مجلة الرسالة/العدد 392/البريد الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 392/البريد الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 01 - 1941


1 - متى ينضج الأديب؟

من قراء (الرسالة) شاب يقيم بإحدى قرى المنوفية، وهو شاب يشتعل حماسةّ لأدبه، ويؤمن بأنه مظلوم أقبح الظلم، لأن (الرسالة) لا تلتفت إلى ما يرسل إليها من القصائد الجياد

كتب إليً هذا الشاب منذ شهرين خطابا يشرح فيه الأستاذ الزيات عن فنه الجميل، وكان خطابه قطعة نثرية مقبولة، فرجوت أن يكون شعره مثل نثره، ودعوته إلى إرسال إحدى قصائده (لأتوسط) في نشرها بالرسالة، فجاءت منه قصيدة طويلة تشهد بأنه بعيد من الصياغة الشعرية، وإن كان على شيء من قوة الإحساس. . . وكانت النتيجة أن أشارك هذا الشاب في حقده على الأستاذ الزيات لتغافله عن القيمة (الصحيحة) لأشعار المبتدئين!!

وفي هذا اليوم تلقيت خطابين من هذا الشاب يفيضان بالتوجع والتفجع، وينذران بخاتمة أليمة، إن قصًرت في تشجيعه على نشر ما يريد. والخواتم الأليمة معروفة، وأخفها أن يحبس الشاب نفسه في قرار النيل إلى يوم البعث، بعث الأشعار والأجساد!

وقد تفضل هذا الشاب بإرسال صورته إليً، فقد تبخل الأقدار بأن أراه، وعندئذ تكون هذه الصورة مبعث ندم مقيم على ما ضيعت عليه من فرص التشجيع!

وأجيب بأن لهذا الشاب أن يقتل نفسه حين يشاء، ما دام يتوهم أن الحياة كل الحياة أن ينشر قصيدة في إحدى المجلات، وإن لم يصل إلى النضج الصحيح

لقد قلت ألف مرة ومرة: إن التسامح مع المبتدئين جرم فظيع، لأنه يهوًن عليهم الحياة الأدبية، ويوهمهم أن الأدب لا يفرض على أصحابه تكاليف من الدراية والخبرة والاطلاع على أسرار الوجود

اسمع. يا بني

تنقسم الأخشاب إلى أنواع: خشب للوقود، وخشب للسقوف، وخشب للنوافذ والأبواب، وخشب لدقائق الأثاث، والنوع الأخير هو أثمن الأخشاب فهل تعرف أعمار هذه الأصناف؟

تتفاوت أعمارها بحسب القيمة، فمن الأخشاب ما ينضج في خمسة أعوام، ومنها ما ينضج في خمسين عاماّ، لأن الطبيعة لا تقدر على إنضاج الصنف الجيد إلا في الأزمان الطوال

فكم سنك، يا بني؟ كم سنك، فلن تكون قيمتك إلا بقدر ما أنفقت الطبيعة من الزمن ف تكوين عقلك؟

صورتك تحدثني بأنك لم تجاوز العشرين؟ فهل تصدًق أن الأديب الجيد يتمً لأحد في سن العشرين، تلك أيام خلت، حين كان جمهور الشاعر والخطيب من عوامً الناس، أما اليوم فجمهور الشاعر والكاتب والخطيب، جمهور مزوًد بثقافات لا تخطر لمن كان في مثل سنك على بال، وهو جمهور لا يتصدق على أحد بالمنازلة الأدبية، وإنما يخضع راغماّ لسيطرة العبقريين، أو شهرة النوابغ، فانتظر حظك إن استمعت قولي وأجلت توديع الحياة إلى أجل بعيد

وتقول إنك تحب، وإن لك عواطف تستحق التسجيل فما أنت والحب، وهو من مثلك أشبه الأشياء بعبث الوليد؟ الحب من مثلك فورة سطحية لا تصل إلى أعماق الروح، لأن الحب أيضاّ يفرض ألواناّ من التثقيف، وهي عزيزة عليك، لأنك في سن العشرين، سن الأطفال، فإن لم يكن بد من أن تعبر عن عواطفك فعبًر عنها بأسلوب من يكون في سنك، وذلك بعض الأنامل، أو نطح الجدران، أو الامتناع من تناول الغذاء!!

