مجلة الرسالة/العدد 39/النقد

مجلة الرسالة/العدد 39/النقد

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 04 - 1934



كتاب النثر الفني في القرن الرابع

تأليف الدكتور زكي مبارك

للأستاذ أحمد أمين

إن كان أخي (المازني) قد استطاع بلباقته أن يكتب عن هذا الكتاب مقدمة بلا موضوع، فلا حاول في مقالي هذا - لموازنة - أن اكتب عنه موضوعا بلا مقدمة، وان هو وقف الكلام عند محاولته أن يأخذ الكتاب من المجلد، فلأصل ما قطع واكتب من حين تسلمت الكتب من المجلد.

أول ما يطالعك من الكتاب شكله وحجمه، فيعجبك شكله، ويبهرك حجمه، وما ظنك بكتاب طبع في دار الكتب على ورق جميل في جزأين يقعان في نحو ثمانمائة صفحة من القطع الكبير؟

ثم المقدمة، وفي الحق أنها لم تعجبني كثيرا، فقد تحدث المؤلف فيها عن نفسه طويلا (فالكتاب أول كتاب من نوعه) (والكتاب أول منارة أقيمت لهداية السارين في غيابات لك العهد السحيق) (والمؤلف أول من كشف النقاب عن نشأة النثر الفني في اللغة العربية وقهر المستشرقين ومن لف لفهم) وهكذا يمضي المؤلف في تعداد أولياته وهي طريقة لا استحسنها ولا أستسيغها، وأظن أن كثيرا من القراء لا يستحسنونها كذلك ولا يستسيغونها، فخير للمؤلف أن يتوارى وراء ما كتب، ويدع الناس يحكمون له أو عليه لا أن يتقدم هو بالحكم لنفسه، ويقطع الطريق على القراء والنقاد، ويعجبني في ذلك ما نقله المؤلف عن نفسه في ثنايا الكتاب عن أبي هلال قال (ومن صفات الشعر التي يختص بها دون غيره أن الإنسان إذا أراد مديح نفسه فانشأ رسالة في ذلك أو عمل خطبة فيه جاء في غاية القباحة، وان عمل في ذلك أبياتا من الشعر احتمل) نعم إن المؤلف لم يرتض هذا الرأي، وأباح إذا جرى مجرى الدفاع والمفاخرة، ولكن الكتاب ليس موضوع دفاع ولا مفاخرة، وإنما هو موضوع تقرير لحقائق يراها ويعرضها على القراء، ثم قد يخالفونه فيها وقد يوافقون، وقد يقدرونها تقديرا عاليا وقد لا يقدرونها. وعلى كل حال فلهم القول الفصل للمؤلف، فمن المؤلفين من لم يعجبهما ألف ولم يرقه ما كتب، وإنما كتب الخلود لما قدره الناس لا ما قدره المؤلف - شعر المؤلف بذلك وأراد أن يعتذر عنه (بأنها ثورة نفسية، انطقه بها ما رآه في زمانه من غدر وعقوق) ولكن هل هذا القول يداوي الجرح ويبرئ المرض؟ أخشى أن يحمل الناس على الإلحاح في العقوق والإمعان في الغدر، لان النفس مولعة أبدا بكراهية الحديث عن النفس، ومن طبيعتها أن يحملها إمعان المادح في مدح نفسه على إمعانها في التنكر له وجحد فضله، بل أخشى أن يكون هذا بعينه هو السبب في الغدر والعقوق، فقد اعتادت النفوس ان تقابل الإفراط بالإفراط والغلو بالغلو.

إن يكن المؤلف قد خانه التوفيق في المقدمة فقد صحبه إلى درجة كبيرة في الكتاب، فهو نتيجة مجهود صادق وبحث طويل شاق، أتي فيه بالمقدمة في الموازنة بين الشعر والنثر، ثم تطور النثر من عصر النبوة إلى القرن الرابع، وتكلم في نشأة النثر الفني، والسجع واطواره، وخصائص النثر في ذلك العصر وانواعه، ثم اشتهر الكتاب في كل نوع ونماذج من كتابتهم، وتحليل لأثارهم.

