مجلة الرسالة/العدد 394/خواطر مريض

مجلة الرسالة/العدد 394/خواطر مريض


عقدني (الروماتيزم) شهراً بالسرير لا أتورَّك ولا أتحرك. وكانت دنياي في هذه الفترة الفاترة قد انحصرت في غرفة المرض كما تنحصر دنيا الطائر السباح في القفص، أو حياة المخاطر الطماح في السجن. فالنشاط الحيوي الجياش بالعمل والأمل ينقلب في المريض والسجين نوعاً من الهدوء الفلسفي الصوفي يردُّ كل ثورة إلى السكون، ويروض كل رغبة على الرضى، ويزيل عن البصر والقلب غشَوات الباطل فيرى المرء كل شيء على طبيعته، ويدرك معنى على حقيقته

أين القفص الضيق الحاصر من جو السماء يسبح فيه الطائر ملء جناحيه، فيرى في كل دوحة عشاً لحبه، وفي كل روضة مسرحاً لغنائه؟ ولكن البلبل الأسير يعرف بعد قليل كيف يطوى جناحيه على الصبر، ويختصر سماءه وهواءه وأرضه وروضه في هذه الأسلاك المعدنية الباردة يغرد بينها ويثب فوقها ويستقبل الصباح بمرح النشوان، والمساء بهدوء الخليّ

وأين السجن الموحش المظلم من رقعة الأرض يضرب فيها المغامر طليق العنان حر الإرادة، يفترس مع القوة، ويختلس مع الضعف، ويجمع فيشح، ويطمع فيهتلك؛ ولكن أشعب السجين يعرف كيف يرد طماحه، فيرى في جدران السجن حدود مطامعه وغاية دنياه، فيسخر من كيد المنافسة وبغي الخصوم، ويخطو بأنفاسه الرخية إلى أجله وهو زهيد العين مطمئن الجوانح

كذلك أنا: وجدتُني بعد معركة رابحة على أمر من أمور الدنيا دارت ثلاثة أشهر بين العجز والفقر يقودهما الحق الهيوب في صف، وبين القدرة والغنى يؤيدهما الباطل الجريء في صف آخر. وجدتني بعد هذا الجهاد على سريري كما يكون الميت في نعشه! غير أن الميت فقد الحس والوعي فلا يتألم ولا يتكلم؛ أما أنا فكنت قوي الشعور بالألم، شديد الرغبة في الكلام، أبصر في كل صباح حواجب الشمس تنفذ إليَّ من خلال الزجاج رخية لينة، فتغمرني بالدفء، وتشِيع فيَّ سر الحياة، وتُسكت عني صوت المرض؛ ثم تتركني لتعطي الدنيا الكبيرة، ما أعطته دنياي الصغيرة، وأظل أنا محدود الآمال مردود المطامع لا يصلني بحياة الناس غير طنُفٍ تتمثل عليه طول النهار صباحة الشباب في أفواف الربيع؛ والشباب الجميل لا يعنيه إلا أن يُعجب ويجذب ويلذ تلك هي حياتنا الدنيا! أراها من وراء المرض على لونها الأصيل ووضعها الحق: ظاهرةٌ متغيرة من ظواهر الطبيعة المتجددة، مَثَلها في الإنسان كمثلها في الحيوان، تعيش بالغذاء إلى أمد مأمود، وتبقى بحفظ النوع إلى أبد محدود.