اسمع، يا بنيً

لعلك خدعت بما كان يقال من بخل الكهول بتشجيع الشباب، فجئت تتهم صاحب (الرسالة) بالتجني عليك، فاعرف الآن أن ذلك اتهام مردود، وإنما الحق كل الحق أنك لم تقدم شيئاّ يحسن عرضه على القراء، فأنت ما زلت في دور التكوين، إلا أن تريد أن يكون عمر مواهبك قريباّ من عمر خشب الوقود، وهذا أيضاّ أنواع، فخشب السنط يحتاج إلى عمر أطول من عمر الصفصاف، ليكون أقوى وأنفع، والقوة والنفع لا يوهبان في الزمن القليل

يجب أن يعرف شبان اليوم أن الصحافة الأدبية ليست ميداناً للتمرين، فالقارىء لا يدفع (القرش) إلا إذا اطمأن إلى أنه سيجد زاداً للعقل والقلب والذوق. والصحافة الأدبية هي عنواننا في الشرق، فيجب أن تكون حروفها من عصارة العقول والقلوب، وتلك هي المزية الأصيلة للصحافة الأدبية في هذا الجيل

أنا هذا، وأنا، فقد كنت أحب أن يكون في الصحافة ميدان للتمرين، ولكن ما الذي يصنع الصحفيون وقد صارت الصحافة من الميادين الاقتصادية، والنضال في عالم الاقتصاد لا يفوز فيه إلا من يقدمون أجود الأصناف؟ قلت لكم من قبل إن الكاتب الذي يعتمد على ماضيه كاتب مخذول، لأن القارىءيحكم على الكاتب بآخر مقال. ولمجلة الرسالة ماض جميل، ولكنها لا تعتمد عليه، وإنما تعتمد على ثروتها الجديدة في كل أسبوع، فاعرف ذلك أيها الأديب المنتظر. أعد نفسك لجهاد الأيام المقبلات. كتب الله لك العافية، ونجاك من جميع الأسواء؛ إنه قريب مجيب.

1 - الى الأستاذ سباعي بيومي

نشرت الرسالة كلمة بإمضاء محمد فهيم عبيد عن كلام وقع منك وأنت تحاضر عن المبرد بمدرسة دار العلوم، فقد تحدثت عن أخلاق الشيخ سيد المرصفي بما لا يليق، فإن كان ذلك الكلام لم يقع منك فانفه في العدد المقبل، وإن كان وقع منك فسارع إلى الاعتذار، إبقاء على ما بيني وبينك من وداد، فما أستطيع السكوت عن رجل يتعرض لأخلاق الشيخ سيد المرصفي بسوء، ولو كان من أعز الأصدقاء

وإلى أن يثبت الراوي افتري عليك، أعلن غضبي على ما بدر منك، فقد كنت أظن أنك تعرف أن الشيخ سيد المرصفي لم تلاميذه يحفظون عهده الوثيق

وسنرى كيف تجيب، إن كنت في العدوان عللا ذلك الرجل العظيم من الأبرياء

زكي مبارك

بحث لا تجريح

عزيزي الأستاذ الزيات

بعد التحية. أرجو أن يتسع عدد الرسالة القادم لرد أطلعني عليه اليوم عبد الرحمن أفندي أيوب الطالب بدار العلوم على التعليق الذي نشر في عدد الرسالة الماضي على محاضرتي (أسلوب المبرد في كامله) ولك الشكر

السباعي بيومي

. . . مسألة المرحوم المرصفي لم تبلغ من الأمر ما وصف، وبفرض ذلك فمنذ متى كان المرصفي من المقدسين الذين لا تجوز تخطئتهم ولا نقدهم؟ وإذا كان لتقدمه في الزمن سلفاّ صالحاّ_كما يعبر الكاتب_مبرأ من العيوب، أفليس من باب أولى أن يكون المبرد تبعاّ لهذا القياس أصلح منه وأقوى لغة وأدباّ وعلماّكما هو الواقع، يزين كل هذا تواضع واعتراف بأن هذا أمر لا يعرفه إذا لم تكن له به سابقة علم، بينما يعبر المرصفي بقوله: (كذب المبرد في هذا)، و (المبرد في هذا كاذب) دون تورع عن هذا التعبير الجاف الجافي