وطريقة بحثه في كل ما بحث سليمة، جارية على الأسلوب الحديث في العرض والنقد واستقصاء ما في الوسع في الرجوع إلى المصادر ومقارنة بعضها ببعض، والشجاعة في إبداء الرأي، والقارئ قد يخالفه في بعض ما قالوا يرى رأيا غير ما ذهب إليه، ولكنه على كل حال يقدر ما بذل المؤلف في تكوين رأيه وتأليف حججه. ثم هو قد وفق إلى آراء جديدة له الفضل في استكشافها ولفت النظر إليها، وآراء صقلها وعرضها في حلة جديدة. وإني إن احترمت الكتاب من الناحية العلمية والعقلية، فإني ناقده من جهة الذوق، وذلك أن الدكتور زكي مبارك كلما رايته أو استحضرت صورته، أشع علي معنى غريبا يصعب تصويره، وربما كان اقرب تصوير له رجل يمسك بيسراه كتابا قيما فيه علم غزير، وأدب وفير، وبيده اليمنى عصا اشهرها، ثم هو يطلع الناس على ما في كتابه من طرف فمن هم أن يفتح فاه بنقد أو مخالفة قنعه بما في يمناه، بل قد يؤمن من الناظر بما يعرض عليه، فلا يعجبه الاستسلام وهذا الإيمان فلا يزال يهيجه حتى يبدأ بالمخالفة أو يظن انه سيبدأ بالمخالفة فيشهر عليه العصا، بل قد يكون السالك على علم بذلك فيتنحى عن كتابه وعن عصاه ويتنحى ناحية أخرى فيسرع الدكتور ليسد عليه المسلك ويأبى أن يفسح له الطريق حتى ينظر في الكتاب، فإذا نظر فالنتيجة محتمة، وإذا لم ينظر فالنتيجة هي هي ايضا، وهي العصا.

هذا ما كان يشعه على الدكتور زكي، فلما قرأت كتابه النثر الفني تأكد هذا المعنى وتجسم، وما ادري أقرأت الكتاب بهذه العين التي تكونت، أو قرأته محايداً وقراءته زادت هذا المعنى وضوحا.

تجلى هذا المعنى في انه يعرض آراء قيمة وأفكارا عنى بدرسها ثم إذا به يطفر فيحتك بمؤلف أو كاتب فلا ينقده نقد عالم لعالم ولكن نقد مصارع لعالم. إن شئت فأنظر إليه وهو يعرض لرأي الأستاذ مرسيه - أستاذه وشيخ المستشرقين في فرنسا - إذ يقول (وهناك رأي مثقل باوزار الخطأ والضلال وهو رأي المسيو مرسيه ومن شايعه) ثم تقرأ رأي الأستاذ مرسيه ومن شايعه، فإذا هو رأي جدير بالاحترام باعث على التفكير، صالح لحسن التقدير، وهبه كان رأيا سخيفا وفكرا تافها، وقولا لا يؤبه له، فليست هذه لغة العلماء في النقد، ولا طريقتهم في الرد.

نعم قد يكون نقدهم في بعض الأحيان لاذعا، ولكنه - على كل حال - يصاغ بلباقة، وقد جرى المؤلف على هذا السنن مع الأستاذ مرسيه وغيره مما لا شأن لنا بتفصيله، ومما يزيد الأمر عجبا انه شديد قاس في بعض النقد - كما رأيت - ولطيف لبق في البعض الآخر، ولا ندري من الناحية العلمية لم كان لطيفا لبقا هنا، وقاسيا صارما هناك، فقد قلبنا الأمر على وجوهه فلم نجد ذلك يرجع إلى قوة رأي مخالف وضعفه، ولا قوة الحجة وضعفها، إلا أن يكون لشيء غير الرأي وغير العلم وهذا ما لا أدريه.