ولو لم يتدخل الإنسان بعقله وعلمه في نظم الطبيعة لجرى تيار الحياة دفاقاً مستقيماً في مجراه المرسوم المحتوم كما يجري في النبات الوحشي والحيوان الأبد. ولكن آدم جعله الله خليفة في الأرض فلا بد أن يكون كل ما فيها خاضعاً لتدبيره مسخراً بأمره. وكان أمره وتدبيره على الرغم من اعتماده فيهما على دين الله وفلسفة العقل لا يخلصان من سلطان الهوى وطغيان الغريزة؛ ومن أجل ذلك كانت حياة الإنسان وحدها عرضة للتعقيد والارتباك والتناقض

ومن أعجب أمور الإنسان أنه وحده الذي فطن عن طريق العيان والبرهان أن حياته على هذا الكوكب الفاني موقوتة؛ ومع ذلك كان وحده الذي استعمر هذه الأرض على أنه باق وهي خالدة؛ فهو يكدح حتى ما يعرف طعم الراحة، ويجمع حتى ما يدري معنى الإنفاق، ويسلب أخاه أو وديده حق الحياة ونعمة السلام ليزيد في ماله الضخم قطعة، أو يضم إلى أرضه العريضة رقعة. وقد سول له غروره أن يتبجح بأنه سخر الطبيعة لخدمته، وذلل قواها لمشيئته؛ والحق الذي طمسته الكبرياء في ذهنه أن نوعه هو الوحيد في أنواع الحيوان الذي استخدمته الطبيعة ليعمرها بعمله، وينظمها بعلمه، ويزخرفها بفنه، ويهيئ لها أسباب الازدهار والاستمرار والنمو بما يبتكر من وسائل، ويسن من نظم، ويؤثل من مال، ويدخر من رزق

والطبيعة كما تستخدم الإنسان في البناء لاطراد العمران، تستخدمه في الهدم لحفظ التوازن، فهي تستعين بحروبه الطاحنة كما تستعين بالبركان والفيضان والموئان على قطع الفاسد، وحذف الزائد وتجديد البالي، وتعديل القُوًّى، وكفكفة الباطل هؤلاء الذين يجمعون ما لا ينفقون، ويبنون ما لا يسكنون، ويدخرون ما لا يأكلون؛ وأولئك الذين زعموا لقومهم سيادة العالم، وأجازوا لأنفسهم قتل الشعوب، ووقفوا على شهواتهم طيبات الأرض، قد استقلتهم إرادة الطبيعة القهارة التي لا تعرف اليوم ولا المكان ولا الفرد، وإنما تعمل للأبد والكون والجنس الغذاء والماء والهواء والمأوى وصلات الجنس هي النعم المبذولة لكل حي بحكم وجوده، فلو كان مما ينفع الطبيعة ويصلح الأرض سلامُ الناس وهدوء العيش لألهمتهم القناعةَ وعودتهم الرضى وجنبتهم الأثرة؛ ولكن فوضى الطبيعة هي نظامها المطرد، وفسادها الظاهر هو صلاحها المضمر؛ والفرد هو الأضحية المحتومة لبقاء الجنس، والحاضر هو القنطرة المهدومة لعبور المستقبل!

في المرض يزداد يقين المرء بأن الدنيا زائلة، فهو يأسى على ما جنى ويندم على ما جمع؛ ولكنه حين يصح تمتد آماله وتتشعب مطامعه ويعود عبداً للطبيعة يعمل لأنها تريد، وينفذ لأنها تحكم، فليت شعري إذا عقل كل الناس فعمل كل امرئ ما يلزم، وقنع بما يقوت، وكيف عما لا يحل، فبماذا يشتغل قضاة المحاكم وقواد الجيوش وصناع الأسلحة ورؤساء الأحزاب؟

وأوشكت يدي من برح الألم أن تقف! فعسى الله أحكم الحاكمين أن يبتلي الدكتاتورين الكبير والصغير بروماتيزم العقل والقلب فتقف رحى الحرب وتغلق أبواب جهنم!

الشمس تجمع هلاهل نورها على المنازل العالية لتهرب من رؤية الأكداس المكدسة من جثث الإنسان على عُدَّوتي البحر الأبيض. وفتاة الطُّنف الحسناء تلم غسيلها المنشَّر لتغلق عليها الباب من البرد القارس. وليل (طوبة) الطويليقترب بأوصابه رويداً من المريض المسكين! فاللهم حنانيك ورحماك!

أحمد حسن الزيات