إن الأستاذ السباعي لم يقل عن المرصفي إلا أنه كان يملكه الغرور؛ والمرصفي ذاته يسجل على نفسه هذا في كل ما كتب خاصة في مقدمة (رغبة الآمل وأسرار الحماسة)، وكأنه لا يعترف لأحد سواه بعلم من المتقدمين أو المتأخرين

والأستاذ السباعي في حديثه عن المبرد وما يتصل به إنما يصدر في ذلك عن دراسة بعيدة الأمد؛ فهو قد كتب (تهذيب الكامل) من أكثر من عشرين سنة؛ ثم كانت طبعته الأولى سنة 1923. فهل يستطيع الزميل أن يريني مظاهر الأستاذية بعد أن يعلم أن الطبعة الأولى من رغبة الآمل كانت سنة 1930، وأن فهارس الكتاب وعناوينه تتفق إلى حد كبير مع تلك التي كان أستاذنا السباعي أول من نظمها في كتابه الذي سبق كتاب المرصفي بنحو سبع سنين. أم أن الأمر لا يعدو أسبقية الزمن فيحكم الزميل بهذه الأستاذية في سذاجة سطحية

إن الكمال العلمي لا يهتم كثيراّ بالتوافه، وإن السماحة الفكرية في دار العلوم تسمح بكل شيء إلا التهجم والنيل المستور بستار من الغيرة أو الحماسة للعلماء

عبد الرحمن أيوب

القصص

من أيام الصبا

للأستاذ محمود البدوي

كنا خمسة. . . خمسة من الشبان المتمردين على الجماعة والخارجين على حدود الناس، والذاهبين مع مرح الشباب ولهوه. . . كنا قد انقطعنا عن المدرسة، وتخلفنا عن الرفاق، وسرنا مع نزق الشباب وطيشه، فطردنا من الأهل وحرمنا من الصحب، وتقطعت بنا الأسباب. . . وذهبنا على وجوهنا نبغي العيش من التصعلك والتشرد وركوب متن الأهواء. . . ثم ارتددنا على أعقابنا، وضمتنا القرية الحبيبة بعد طول شتات. . . فانطلقنا نعمل في الحقول ونشرف على حراسة المزارع. . .

وكانت الأيام المشردة قد مسحت ما على أجسامنا من غضارة المدينة ولينها، فالتفت سواعدنا واشتد عودنا، وأصبحنا أقوى ساعداّ وأعظم قوة من هؤلاء الريفيين الذين يقضون حياتهم بين أحضان الطبيعة، ناعمين بالحياة الحرة، في الهواء الطلق، والجو المشمس. . .

كنا جالسين في حقل من حقول المزرعة وحولنا الأجران، والليل ضارب بجرانه والصمت رهيب. . . وكنا قد تأخرنا عن زمن الحصاد، فحرمنا بذلك من أمتع (أيام الصبا) ولهوه. . .

كنا نقف وراء صفوف الحاصدين ونرقب هذه السواعد القوية وهي تطوي سنابل القمح طياّ، وخلفنا الفتيان الأشداء يكومون الأحمال وينيخون الإبل، ونساء الفلاحين يلتقطن السنبل الساقط، ويجمعن قوت الأيام السود. . . وكنا نزجر العجائز الدميمات منهن، وندع الصبايا الجميلات يتوغلن حتى الحقول. . . كانت أسواطنا تخطىء دائماّ. . . ومع ذلك، فما قطعنا القلوب حسرات، ولا ندمنا على ما فرط منا من إثم. . . كنا ذاهبين مع الصبا بقلوب نزقة، لا نحسب لأوضاع الناس حسابا. نتخذ من عطلة الصيف وأيام الحصاد مرتعا خصبا لشبابنا الجامح وعواطفنا الجائشة. . . ونظل النهار بطوله واقفين في قلب المزرة تحت لفح الشمس، لا نكل ولا نمل، لأننا نرى في كل ساعة وجها فاتناّ صبوحاّ من تلك الوجوه القروية النضرة التي تستغرق الطرف، وإن كانت تعيش في ظلام الفقر وبؤسه. . .