كذلك آخذ عليه أشياء لم تتفق والذوق قرأتها فضربت أذني وانقبض خاطري. مثال ذلك ما جاء في صفحة 9 و 13 وذيل ص 60 و 61 وذيل 65 الخ.

ثم هندسة الكتاب لم تخل من نقد ولم يشع فيه التناسق، فحجرة صغيرة وحجرة كبيرة، بل وحجرة لم تكن كان يجب ان تكون، وباب كبير وباب صغير، وقد يكون هذا معقولا إذا دعاه الحال واقتضاه المقام، ولكن لم يكن كذلك في هذا الموقف، فقد تحدث مثلا عن المقامات ونشأنها فأفاض وانفق عن سعة، ولم يحدثنا كثيرا عن رسائل إخوان الصفا ونشأتها. قد يتبادر إلى الذهن انه عنى بالمقامات لأنها الصق بالأدب، ولم يعن برسالة إخوان الصفا لأنها ادخل في الفلسفة والعلم، ولكنه في الكتاب تعرض للأسلوب العلمي كما نعرض للأسلوب الأدبي. على أن في رسائل إخوان الصفا نواحي أدبية عديدة اقر بها المؤلف فأقتبس منها رسالة الإنسان والحيوان، وقد اعتذر عن ذلك بأن الباحثين أطالوا فيها القول قديما وحديثا، وهو عذر لا نوافقه عليه بحال، فمجال القول في إخوان الصفا ذو سعة. وإلى الآن لم تبحث الرسائل بحثا وافيا، ولم يقل فيها ما يشفي النفس ويثلج الصدر.

وفيما عدا ذلك فالكتاب قيم، يقف القارئ على أشياء كانت دفينة، وآراء نظمت كانت شتيتة، ويلفت نظر الشباب إلى جمال في الأدب العربي كان قد عفى عليه الزمان، ويعبر عن ذلك كله بلغة العصر فيقربه من نفوسهم، ويحببه إلى أذواقهم، ويفتح أبوابا لبحث العلماء وتفكيرهم فله على ذلك الشكر.

شهرزاد

رواية للأستاذ توفيق الحكيم

كلمة تحليلية بقلم: عبد الرحمن صدقي

هي تحفة فنية أخرى للأستاذ الحكيم. وهي أدق في ذوقها الفني وارق، وهي ارهف في الحس والطف، وجوها الشرقي أمتع منظرا وأوقع سحرا، وروحها الصوفي اعرق تأصلا واعمق سراً.

ونحن نعرف الأميرة شهرزاد، تتمثل فيها عبقرية القصص وروح السمر، ونتمثلها بأحاديثها المشوقة المتنوعة الأفانين، وحكاياتها الممتعة التي لا ينضب لها معين، بين يدي الملك الآسيوي شهريار وقد تحجر قلبهوغلظ طبعه، تتنقل به ليلة بعد ليلة مأخوذا مدهوشا من قطر إلى قطر في أجواء شتى وآفاق سحيقة، من أنحاء فارس، إلى بلاد الصين أو الهند العجيبة، إلى وادي مصر الخصيب، بين أجناس البشر المختلفة الألوان، وبين طبقات المجتمع ونماذج الأفراد على تفاوت الطبائع والدرجات، من ملوك ومماليك، وسراة وصعاليك، وتجار وحمالين، وصاغة وصيادين، ومقاحيم يجوبون القفار ويركبون أهوال البحار، وفوق ذلك بين عناصر طبيعية وغير طبيعية، إنسية وجنية. رحلة كقصيدة (الاوديسة) شائقة طويلة، طافها الملك شهريار وهو في المقصورة مضطجع يصغي إلى شهرزد في كل مساء في ألف ليلة وليلة.

هذه الرحلة المعهودة للملك شهريار، لم يعرض لها مؤلفنا العصري. وإنما خلص منها رحلة باطنة للرجل شهريار، هي رحلة النفس تحركت فجازت أطوارا بعد أطوار.

