مجلة الرسالة/العدد 393/العقد الفريد

مجلة الرسالة/العدد 393/العقد الفريد

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 01 - 1941



للأستاذ محمد سعيد العريان

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

قد قَّدمنا القولَ في صدر هذا البحث أنه لم يسبق ابنَ عبد ربه إلى التأليف في باب الأخبار والنوادر على هذا النحو إلا ثلاثةُ نفر: الجاحظ، وابن قتيبة، والمبرّد.

أما الجاحظ والمبرّد فقد كان لهما نهج في التأليف يخالف نهج العقد، على اتفاقهما ما في الموضوع والغرض؛ فكان انتفاعه بما اطلع عليه من مؤلفاتهما في المادة لا في الطريقة. وأما ابن قتيبة، فإن بينه وبين عبد ربه مَشابهَ من وجوه، حَمَلتْ بعض الباحثين على الزعم بأن صاحب العقد كان في نهجه وفي تبويبه لاحقاً مقلّداً، بل قد غَلاَ بعضهم في الاستنساخ فزعم أن ابن عبد ربه قد سطا على كثير من كتب ابن قتيبة، فنقلها نقلاً إلى عقده بحالها من غير تغيير كبير. وإنه مما يقوّي هذا الزعم، تلك الشهرة العظيمة التي كان يحظى بها ابن قتيبة عند أهل الأندلس، حتى كانوا يتهمون من خلت مكتبته من مؤلفاته. ولكن العقد الفريد على الرغم من ذلك غير عيون الأخبار، وابن عبد ربه غير ابن قتيبة، ولكل من الرجلين شخصيته المتميّزة بوضوح من خلال مختاراته، ولكل منهما مزاجُه وروحه ومذهبه وجوُه الذي يعيش فيه ويصدر عنه؛ فسواء كان هذا الزعم صحيحاً أو مبالغة في الاستنتاج، فلن يضيرَ صاحبَ العقد شيئاً، ولن ينقص شيئاً من قدر كتابه، إذ كانت المادة التي اجتمع منها الكتابان ليست ملكاً لأحد الرجلين، ولا هي أثراً من إنشائه الأدبي الخالص؛ ولكنها تراثُ مشترك يتوزَّعه أبناء العربية مما خلَّف آباؤهم.

. . . وليس معنى أنه لم يسبق ابن عبد ربه في بابه إلا هؤلاء النفرُ الثلاثة أنه لم يأخذ عن غيرهم، ولكن الذي نعنيه أن انتفاعه بكتب هؤلاء النفر كانت أظهر دلالة على نفسها، وإلا فقد كانت مكتبة قرطبة لهذا العهد حافلة بطائفة من الكتب لم يجتمع مثلها في زمان في مكان، فلا بد أن يكون ابن عبد ربه قد استعان منها بالكثير إلى جانب ما أخذ من أفواه العلماء المغاربة الذين كانت لهم رحلة إلى المشرق أذاعوا بها علم العربية بين الشرق والغرب.

ويقول الأستاذ أحمد أمين عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة، في بحث نشره للت بصاحب العقد (مجلة الثقافة، العدد 94 - 15 أكتوبر سنة 1940): (إن أمالي أبى علي القالي كانت هي النواة الأولى التي بذرها أبو علي في الأندلس من علوم المشرق، وعليها تخرج مشهورو الأدباء في الأندلس، ومنهم ابن عبد ربه. . .)

وظاهر الكلام الأستاذ العميد صريح في أن ابن عبد ربه كان لاحقاً لأبى علي القالي، وأنه من تلاميذه، وأن كتاب (الأمالي) أسبق من (العقد الفريد)، وأنه أول ما نقل إلى المغاربة من علم المشرق. . .

وأرى هذا كله خطأ لا يستند إلى دليل من التاريخ، فقد كان مَقْدَم أبى علي القالي إلى الأندلس بعد وفاة ابن عبد ربه بسنتين وأشهر (توفي ابن عبد ربه بقرطبة سنة 328، وكان مقدم أبى علي القالي في إمارة عبد الرحمن الناصر سنة 330)، وكان تأليف كتابه الأمالي بعد مقدمه بسنين؛ إذ كان هذا الكتاب هو مجموع محاضراته في جامع قرطبة.

فإذا أضفنا إلى ذلك أن ابن عبد ربه قد فرغ من تأليف كتابه (العقد) في سنه 322 على ما نرجحه، وقدرنا المدة التي أملى فيها أبو علي محاضراته في جامع الزهراء قبل أن يجمعها في كتاب ببضع سنين، كان لنا من ذلك برهان لا يدفع بأن العقد الفريد كان أسبق من الأمالي ببضع عشرة سنة؛ فلا وجه هناك للقول بأن ابن عبد ربه كان من تلاميذ أبى علي، وبأن كتابه على منهاجه.