فاذا أقبل العشى انطلقنا وراء الإبل المحملة بالقمح، وخلفها الجمالون يحدونها بأصواتهم الشجية. . . حتى نبلغ الأجران، فتناخ الإبل، وتفك عنها أحمالها، وهي تهدر هديراّ قوياّكان يبعث فينا النشاط والحماسة والقوة. . .

فإذا تمت الأجران وعلت كالأطواد اتخذنا من ظلالها

جائزة بابا نويل

ذكرتني مقالة (ذوي السلطان) في بعض أعداد الرسالة الأخيرة بعظيم آخر من المتعاقلين المتعالين كنت مرؤوساّ له يوم نشرت ترجمتي لأقاصيص طاغور، وقد أهديت نسخة منها إليه بمحضر من بعض أصدقائه

قال وهو يتعالم: (طاغور هذا رجل عظيم)

قلت: (هو ممن حازوا جائزة نوبل)

وما كدت ألفظ بكلمة نوبل حتى بدت عليه علائم خيبة الأمل فيً وقال في صوت شديد الدلالة على الأسف: (أو أنت أيضاّ تنطقها بالباء) قلت فما صحتها أفادنا الله بعلمك؟ فقال هي جائزة بابا نويل وقد حذفت كلمة بابا على سبيل التخفيف، ثم شاعت كلمة نوبل من باب التحريف

قلت أفادكما الله! وما أحسب الحائزين لجائزة نوبل إلا فرحين مبتهجين لو ردت إليهم الطفولة فاستبدلوا بالجائزة هدية من هدايا بابا نوبل

وانصرفت مع أحد الذين حضروا الحديث، فقلت له ما رأيك فيما سمعت؟

قال: العلم واسع

قلت: والجهل أوسع

عبد اللطيف النشار

وأوكارها أعشاشاّ لغرامنا. كان كل شيء في تلك الساعات النزقة اغتصاباّ وقسوة. كانت لنا الساعة التي نحن فيها، لم نكن نفكر في المستقبل، ولا كانت عيوننا ترتد إلى الماضي. كنا نطوي الشهور في المزارع بين الرياض والغياض، ولا نرى منازلنا إلا نادراّ. كان من الصعب علينا أن نحبس قوتنا الدافقة وحيويتنا العظيمة بين الجدران. كنا كالأعشاب البرية وهي تنمو تحت أشعة الشمس على أتم غراس وأنضجه، نفتح سواعدنا عندما يشعشع النور ونستقبل بصدورنا ندى الفجر، ونود من قوة عضلاتنا لو نقاتل ونرضي تلك الغريزة الفطرية في الإنسان

كنا مسلحين دائماّ حول أجسامنا أنطقة البارود، فإذا أقبل الليل وضل إنسان العين في سواده، صوبنا بنادقنا في كبد الفضاء، وأطلقنا النار وأرسلنا عيوننا وراء سهام البارود النارية وهي تخترق حجب الظلام الكثيف، وملأنا خياشيمنا برائحة البارود. . .

كانت تلك الليالي من أمتع ليالي حياتنا، وكانت ذكراها تبعث فينا الحماسة والنخوة. . . كنا نذكرها وكأننا ننظر إلى حلم جميل ولى

رحنا نسترجع تلك الذكريات الحلوة ونحن جالسون في هذه الليلة الصيفية المظلمة على جرن عال يشرف على أجران المزرعة، والظلام من حولنا شديد، والمكان موحش رهيب. . .

وكان جرن كبير من الأجران قد ذرىً وأعد قمحه للمخازن. وكان علينا أن نسهر عليه حتى تنطوي فحمة الليل، فأخذنا نتبادل الأحاديث الممتعة ونطرد النوم بكل الوسائل. . .

