مجلة الرسالة/العدد 39/مضى عام

مجلة الرسالة/العدد 39/مضى عام

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 04 - 1934



للآنسة سهير القلماوي

تسارعت الأيام في سيرها الآلي المنظم السريع. الأيام الطويلة المملة، والأيام القصيرة الطائرة، كلها غرقت في بحر الفناء على ألا تعود. وانقضى العام فإذا الذكرى تتهادى حتى تقف أمامي، ثم تمد يدها لتأتي بأجزائهاالمنزوية في مخيلتي تستكمل بها صورتها المؤلمة. فإذا الصورة هي هي كما كانت منذ عام، وإذا الألم لها وان خففه سلطان الزمان الذي لا يقهر، إلا انه ما زال لاذعاً مذهلا عن كل شئ سواه.

كان صباح العيد منذ عام، فاجتمع أفراد الأسرة كلهم في بيت الوالدين، اجتمع الأخوات والاخوة، والأزواج والأولاد والأخوال والأعمام، واصطفوا جميعا على مائدة الإفطار، وكلهم وجوههم مشرقة مستبشرة. وكانت هي بينهم - ومتى لم تكن بينهم ولو بجسدها - ولكنها كانت تفكر وتقدر. تضحك معهم وتبتسم لابتسامهم، ويشرق وجهها لإشراق وجوههم: ولكن نفسها كانت تتألم يائسة، وعقلها مرتبك، يقدر ويفكر، ويقرر وينثني عما قرر، ثم يعود فيقرر ثانية، فإذا القرار هو هو. وتقلب الاحتمالات والمنتظرات، تستعرض في خيالها الساعات المقبلة، وقد نظمتها حسبما ظنت ان ستكون. ماذا لو نفذت قرارها؟ ثم تعود فتنثني عنه من جديد؛ لم يرقها ما قدرت، ولكن أي مخلص غيره؟ وأخيراً، لا بد من القرار الأول، لابد منه.

لم يلاحظ عليها الحضور شيئاً، فقد كانت الحركة التي تأتيها في رواحها ومجيئها لخدمتهم - لان أمور المنزل أصبحت كلها لها بعد زواج أختها - التي كانت تساعدها كثيراً على إخفاء ما بها. وانتهى الإفطار فانتشروا في الدار، وأصوات الأطفال المرحة الصاخبة تملأ إسماعهم. وانتهزت هي الفرصة وصعدت إلى حجرتها. خافت أن تعود إلى التفكير فترتبك من جديد، ولقد سئمت الحيرة ولا بد ان تنجو منها، لقد كانت تلهب رأسها.

وصعدت وراءها أختها تناديها، ونادتها فإذا بها قادمة نحوها تصرخ وتتأوه، ووجهها اغبر قاتم، وجسمها يتلوى من الألم، ويداها على معدتها تضغطان بعصبية وتقلص، فصاحت أختها ما بك! ما بك؟ وضمتها إلى صدرها تسندها من الوقوع فوقعتا على الدرج معا. وهزتها ثانية ما بك؟ فتمتمت بصعوبة مريرة متألمة (شربت سما).

كلمتان هما آخر ما نطقت، كلمتان قلبتا العيد مأتما، كلمتان حولتا شابة مليئة بالحياة والنشاط إلى جثة هامدة لا تحس ولا تشعر واجتمع الأهل والصحب والخلان حول ضحية العيد، منهم من أسعفه البكاء فبكى، ومنهم من حيرته الفاجعة فذر بلسانه بأسبابها وصاح يستلهم الجثة جواباً عما حير فكره وصدع قلبه. ومنهم من وجم يستعرض في وحدته صورا تتتالى فلا تشعر ارتباطا في تتاليها ولا أثراً لمرورها في مخيلته. وأخيراً منهم من اختل توازن أعصابه وفقد القدرة على حكمها، فراح لسانه ينطق بكل ما يمر في خاطره المضطرب المحموم وفي الصباح جاءتها صديقاتها بورودهم البيضاء وكأنهم آتون لعرسها، ثم أودعوها حفرة ضيقة وعادوا جميعا وكل منهم يظن انه في حلم مروع يتلمس اليقظة منه فلا يصحو. ومتى كانت الحياة إلا رؤى تتتابع! رؤى نراها أفرادا فنختلف في حقيقتها، ورؤى نراها جماعة فنجمع على حقيقتها؟

أودعوها حفرتها، أودعوها سرى معها، ولكن متى دخل لسان الناس أفواههم؟ متى استراح لسان الناس في اشد المواقف استدعاء للاستراحة؟ هل احترموا جلال الموت؟ هل خشعوا أمام فجيعة مريرة للأسرة بأجمعها؟ كلا! لم يخلق اللسان إلا للكلام، فإذا سكت لم يحقق الغرض من خلقه، وإذا لم يحقق جزء من المخلوقات الغرض من خلقه فقد اختل نظام الكون كله!

وفي العيد تجتمع الأسرة لا على مائدة الإفطار وإنما حول قبرها في مدينة الأموات الهادئة، وهناك تناديها فلا تجيب كما كانت تفعل منذ عام، وهناك تبكيها فلا تشاركها شعورها كما شاركتها الابتسامة والفرح منذ عام، وإنما ترفرف روحها من عليائها رائحة غادية لا ترتبك ولا تضطرب، فليس لديها ما تخفيه وقد حجبها الفناء بأستاره الكثيفة المظلمة.

سهير القلماوي