وأما قوله إن كتاب الأمالي كان النواة الأولى من علم المشارقة في الأندلس، فينقضه ما كان معروفاً قبل ذلك في الأندلس من كتب القوم، حتى روى ابن كثير في تاريخه: أن أهل المغرب كانوا يتهمون من لم يكن في بيته من مؤلفات ابن قتيبة شيء؛ (توفي ابن قتيبة سنه 276، وكان مولد أبى علي سنه 288)، وكان للمغاربة من العناية بتحصيل علم المشرق والتكبير إليه ما دعا المستنصر إلى أن يرسل وراء النسخة الأولى من كتاب الأغاني لأبي الفرج فيشريها بألف دينار. . .

أضف إلى ذلك أن رحلة المغاربة إلى الشرق كانت متصلة لطلب العلم منذ أوائل القرن الثالث؛ فلا يمكن مع هذا أن يكون علم أبى عليَّ جديداً على أهل الأندلس في أواسط القرن الرابع، وأن يكون نواة وقدوة، ومنشئ مدرسة يتخرج عليها مثل ابن عبد ربه مؤلف العقد. . . . . .

ويتحدث ابن عبد ربه في مقدمته عن (تأليف الاختيار وحسن الاختصار)؛ فأي معنى لما يذكر من حسن الاختصار في هذا المقام؟ أتراه يعني حسن الاختصار في المجموع، أو في كل خبر على حدته؟ أعني: هل كان ابن عبد ربه يروي الخبر بحروفه كما سمعه أو قرأه من غير اختصار فيه، وإنما كان يختصر في كل جملة ما يروي من الأخبار بحيث لا يثبت منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، أو كان يختصر الخبر نفسه فيحذف من حروفه ما يحذف وينقص ما ينقص ذهاباً إلى الاقتصاد في التعبير عن المعنى الذي ينقله؟. . .

أقول: هذا كتاب العقد بين أيدينا، وقد نظرت فيه طويلاً، وعاودت النظر مرات؛ فبدا لي من طول المراجعة أمر لا بد من التنبيه إليه: ذلك أن بعض دواعي ابن عبد ربه في تبويب كتابه، كانت تقتضيه أن يثبت الخبر مرات في أبواب متفرقة، لصلاحيته للدلالة في أكثر من موضوع واحد؛ فإذا أنت حققت النظر في هذه الأخبار المكررة فقلَّ أن تجد منها خبراً مروياً في موضعين بحروفه على وجه واحد؛ فثمة الحذف والزيادة والإبدال؛ وليس هناك من سبب - فيما نرى - لهذا الاختلاف في رواية خبر واحد في كتاب واحد لمؤلف واحد إلا أن يكون المؤلف يملك من حرية التصرف في رواية هذه الأخبار ما يسمح له أن يرويها بلغته، ويؤديها على الوجه البياني الذي يراه؛ فهو يرويها بالحذف والاختصار حيناً، وبالبسط والزيادة حيناً آخر؛. . . فهل كان ذلك بعض ما يعنيه ابن عبد ربه بـ (حسن الاختصار)؟. . .

. . . ولقد يكون هذا الخلاف في رواية خبر واحد نتيجة لازمة لاختلاف الرواة الذين ينقل عنهم، أو نتيجة لازمة لاختلاف الكتب التي ينظر فيها ويقتبس منها؛ ولكن كيف يكون التعليل حين يكون راوي الخبر في الموضعين واحداً، والكتاب المنقول عنه واحداً كذلك؟. . .

أظن أنه يحق لي بإزاء مثل ذلك أن أزعم بأن ابن عبد ربه لم يكن ينظر إلى شروط الرواية تلك النظرة المتحرجة التي تفرض على مثله في هذا المقام أن يلزم جانب الحرص في المحافظة على نص ما يرويه بحروفه، وأنه كان يجيز لنفسه أن يتصرف في رواية بعض الأخبار تصرفاً يؤدي بها معناها دون حروفها؛ وأحسب ذلك يصلح تعليلاً لانفراد ابن عبد ربه في بعض ما ورد في كتابه من نصوص تخالف ما أجمع عليه رواتها في مختلف كتب الأخبار والنوادر؛ وأحسبه كذلك سبباً فيما ألتزمه صاحب العقد ونبه إليه في مقدمته، وهو حذف الأسانيد فيما روى من أخباره

فإذا صح ذلك، كان العقد إلى جانب ما قدمنا من التعريف بمزاياه، مرجعاً لغوياً يمكن الاستناد إليه في بحث شيء من التطورات اللغوية لبعض معاني العربية بين الشرق والغرب.

صحيح أن بعض هذا الاختلاف في رواية بعض الأخبار قد يكون مرجعه رواة الكتاب نفسه وكتبَته ونساخه، ولكن ذلك إذا صح في قليلها لا يصح في سائرها؛ وقد نبهنا في هامش هذه الطبعة إلى كثير من أنواع هذا الاختلاف، فليرجع إليها من شاء للنظر والاستدلال.