أوقدنا النار، وشربنا الشاي، ولمعنا البنادق وملأنا خزاناتنا بالرصاص

وكان ينهض واحد منا كل ساعة ومعه كلبان من كلاب الحراسة، فيدور حول المزرعة ويتفقد مرابط الخيل وحظائر الماشية. . .

ونهض أحدنا، وكنا مستغرقين في الحديث فلم نشعر بغيابه. . .، وسمعنا على غرة نباح كلاب شديد قادم من شرق المزرعة. . . ثم ومض البارود، وأز الرصاص، وملأ الدخان عنان الجو، فنهضنا مسرعين واتجهنا إلى الناحية التي سمعنا منها صوت الطلقات. . . ثم خفنا أن تكون هذه حيلة بارعة لتبعدنا عن المزرعة، فعدنا إلى مكاننا وأعيننا لا تتحول عن سهام النيران الحامية. . .

وانقطع صوت النار وبقى صوت الكلاب، وأخذ نباحها يقترب منا. . . ثم برز شبح في الظلام، فصوبنا بنادقنا وهتفنا بالقادم. . . فرد علينا اسماعيل (أحد رفاقنا) بصوت أجش. . . واقترب منا وهو يلهث، ووجهه يتصبب عرقاّ، وغدارته تفوح منها رائحة البارود. . .

فصحنا في صوت واحد

- وهل أصبت. . .؟

- لا ولله الحمد. . . وإنما كدت أن أقتل. . . وكل ذلك بسبب هذين الملعونين. . .

واستطرد وهو يشير إلى واحد من الكلبين

_ لن ترافقني مرة أخرى يا مسعود!

فسأله رفيق له:

_ هل مررت على القرية؟

فأجاب في إيجاز متعمد:

_ أجل. . .

_ وهل كان من الضروري ذلك في هذه الساعة من الليل. . .؟

_ أجل. . . كنت في حاجة إلى تبغ. . .

_ أكنت في حاجة إلى تبغ أم كنت في حاجة إلى شيء آخر. . .؟

فصمت ولم يجب على أن وجهه كان ناطقاّ بفعلته. . .

وسأله أحدنا مازحا: _ أكنت تعس حول المزرعة أم كنت تسطو على بيوت الناس؟. . . هكذا والله هي الحراسة. . .

وضحكنا جميعاّ، وعدنا إلى مكاننا الأول من الحقل، وجلس اسماعيل ناحية، وأخذ يمسح بندقيته، وعلى وجهه سمات من ارتد خائبا بعد جهاد طويل

وسأله أحدنا:

_ ولكن لماذا أطلقت النار. . .؟

_ أنا لم أبدأ بإطلاق النار، وإنما هم الذين بدأوا. . .

_ هم. . .! من هم. . .؟ من الذي أطلق عليك النار. . .؟

_ بصر بي بعض الفلاحين عندما نبح هذا الكلب الملعون وظنوني لصاّ. . . وكنت على قيد أذرع من خبائها. . . فأطلقوا النار في الهواء. فغبت في جوف الظلام وأطلقت طلقتين معاّ. . وجريت. . . وحلت لي هذه المطاردة وتصورت نفسي لصاّ يبغي السرقة لا مخلوقاّ دنيئاّ يسطو على خباء امرأة في غلس الليل وتحت ستاره! وبادلت الفلاحين الطلقات السريعة. فظنوني عصابة كاملة من الأشقياء ثم راوغت تحت جناح الليل ووليت هارباّ

_ ما كان أحلاها قتلة. . .!

_ أجل والله ما كان أحلاها قتلة. . . وما كان أطيب وقع النعي على نفسها. . .!

وقال عثمان وهو يبتسم ابتسامة عريضة وكان أشد رفاقنا بطشاّ وأعظمهم قوة:

_ أي مشقة يلقاها الرجل دائماّ وهو في طريقه إلى الرذيلة ومع ذلك لا يزجر. . .!

