الحاجة التي حملته على أن يطعن حضرة الدكتور صبحي بك في علمه وفي مهنته؟ وإليك بعض أقواله في مجلة الثقافة.
إن هذا لمن أعجب العجب. يتساءل راهب لغوي كيف أن طبيباً مصرياً عظيما، وأستاذاً في كلية الطب، ومن أمهر المشتغلين في القطر المصري بهذه الصناعة: يتساءل كيف حصل على شهادته! ألست تجد أيها القارئ أن مثل هذا الأمر يدل على حفيظة سببها أن هذا الدكتور لم يجُد عليه ببعض المال ليصحح أخطاء كتاب قديم وقف على طبعه؟ كان إذن من الواجب على الذين أعطوا الدكتور صبحي إجازة الطب أن يرسلوه لحضرة الأب أولاً ليجيز لهم أن يعطوه شهادته.
ومن أعجب العجب أيضاً أن يعترف حضرة الأب بأن كتاب الذخيرة (في أصله) مشوه وممسوخ. قال في الثقافة (العدد 84 ص40):
(اتضح أن هذا التصنيف ليس لثابت بن قرة، وبان بالعكس أن واضعه قليل البضاعة بعلم العربية، والكاتب قبطي من أهل المائة السابعة أو الثامنة للهجرة لجهله الألفاظ الطبية وتشويهه لها وجهله الأحكام اللغوية ومسخه لها مسخاً شنيعاً).
هذا اعتراف حضرة الأب الصريح يدل على أصل الكتاب، أي الأصل الذي طبع عنه الدكتور صبحي بك. أفلا يصح أن يكون هذا شفيعاً عند حضرة الأب في بضعة أخطاء اضطر الدكتور لإثباتها كما هي مراعاة للأصل المطبوع عنه التماساً لإصدار الكتاب في شهر واحد من الزمان؟
أما أن يخطئ الإنسان فذلك أمر طبيعي، ولكن من غير الطبيعي ومن غير اللائق بالسداد أن يتمنى حضرة الأب أنستاس أن يصبح وزيراً للمعارف في مصر فيفتتح عهده بالحكم بغرامة 228 جنيهاً، وبالحبس 228 يوماً على الدكتور جورجي صبحي جزاء نشره كتاباً به بعض الأخطاء!
ولقد يدعي حضرة الأب أنه لا يخطئ، لأنه لو كان يسلم بأن الخطأ واقع من أبناء آدم لما انزلق في نقده إلى حيث انزلق، ولكني أقول له إنه يخطئ خطأ فاحشاً يتعدى فيه على العلم وعلى الثابت في مظان العلم.
فقد حدث في دورة المجمع اللغوي السادسة أن قام حضرة الأب يدعي دعاوى عريضة فسقط وكبا كما يؤخذ من رد حضرة العلامة الأستاذ فيشر عليه في محضر الجلسة السادسة عشرة من الدورة السادسة. وأنقل هنا نص رد الأستاذ فيشر عليه لأن به من البيان ما لا محل معه لبياني. قال:
(قرأت أمس في محضر الجلسة العاشرة بحث كلمة (موسيقى) (موسيقا) لحضرة الأب أنستاس ماري الكرملي. وقد أعجبنا جميعاً بكثرة معلوماته وذكائه، ولكن لا معصوم من الخطأ إلا نبي. وعليه فإني أعتقد أن حضرة الزميل العلامة قد زَلَّ في بعض مواضع بحثه إذ قال في صدر بحثه: (فأقول إن العرب لم يأخذوا لفظ الموسيقى عن الروم لاتينيين كانوا أم يونانيين، وإنما أخذوها من الإرميين بدليل أنهم يقولون (هنا كلمة إرمية) وتقرأ موسيقى بالياء. والدليل الثاني أن الموسيقار العربية في نفس الإرمية (هنا كلمة إرمية) وتلفظ موسيقاراً. والدليل الثالث أنهم (أي العرب) قالوا مثلهم موسيقاراً. ولم يراع أن كل ما نقل عن اليونانية كان بواسطة الآراميين كما أن كل ما نقل عن اللاتينية قبل فتح العرب لشمال أفريقية كان بواسطة اليونان وعنهم بواسطة الآراميين.