فلقد كان شهريار عبد الجسد يبني كل ليلة بعذراء يستمتع بها وفي الصباح يقتلها، وكذلك كان ليلة استقبل شهرزاد يشتهي منها المتعة بالجسد الغض. حتى إذا سمعها تحدثه حديثها الساحر الممتع وتفتح له خزائن القصص والخيال والشعر، تفتحت مغاليق قلبه الموصد وتحرك جامده وارتجفت نياطه، فإذا هو يحبها وإذا بهذا الجسد الشهواني يحبها حب القلب والوجدان. غير أن نار العاطفة بدورها لم تلبث مشبوبة طويلا حتى تصفت إلى نور هادئ شاحب، فإذا هو لا يأمن للشعور بل ينشد المعرفة، وإذا به لا يريد لوقفة عند الظواهر والاعراض، بل الغوص إلى الجوهر ولب اللباب، ولا يريد الاحتباس في الحدود الضيقة بل الانطلاق، إلى حيث لا حدود، فهو فكر محض يجوله التأمل النظري والتجريد الفلسفي.

وهذه الأطوار النفسية الثلاثة التي اتفقت لشهريار على إناء متفرقة، يجلوها أيضاً المؤلف على مسرح قصته في آن واحد موزعة على شخوص ثلاثة: فهذا العبد اسود اللون وضيع الأصل قبيح الصورة رمز للشهوة الحيوانية، تلقاه شهرزاد في حلك الظلام، وتلزمه ألا يطرقها إلا خفية مع الليل، وتستكره معه العلن وتحذوه من أن يدركه الصباح فيقتل. وهذا الوزير الفتي، مثال الجمال في الخلقة والخلق، يحب شهرزاد كما يحب رجل جميل امرأة جميلة، فهي معبودته لا عشيقته، وقد بلغ التسامي بعواطفه منتهاه، فلم يعد غير قلب شاعر. وهذا الملك قد أفادته حكايات شهرزاد حبرة، وكشفت لبصيرته عن أفق للتأمل بلا حد، ونقلته كالطفل من طور اللعب بالأشياء أو التعبد لها إلى طور التفكير فيها، فهو اليوم فكر شارد أبداًينقب عن الكنه ويطلب المجهول:

أما شهرزاد فهي كالطبيعة لا رفيع عندها ولا وضيع، وهي كالطبيعة تتراءى لهؤلاء الثلاثة فيرى كل فيها مرآة نفسه. فهي عند العبد حس مادي ولذة مشبعة، وهي عند الوزير مثال أعلى للجمال قلبا وقالبا، وهي عند الملك سر عميق ينطوي على نواميس خالدة تجري على مقتضاها حركات الحياة وسكناتها ويتحدى لغزها المعرفة.

ومن عجائب الاتفاق إن هذه المعاني التي اقتضت القصة الرمزية اجتماعها في شهرزاد، لها سندها المفعم في الحكاية الأصلية:

فشهرزاد إلى كونها مثل غيرها من بنات حواء تخضع لمطالب المرأة الجسدية. فأنها ابنة وزير، كريمة المحتد، كما يدل اسمها نفسه في الفارسية، وقد شاء لها طيب أرومتها أن تتقدم طواعية ليتزوج منها الملك الغشوم قاتل زوجاته، وان تجعل مختارة جيدها الغض عرضة لسيف جلاده، مفادية بحياتها على ضعف الأمل إنقاذا للعذارى من هذا الحيف الراصد لهن. ثم هي لا محالة بطبيعة التربية في القصور ذات ثقافة عالية، وحذق لفنون الأدب والشعر، وعلم بالتواريخ ومضارب الأمثال والعبر. فليس هنالك تجوز معتسف في تصويرها جامعة للجسد المنعم النضير والقلب الفياض بالشعور والفكر الواعي المحكم بالتدبير.