وصمت برهة ليشعل لفافة تبغ. . . والابتسامة لا تبارح وجهه القوي التعابير الدقيق الملامح. . . ثم أجاب على سؤاله بنفسه:

_ لماذا؟ أجل لماذا؟ ألأن ركوب الصعب من الأمور دائماّ شائق، أم لأن الاستيلاء على ما في حوزة الناس فيه إمتاع ولذة؟ ماذا كان يحدث يا صاح لو رآك زوجها. . . أي موقف حرج. . . دفعت نفسك فيه. . . وأي مصيدة؟ أنا أعرف أن المرأة هي علة الشقاء الإنساني. . . كما أنها قد تكون علة هنائه أيضاّ. . . ذكرتني أيها الأخ الشهم. . . بحادث كدت أن أنساه فما تحدثت به لإنسان؛ بيد أني أشعر برغبة قوية تدفعني إلى أن أقصه عليكم. . .

فسررنا وتوقعنا في حديث صاحبنا مغامرة ممتعة نتسلى بها حتى انبلاج الصبح

ونظرنا إليه في شوق ولهفة، وكان قد أطرق، ثم رفع وجهه وقد غامت عيناه قليلاّ، ثم لانت ملامح وجهه. وأنشأ يقول بصوت واضح النبرات:

_ كنت في التاسعة عشرة من عمري وفي أول دراستي العالية، وكان قد مضى عليً سبعة أعوام في القاهرة قضيت جانباّ منها مع بعض أقربائي، ومضيت الجانب الآخر مع بعض الأسر الفرنجية التي تنزل عن غرفة من سكنها للطلاب البعيدين عن أهاليهم. . . وكنت دائماّ أتخير الأسر الهادئة الكريمة الخلق وأقمت مرة مع سيدة أجنبية، وكانت صبية جميلة وحديثة العهد بالقاهرة. وكان زوجها يعمل سحابة النهار وجزءاّ كبيراّ من الليل، وكنت أرجع من المدرسة في الساعة التي يكون فيها الرجل قد عاد من عمله. . . ولهذا ما كنت أراه إلا نادراّ. وكانت الزوجة مع جمالها دمثة الطبع، طيبة الأخلاق؛ فأخذت تعني بي عناية فائقة: ترتب غرفتي، وتنظم كتبي، وترتق ملابسي الممزقة وتعمل لي أكثر مما تعمل لزوجها. وكانت تحب أن ترى ما في القاهرة من حسن، فزرنا معاّ أجمل الضواحي وأنضر البساتين، وهي تزداد بي كل يوم تعلقاّ وألفة، حتى توثقت بيننا عرى المودة وأصبحت تترقب عودتي من الجامعة أكثر مما تترقب عودة زوجها من عمله، وأصبحت ألج عليها غرفتها في أي وقت، وأراها على أي حال تكون عليه. . .

ومرت أيام وأنا لا أحس بوجود الزوج معنا في منزل واحد وأصبحنا من وفرة السعادة كأننا في حلم جميل. . .

رجعت مرة إلى المنزل ساعة الظهر فلم أجد السيدة في ردهة البيت كعادتها، وكنا في قلب الصيف، والحر شديد فتمددت عل فراشي ونمت. واستيقظت قبل مغرب الشمس وهتفت باسمها فلم تجب. . . فنهضت من فراشي ومشيت نحو فسحة البيت فرأيت باب غرفتها موارباّ فأدركت أنها نائمة

وحركت بابها برفق. . . ودخلت وعيني على السرير. . . فوجدت جسماّ ممدداّ ملتفاّ في ملاءة بيضاء. . . وحلى لي أن أداعبها قبل إيقاظها فتقدمت من السرير حتى قربت منها وجذبت رجلها فلم تتحرك. . . فتحولت إلى خصرها ودغدغتها. . . ووقفت أرقب حركة جسمها وأنا لا أكاد أتماسك من مغالبة الضحك المكتوم. . . وتحرك الجسم أخيراّ وانزاحت الملاءة. وظهرت مقدمة رأس. . . رأس صلعاء. . .!

فذهلت وسمرت في مكاني مبهوتاّ

_ كان وجه زوجها. . .؟

_ أجل. . .