(ولم يراع أن الكلمة الآرامية (. . . . . .) يرجع أصلها إلى الكلمة اللاتينية وأهم من هذا ما وقع فيه من خطأ قائلاً: وأما عرب الجاهلية وصدر الإسلام فإنهم قالوا: (المزِيقَة) واستشهد على هذا القول ببيت للشماخ أورده كما يأتي:
له زَجَل كأنه صوت حاد ... إذا سَمِع المزِيقة أو زَمِير
ولا أدري من أين نقل هذا البيت. فإنه ورد في ديوان الشماخ طبعة أحمد بن الأمين الشنقيطي صفحة 36 ما يلي:
له زجل تقول أصَوْت حاد ... إذا طلب الوَسِيقة أو زَمِير
(وهذه الرواية صحيحة فإن هذا البيت جاء وصفاً لحمار وحشي في قصيدة للشماخ، ومعناها يتفق مع ما أورده الشنقيطي في الشرح إذ قال: (المعنى أن الحمار الذي يصفه يشبه صوته بأتانة إذا صوت بها صوت حادي الإبل أو صوت مزمار).
(فكذلك لا توجد لكمة المزيقة في شعر الشماخ، ولا توجد في أي شعر آخر ولا في كل العربية.
(وقد ظن حضرة الزميل العلامة، بعد اعتقاده بأن كلمة (المزيقة) قد وردت في شعر الشماخ أن فعل مَرَّق الذي ورد في الشعر القديم بمعنى غَنَّى قد صحف عن مزَّق. وقد قال حضرة العضو الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين في أثناء الجلسة: (لا أوافق حضرة الأب أنستاس على أن لفظتي ممرَّق وتمريق مصحفتان من ممزق وتمزيق. إذ لا دليل على هذا التصحيف الخ).
(وإني متثبت من أنه على حق، فإنه قد وردت في لسان العرب وأساس البلاغة شواهد على فعل مرَّق، وقد بين هذه الشواهد بيت للشاعر (الممزَّق) من قصيدة وردت مرتين في ديوان (المفضليات) - (طبعة تشارلس لايل صحيفة 603)، وفسر الأنباري شارح المفضليات الفعل مرَّق كما يلي):
(ويمرِّق يغني والتمريق الغناء. يقال: قد مرَّق يمرِّق تمريقاً فهو ممرقُ إذا غنى أ. هـ). وورد هذا الفعل أيضاً في كتاب الأغاني (طبعة دار الكتب المصرية في الجزء السابع صحيفة 238) في سياق الكلام كما يلي: قال الحسن وحدثني غانم الوراق قال: خرجت إلى بادية البصرة فصرت إلى عمرو بن تميم فأثبتني بعضهم فقال: هذا الشيخ والله راوية. فجلسوا إليّ وأتوا بي وأنشدتهم وبدأت بشعر ذي الرُّمة فعرفوه وبشعر جرير والفرزدق فعرفوهما؛ ثم أنشدتهم للسيد. . . (أتعرف رسما. . . الخ) ثمانية أبيات؟ قال: فجعلوا يمرِّقون لإنشادي ويطربون، وقالوا: لمن هذا؟ فأعلمتهم. . . فقالوا: هو والله أحد المطبوعين. . . لا والله ما بقي في هذا الزمان مثله) أ. هـ عبارات الدكتور فيشر.
أيليق بنا يا حضرة الأب المهذب أن نسأل: كيف حصلت على لقب لغوي ما دمت تسقط في مباحث اللغة هذه السقطات الشنيعات، ثم تتدارى بعد ذلك وراء ألفاظ الهجاء لتخيف الناس من لسانك ومن قلمك، ولتستر بذلك خطأك وحذلقتك وتهجمك على اللغة عفو الخاطر، لأنه قيل إنك لغوي، ولأنه جرى بين الناس أنك كذلك؟. . .
وبعد، فإني لا أود أن ألقي القلم قبل أن أفرغ من حضرة الأب المهذب أولاً وآخراً. فإني اتهمته بأنه طلب من الدكتور صبحي مالاً لينتقد كتاب (الذخيرة) سراً ثم يسكت؛ فإذا أبى الدكتور صبحي بك، نشر الأب نقوده متظاهراً بالغيرة على العلم وعلى لغة القرآن: نسأل للغة القرآن منه العافية.