ولقد احتاط المؤلف لرموزه هذه من ان تظهر مجرد رموز متحركة تشخص لما وضعت له في خطى آلية وعزيمة صماء حديدية:

فأضفى عليه مخايل الأحياء من تردد وتشكك، ونوبات ضعف وانتكاس، لما هو مركب في الطبيعة البشرية من العوامل المتضاربة، والدواعي المتداخلة، بحيث إذا صحت الغلبة لإحداها فأن المغلوبة لا تنعدم، بل لها في النفس بين الفنية والفنية تخبط المقيد، وانتفاض المضغوط عليه. فترى الوزير وان كان في حبه للملكة شهرزاد عذريا طاهرا يحفظ لصديقه الملك غيبته، ويرعى حرمته، ويذكر مودته، فانه ليضطرب اشد الاضطراب عند خلوتها به، كما يسوؤه أن تعطف على صديقه وزوجها ايسر العطف ويتجرع المرارة من غيرته الخفية. كذلك ترى شهريار وقد باشرت الحسيات حواسه حتى مل جوارها، وتشبعت بالعواطف مشاعره حتى لفظها ومجها، وتعالى عن كل ما هو حس وشعور يعود في فترة يأس من المعرفة إلى شهرزاد، يسكر عطشه من كأس ثغرها اللؤلؤي، ويستظل من رمضائه بعناقيد غدائرها المتهدلة، ويوسد رأسه المتصدع حجرها، ويريدها على ان تنشده شعراً، أو أغنية، أو تقص عليه قصة.

وما تبدلت الرموز غيرها من اجل هذا، وإنما هي عوارض من إمارات الضعف البشري، ثم تستأنف هذه الرموز البشرية سيرتها المرسومة، ودرتها المقدورة في افتنان وروعة.

ولقد اختار مؤلفنا للقصة بداية اصلح منها مدخلا للراوية من حيث تهيئة الجو والدلالة على المعنى. فثمت طريق قفر والليل حالك، وإلى ناحية منزل منفرد على بابه مصباح مضيء. وفي هذا الموقف يقفك المؤلف على سحر الساحر، وضعف الجسد، وسطوة الشهوة باللمسات الأولى من ريشته:

الساحر (يقود جارية إلى المنزل): ماذا يقول لك هذا الغريب الأسود؟

الجارية: يسألني عن سر فرح المدينة، فأجبته هو عيد تقيمه العذارى للملكة شهرزاد.

الساحر: وما لفرائصك ترتعد؟

الجارية (همسا): لست ادري!

الساحر: ألم أحذرك أن تقربي هذا العبد الهرم، فأن في عينيه نظرات الفجرة؟

الجارية (همسا): ليس هرماً

الساحر: بم تهمسين كمن به مس؟ هاتي يدك ولندخل. لعلك ارتعت من فبح هذا الرجل؟

الجارية (همسا): ليس قبيحا

(يدخلان المنزل. يظهر العبد يتبع نظراته الجارية. . .)

العبد: ما اجمل هذه العذراء! وما اصلح جسدها مأوى!

صوت (من خلفه): مأوى؟ أللشيطان؟ أم للسيف؟

العبد (يلتفت): أهذا أنت؟

الجلاد (يظهر): عرفتني

ثم لا يطول بك الانتظار في هذا الموقف بمسمع من هذه الكلمات المتقطعة المتبادلة حتى تعلم كل ما طرأ على حياة شهريار الذي كنت تعرفه، من تغير بعيد الأثر، وما يحيط به اليوم من ملابسات وظروف، وحتى تتسلم بين أصابعك أطراف خيوط القصة جميعها، وتتابع في لذة مشوقة حركات نسجها سداة ولحمة.