فانفجرنا ضاحكين. . . ولما هدأت عاصفة الضحك عاد الصديق إلى حديثه

_ كان موقفاّ حرجاّ. . . فشدهت. . . ووقفت ذاهب النفس وجسمي يتصبب عرقاّ. ثم رأيت نفسي أقول في غضب بصوت المحموم:

_ سأغادر الغرفة يا سيدي. . .!

فنظر إلى الرجل دهشاّ. . . وقال وهو يصعد في بصره:

_ ستغادر الغرفة! ما السبب يا سيدي! ما الذي جرى؟

_ أثاث الغرفة رث. . . ثم هي بعد ذلك متناهية في القذارة

_ كيف ذلك يا سيدي وقد جئنا لك بكل شيء جديد؟

_ أبداّ إنها غاية في القذارة

وتدفق من فمي كلام لا أعرف له مرمى وكان لا بد من ذلك لأنجو بأعصابي

وعدت إلى غرفتي وأنا لا أكاد أتصور شيئاّ مما حدث، ولازمتني حالة من الهدوء غريبة. . . ثم لبست ملابسي وخرجت إلى الطريق. . . وهنا عادت إليً الخواطر وأخذت أتصور الموقف على شناعته وحال الزوج بعد أن يرجع إلى نفسه ويدرك أني كنت متهجما على مخدع زوجه. . . وواضعاّ يدي على سريرها. . . وجسمها. . .!

وظللت جزءاّ كبيراّ من الليل وأنا متردد بين العودة إلى المنزل أو إيفاد صديق ليجيء لي بمتاعي وكتبي. . . ثم رأيت الرأي الأول واتجهت صوب البيت وأنا مقدر كل الأحداث. . وكان الزوجان قد ناما. . . وبقيت أساهر النجم حتى الصباح. . .

ورأت الزوجة في اليوم التالي جالسة تقرأ في كتاب على أريكة في الردهة. . . فمررت بها وأنا أذوب خجلاّ. . . وتطلعت إلى وجهها فرأيته لا ينم على شيء مما حدث بيني وبين زوجها، فقد كانت تبتسم في مرح. . . فغاظني هذا وبلغ مني الألم مبلغه

وقضيت بعد ذلك أياماّ في البيت ونظري لا يقوى على مجابهة الرجل، وكان يغيظني منه بروده وهدوءه وامتلاكه زمام أعصابه وكنت أتخيل أنه بلغ مبلغاّ هائلاّ من خبث الطوية وبراعة الحيلة وأرى في صمته تبييتاّ لأمر في نفسه، وكنت أود لو يثور ويضاربني وتنتهي المعركة بيننا مع أسوإ الفروض

وجاءت عطلة العيد فبارحت الغرفة إلى الريف ولم أعد إليها بعد ذلك أبداّ. . . تركتها فخلفاّ فيها أمتعتي وكتبي. . . وهي تذكار دائم على أيام هنية

ولا زلت أرى المرأة وزوجها كلما ذهبت إلى القاهرة. . . وأغلب الظن أنهما لم يغيرا المنزل. . . كما أن الرجل لا يزال على حاله هادئاّ بارد الطبع لا تعبر ملامح وجهه عن حزن أو فرح أو أي انفعال نفساني. . . أو عاطفة من عواطف الجنس البشري أما المرأة فقد أصيبت بأزمة نوعا!

وفرغ صاحبنا من قصته وانطلق يدخن، وعدنا نشرب الشاي، وكان الفجر قد قرب وبدت خيوط النور في الشفق، فدرنا حول المزرعة لآخر مرة، وكنا قد تعشينا في أول الليل، فلما دنا الفجر أحسسنا بجوع شديد وكان الطعام سيجيء إلينا عند الشروق ولا طاقة لنا على انتظاره فقد اشتدت وطأة الجوع وأخذت بطوننا تعصرنا عصراّ. . .