بقى أن نسأل: لماذا قصر ابن عبد ربه كتابه على أخبار المشارقة وهو من هو علماً وتحصيلاً ومعرفة بآداب قومه، وقرطبة هي ما هي في ذلك العصر الزاهر في الأدب والعلم والفن والسياسة؟

تعليل ذلك سهل ميسور لمن يعرف تاريخ ذلك العصر في قرطبة وبغداد حاضرتي البلاد العربية في الغرب والشرق.

لقد كان فرار عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان إلى الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية في المشرق، محاولة جريئة لإقامة حكومة أموية في المغرب بإزاء الحكومة العباسية في بغداد؛ ولقد حالف التوفيق عبد الرحمن الداخل فتم له كثير مما أراد، وأقام عرشاً لبني أمية في الأندلس يتوارثه بنوه سيداً عن سيد، كلهم يحرص على النهوض بدولته إلى المنزلة التي يجعلها تناظر بغداد؛ فمن ذلك كانت المنافسة بين الدولتين في الشرق والغرب دائبة لا تني، وكانت الوفود لا تفتأ ساعية بين الحاضرتين، فلا يظهر جديد في بغداد حتى يكون نبؤه في قرطبة، ولا ينجم نجم في قرطبة حتى يذيع خبره في بغداد؛ واتخذت المنافسة بين الدولتين مظهراً علمياً يبدو أثره فيما كان من اهتمام المغاربة بالرحلة إلى الشرق للتزود من معارفه، وفيما كان من تطلع المشارقة إلى الأندلس ليعرفوا كل جديد من خبره وما أحدث علماؤه وأدباؤه في مختلف فروع المعرفة.

على أن المغاربة مع ما كان فيهم من اعتداد بأنفسهم وعصبية لبلادهم لم يكن منكوراً لديهم أن علم العربية في المشرق كله، منه نشأ وفيه نما وربا، فكانت إليه أنظارهم، وإليه حجتهم وقبلتهم، ولا يتم تمام العالم منهم - عند الرؤساء وعند العامة - إلا أن يكون علمه مشرقياً.

وكما نشاهد في مصر لعهدنا من يتزيد في الفضل بكثرة ما يروى من علم الأوربيين وما يقص من مشاهداته لديهم وما يروى من أخبارهم - كان هنالك في ذلك العهد. . . . . .

. . . وفي ذلك العهد كان ابن عبد ربه، وكأني به وقد رأى المنزلة التي ينزلها علماء المشارقة من نفوس قومه، والمكان المرموق الذي تحتله مؤلفاتهم وكتبهم؛ حتى كان شأن ابن قتيبة وكتبه عندهم ما قدمنا - كأني به وقد رأى ذلك، فدبر أمراً، وأحكم خطة، واتخذ طريقاً؛ ثم خرج على الناس بكتابه يقول: هاأنذا، وهاهم أولاء!

وكان علماء الأندلس يرحلون إلى المشرق، فرحل المشرق إلى الأندلس في كتاب ابنِ عبد ربه. . .!

ذلك وجه الرأي فيما أحسب لاقتصار كتاب ابن عبد ربه على أخبار المشارقة إلا قليلاً منه، لا أرى ذلك وجهاً سواه.

ورحل كتاب ابن عبد ربه إلى المشرق تسبقه شهرته، ووقع في يد الصاحب بن عباد، فأقبل عليه مَشُوقاً ملهوفاً يلتمس فيه عْلَم ما لم يعلم، فما هو إلا أن نظر فيه حتى طواه وهو يقول أسِفاً: (هذه بضاعتُنا رُدَّت إلينا!). . . ثم دار الزمان وجدَّت الحوادثُ في آثار العرب، فأخذتْهم بالسنين ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وتبعثرت المكتبة العربية فخلتْ بعد امتلاء؛ ولكن علم المشارقة ظلَّ محفوظاً بين دفتي كتاب ابن عبد ربه المغربي الأندلسيَّ القرطبي. . .!

هذا، وقد كان كتاب العقد من بعدُ، مرجعاً له خطره ومقداره عند كثير من علماء المشارقة؛ فنقل عنه القلقشندي في صبح الأعشى، والنويري في نهاية الأرب، والأبشيهي في المستطرف، والبغدادي في خزانة الأدب، وابن خلدون في المقدمة، وغير هؤلاء كثير؛ حتى قل أن يخلو كتاب من كتب النوادر بعدُ إلا كان العقد مرجعه وخزانة علمه. ولو أنني ذهبت أستقصي أسامي الكتب التي سطا أصحابها على العقد فاحتملوا من خزائنه ما أغناهم وذهب بشهرتهم كل مذهب لأعياني البحث وانقطع بي دون الاستقصاء.

محمد سعيد العريان