وترى كيف يعارض حائك القصة بين شهرزاد وقلب الوزير المتأجج في منظر، وبينها وبين عقل الملك السابح في زرقة أحلامه الصافية في منظر، ثم بينها وبين العبد الأسود في منظر. وهو في خلال هذه المناظر وما بينها يداول الخيوط المختلفة الأصباغ فيخرج لنا منها نسيجا خسرواني الوشى، ساحر الألوان كقوس الغمام. حتى إذا أزف الختام أبى المؤلف (الحكيم) على العبد قتله استرخاصا له وكرامة للمنية أن تكفر عن خسته، بل ادخر المصرع الفاجع للوزير الذي ضاق الواقع عن قلبه الكبير، أما شهريار فقد ذهب في سفر بعيد مجهول.

ولئن كان المؤلف قد نحا نحو الرمزيين في قصته، إلا انه لم يصنع منها لغزا مغلقا ولا شبه مغلق، ولا هان عليه أن يترك رموزها على قرب منالها وقلة تعويضها - للقراء، وبخاصة الذين ألفوا نحوها في التأليف الغربية ليستنبطوا استنباطا، بل اثر ان ينص على تفسيرها نصا في ظهر سطوره أثناء الحوار، فلا يدع لأحد دون فهمها على وجهها حجة.

وقد اصطنع صاحبنا ما يصطنعه أهل مذهبه من أساليب العرض والكتابة. فشخوصه معروفة النظائر في الواقع، ولكنها تبدو لعياننا من مادة اشف من مادتنا، وتروح وتجئ في جو أخف مما نعيش فيه. فكأنما هي من عالم الأحلام نحسها بالحس الباطن، وكأنها لا تتحرك بمحرك فيها من إرادتها بل تحركها قوة مستعلية عليها خارجة عنها، فهي مسوقة من حيث لا تدري إلى حيث لا تدري ولا طاقة لها على التوقف والمغالبة. ثم هنالك السحر والكهانة، والفلتات المنبئة، وأحاسيس النفس السابقة المؤذنة بوقائع غامضة لاحقة. وهذه جميعا مفرغة في سياق شعري يتمشى فيه النغم، وتنتظم الموسيقى نسقه من مبدئه إلى منتهاه، ويعتمد على الإشارة المقتضبة والتلبيس ويتجنب البسط والتقرير، وتتكرر فيه العبارة الواحدة مرات وتكثر فيه الكلماة البارعة والكنايات المحجبة.

شهرزاد: أترى شيئا في ماء هذا الحوض. أليست عيناي أيضاً في صفاء هذا الماء؟ أتقرأ فيهما سرا من الأسرار؟

شهريار: تبا للصفاء وكل شئ صاف. . .! لشد ما يخيفني هذا الماء الصافي. .! ويل لمن يغرق في ماء صاف. . .!

شهرزاد: ويل لك يا شهريار

شهريار: الصفاء. . .! الصفاء قناعها

شهرزاد: قناع من؟

شهريار: قناعها هي، هي، هي. . .

شهرزاد: إني أخشى عليك يا شهريار.

شهريار: قناعها منسوج من هذا الصفاء. السماء صافية، الأعين صافية، الماء الصافي، الهواء، الفضاء، كل ما هو صاف! ما بعد الصفاء؟؟ إن الحجب الكثيفة لاشف من الصفاء!

فلنسجل إذن لمؤلفنا المسرحي النجاح مرة أخرى مغتبطين، ولنردد قولنا فيه واثقين (هذا الفتى فنان حتى أطراف أنامله)

عبد الرحمن صدقي

اتحاد الممثلين

لناقد (الرسالة) الفني

في مساء السبت الماضي ابتدأ اتحاد الممثلين، عمله على مسرح الهمبرا برواية (هرناني) لفكتور هيجو وترجمة الأستاذ خليل مطران، وهي من الروايات الأنموذجية التي ترجمت تحت إشراف وزارة المعارف.

وقد ذكرنا في كلمتنا عن (مديري الفرق والممثلين) إن اتحادا قويا متنا تألف من بين ممثلي الدرام في مصر، من الأكفاء الذين شهد لهم الناس بالمقدرة، وتقدموا للجنة تشجيع التمثيل في وزارة المعارف يعرضون عليها تحت إشرافهاوبالشروط التي ترتضيها. وذلك بعد إن فشلت الجهود التي بذلت مع مديري الفرق، وبعد أن تعنت هؤلاء مع اللجنة وأرادوا ان يملوا عليها شروطهم.