وبعثنا اثنين منا إلى حديقة كروم قريبة ليحملا لنا منها ما يمسك بطوننا. وجلسنا في انتظارهما بصبر فارغ وقد انقطعنا عن الحديث. وإذا بنا نسمع نباح كلاب المزرعة فجأة. فصوبنا أبصارنا تجاه الصوت فرأينا غباراّ شديداّ يسد عرض الأفق. ومددنا أعناقنا فأبصرنا قطعاناّ كبيرة من الضأن قادمة من الطريق الزراعي الكبير ومتجهة إلى بعض القرى القريبة. . . وظهر أمامنا رجلان ضخمان يلوحان بعصوين طويلتين. . . وحول القطيع كلاب كاسرة تطوقه من كل جانب وخلف القطيع امرأة ترتدي دثاراّ أسود فاحماّ. . . وتهش بعصا رقيقة على الغنم وتزجر في صوت رنان كلاب المزرعة عن كلابها. . .

وقربت القطعان منا. . . وكان أحد الرجلين معلقاّ في عنقه مزماراّ طويلاّ. . . أما الآخر فكان يحمل على ظهره قربة ضخمة فيها متاعهم. . . وأخذنا نرقب القطيع بعيني الصقر حتى بعد عنا فشيعناه بأبصارنا وبطوننا الخاوية تمزق أحشاءنا. وحدجنا الأحمال الصغيرة التي تتوثب حول القطيع الماضي في طريقه بعيون جائعة ومر في ذهننا خاطر سريع ودون أن ننبس بكلمة انسللنا في أثر القطيع متجنبين طريقه. . . وجرينا شوطاّ، ثم كمنا في جرن كبير من أجران القمح الهش في أقصى المزرعة ومرت قطعان الضأن وملأ خياشيمنا الغبار المتطاير من أرجلها. وكانت المرأة لا تفتأ تتلفت يمنة ويسرة وتضرب الصغار بعصاها. . . وجاوزوا حدود المزرعة وابتدأ الرجل حامل المزمار يزمر، ومدت القطعان أعناقها ثم تقدمت في صمت وسكون عجيبين. وانقطعت المرأة بعد صوت المزمار عن الكلام، وسكنت حركة الكلاب وانقطع نباحها. وكان في القطيع حمل صغير ما فتيء طول الطريق يتوثب ويركض في كل اتجاه، ويضرب برجليه الأرض. فلما سمع صوت المزمار سكن أيضاّ واستقام بأعجوبة كسائر رؤوس القطيع. . . وكنا قد تهيأنا له لنقتنصه. . . فما سمعنا صوت المزمار حتى شلت أيدينا وعجزنا عن الحركة، وبقينا ممددين على الأرض وعيوننا تتطلع إلى السماء وتتأمل النجوم. . . ورجع المزمار الحلو يتردد. كان كأنه مزمار داود يبعث من وراء الأجيال ويدوي وحده في هذا الليل وهذا السكون. ظللنا في مكاننا حابسين أنفاسنا، وصوت المزمار يهفو، والقطيع يسير، ونحن نرقبه عن بعد ولا نستطيع أن نتحرك

ورجعنا إلى مكاننا من الحقل ونحن لا نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة الغريبة التي اعترتنا في تلك الساعة. أكان ذلك من تأثير الموسيقى، أم شعور آخر أيقظته الموسيقى

وعاد الرفيقان الذاهبان في طلب الكروم. . . وكان أحدهما يحمل كروماّ، أما الآخر فكان يحمل شيئا ّآخر. . . كان يحمل حمل الضأن الذي أفلتناه من أيدينا

وأشعلنا النار وشويناه. . . وكنا ننظر إلى اللهب الأحمر وهو يشوي لحمه. . . ونتصوره منذ لحظات وهو يجري ويتوثب بين رفاقه مرحاّ سعيداّ طروباّ، فيعصر الهم أفئدتنا

ولما جلسنا نأكل انقطعنا جميعاّ عن الكلام كأن على رؤوسنا الطير. وكانت كل قطعة من اللحم تستقر في جوفنا تمزق أحشائنا تمزيقاّ. . . كنا نتصور أن الحمل لا يزال يجري ويتوثب والقطيع يسير والمزمار يزمر

محمود البدوي