والواقع أن هذه دعوى عليّ إثباتها: فإن الكتاب الذي أرسله حضرة الأب إلى الدكتور صبحي بك يسأله فيه ذلك، قد مُزِّق وألقي به في سلة المهملات مع الأسف الشديد؛ ولو أنه باق، إذن لنشرته بخط يده. ولكن حضرة الأب قد ينسى أن كتاباً آخر يدل دلالة قاطعة على أنه يأخذ المال باسم اللغة والغيرة على اللغة، ولكن بالسباب والشتم. وإني أقتطف من هذا الكتاب عبارات مع حذف الأسماء. فإن أنكر الكتاب نشرته للناس بخط يده. جاء في ذلك الكتاب:
(نعم إن احسانات الدكتور. . . قيدت يدي ورجلي ومنعتني عن أن أهجم عليه هجماتي المعتادة على أصحاب سائر المعاجم، ولما رَدَّ عليَّ رده المعهود وكله سفاسف وجهل شنيع للقواعد العربية والأصول اللغوية، أخذت القلم لأكشف عوراته ثم فكرت في نفسي وقلت أهذا مكافأة من أحسن إليك وأنقذ مجلتك من أن تغلق في تلك السنة للخسارة التي لحقتها. فكسرت القلم وقلت الإقرار بالفضل والإحسان من شيم كرام النفوس، والغض عن الرد خير من الاستسلام للغيظ. وهكذا سكت، ولو لم يكن بِرُّ هذا الرجل وماله بالفضل علي لسحقته سحقاً، لأن ما في. . . من الأوهام والخبط والخلط يسود عين الشمس في رائعتها. والآن أقول إن. . . نصاب في الأدب ولا يقاربه أحد في نصبه، ولكن إذا كانت أموره تجوز على بعض السذج، فإنها لا تجوز على من له أدنى إلمام بالأدب).
ثم يقول حضرة الأب المهذب:
(أتعلمني بمنزلة. . . وأنا أعلم علم اليقين أنه لا يرى في مادة واحدة من مواده إلا أغلاط جمة؟ ومع ذلك أقول ولا أخاف لومة لائم إن أغلاط. . . دون أغلاط. . . فإن هذا الأخير أفسد كل مادة فساداً لا تقوم له قائمة، وليس للرجل أقل اطلاع على اللغة ولا على علم. . . ولا على نقل الألفاظ من الإفرنجية إلى العربية. والآن أجيبك على سؤاليك:
(1 - إني تسامحت كل التسامح في نقد. . . لأنه أحسن إلي. ولم أفعل مثل هذا الفعل في نقد. . . لأنه لا فضل له عليَّ فلم أسامحه لأنه زاد فساد ألفاظ. . . وأوهامه زيادة فاضحة.
(2 - إذا نقدت ثانية. . . أهتكه هتكا من غير أن أستعمل كلمة جارحة كما فعلت مع. . . لأن. . . اشتغل أكثر من. . . وعانى مشقات أعظم. أما لو أردت أن أنزله دركات جهنم لما صعب علي لأنه هيأ لي الوسائل والذرائع لإنزاله في تلك المهاوي) ا. هـ
هذا كلامك يا حضرة الأب عندي بخط يدك أنشره على الناس ليعرف الناس لماذا تكتب وتحت أي تأثير تكتب، فإن لم تسكت نشرته في كراسة مطبوعة بالزنكوغراف، ولو أني بذلك سأسيء إلى أصدقاء هم من دمي وأهلي الذين تتهاتر عليهم بعلمك، وأتحمل في سبيل ذلك حساب ضميري على أن أنزل أسماءهم الشريفة المنزلة التي لم أجد بدونها وسيلة إلى إسكاتك أبد الآبدين.
وتحت يدي أيضاً كتاب آخر أرسلت به إلى صديق لك قديم يدل على مقدار ما تعرف من قدر الصداقة، إن أنكرته نشرته أيضاً.
وبعد فقد يكون في كتاب الذخيرة كل الأوهام التي أشار إليها حضرة الأب المهذب، وقد يكون بعض هذه الأوهام من (حذلقاته) المعروفة فإني لم أعن بتحقيق ما جاء بنقده، فإني ما أردت بهذا الرد إلا أن أقرر واقعاً وأنفي عن رجالنا شبهات يكيلها لهم هذا الرجل كيداً وظلماً. وإني لأعلم أني سأتلقى على يده من الإهانات والسباب ما سوف أتقبله.
وكلمة أخيرة أتوجه بها إلى الأستاذ الفاضل أحمد أمين عميد كلية الآداب ومحرر الثقافة فأسأله: هل من اللائق أن يُوَجَّه على صفحات الثقافة ألفاظ وعبارات كتلك التي وجهها حضرة الأب إلى الدكتور صبحي بك وهو له زميل في الجامعة وأستاذ مثله فيها؟ هل يقبل أستاذ أن ترمى الجامعة التي هو أحد أساتذتها وعميد كلية الآداب فيها بأنها فقدت شيئاً كثيراً من حسن سمعتها وأنها تروج إفساد اللغة وأنها تثبت الألفاظ المشوهة؟
إسماعيل مظهر