ذكرنا هذا واهبنا باللجنة أن تنتهز الفرصة السانحة فتمد يدها حازمة قوية لهذا الاتحاد وترحب به ولا تضن عليه بالمساعدة المادية التي يستحقها. ويسرنا أن اللجنة كانت عند حسن ظننا بها، وان كلمتنا وجدت منها آذانا صاغية، فقررت ان تمد يدها إلى هذا الاتحاد في سخاء وكرم، وان تعينه على العمل في خطاه الأولى فوضعت تحت تصرفه بضع مئات من الجنيهات يعد بها الوسائل الضرورية ليبدأ العمل على بركة الله.

واتحاد الممثلين اليوم لا ينقصه الرجال الأكفاء ولا المخرج النابه. ولا المال المعين، ولا يعوزه تعضيد الصحافة وتشجيع الكتاب والنقاد، وبالجملة وفرت كل وسائل العمل التي تكفل النجاح فالاتحاد يحمل عبئا عظيما ومسؤولية خطيرة أمام هذا البلد وان الأنظار لترعاه من كل مكان تترقب خطاه وتنظر ماذا هو صانع بالأمانة التي رضي بحملها وبالثقة التي وضعت فيه وبالآمال العريضة التي نيطت به فهو لا ريب الأمل الأخير في إنعاش المسرح في مصر وإنهاضه إلى المستوى الجدير به. وإنها لتجربة لها ما بعدها، فإن فشلت فليس لنا ألا أن ننفض الأيدي جميعا من المسرح ونتركه للقدر يبعثه حين يشاء، في جيل غير هذا الجيل، وما نتحدث عنه بعد اليوم أن تحدثنا إلا كما نتحدث عن عزيز قضى، أو حلم تبدد.

لو تحقق النجاح لهذه التجربة لسارت القافلة على بركة الله إلى غاية الطريق، ولا استطعنا أن نطالب الوزارة بمزيد من المعونة. ثم لعلنا ننتهي إلى لفت الأنظار إلى العناية بالفن عناية مجدية فتكون لنا الفرقة الرسمية، ويكون لها مسرح خاص مزود بأحدث مبتكرات الإخراج المسرحي، ويقوم فيه معهد الفن من جديد لتلقي أساليبه ودرس وسائله، وتنهض بكل هذا ميزانية من آلاف الجنيهات كما هو الحال في سائر الممالك الحية وتنشط حركة التأليف وتخرج الرواية المصرية إلى النور، وترفع عنا وعن المسرح هذا الخمول الذي نعانيه.

بقي أن نقول أن الاتحاد خطا خطوة طيبة بطلبه من الأستاذ زكي طليمات أن يتولى إخراج رواياته وقد لبى الأستاذ طليمات هذه الدعوة بصدر رحب ونفس مطمئنة.

إن المسؤولية الكبرى التي يحملها الاتحاد إنما يحمل العبء الأكبر فيها فناننا النابه، وهذه المادة التي بين يديه مادة ثمينة في يد الصناع الماهر، ولا شك إننا سنلمس اثر جهوده واضحا، وسنكون سعداء إذ نتحدث إلى قرائنا عن هذا الجديد الذي بتنا نرقبه طويلا.

سينجح فأننا وسيكتب له الفوز، وستخفق لنجاحه وفوزه قلوب، بعضها من الفرح وبعضها من الحسد، قلوب تفرح لأنها ترى المسرح ينهض ويشتد عوده بعد أن طال احتضاره وركوده، وقلوب تتآكل ألماً لان هذا النجاح يفوت عليها كثيرا من المآرب الشخصية والمنافع العاجلة أو يقضي على ادعاءات كانت تصك بها مسامعنا طوال هذه الأعوام.

محمد علي حماد