مجلة الرسالة/العدد 399/دراسة شاعر

مجلة الرسالة/العدد 399/دراسة شاعر

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 02 - 1941



جوفري شوسر

للأستاذ أحمد الطاهر

إذا أنست لهذا الشاعر وتذوقت شعره، فإنك واجد فيه صورة ناطقة لبلاد الإنجليز في العصور الوسطى، أو في القرن الرابع عشر الميلادي. وأجمل ما في هذه الصورة أن (شوسر) يمثل بأسلوبه البارع - الذي وصفنا في مقال سابق - نظرية اجتماعية أخلاقية، تتلخص في أن الغرائز الإنسانية باقية كما هي على مدى الدهر، لا تتغير ولا تتحول، وهي سواء في الناس جميعاً، وأما ما يكتنفها أو يخفيها من التخلق أو اكتساب العادات أو ما إلى ذلك، فما هو إلا عرض لا يتصل بجوهرها. خذ مثلاً رجال الدين - كما أراد شوسر - أولئك الذين هاجمهم في عنف وشدة، تر أنه لا يحفل بما يبالغ فيه بعضهم من إبداء النسك والتبتل والتظاهر بالتأبد والتنطس، وإنما يعمد إلى المسوح السوداء فيرفع إسدالها، وإلى المسابح فيقطع أوصالها، ثم يبرز لك الرجل من وراء ذلك إنساناً ككل الناس: يأكل ويشرب ويلعب ويطرب ويضطرب في كل شأن من شئون الحياة، كما يضطرب سائر الناس. فينزع إلى الهدى والرشد أحياناً، وإلى الغواية والعشوة أحياناً. والشاعر حين يتناولهم بقلمه، لا يصدر عن ضغينة في نفسه، ولا عن ميل إلى التندر والتظرف، ولا عن استخفاف بالدين، كلا، بل لقد كان هو من أكثر الناس تديناً وإغراقاً في الصلاح والتقوى. إنما هي أسباب أخرى لو سمعها اليوم (شوسر) لم يرض عنها، أو لم يعترف بها: فعصره كان عصراً تغلي فيه مراجل الثورة النفسية، يؤجج أوارها عناصر أربعة متنافرة متدابرة: الكنيسة والشعب والبرلمان والقصر.

ففي القصر إدوارد الثالث ثم ريتشارد الثاني يرهقان الشعب بالجبايات والإتاوات، ويسرفان في التمكين للأشراف وأصحاب الضياع من إذلال الدهماء عبيدهم ومواليهم يبتزون جهودهم ويستغلون نشاطهم، ولا أقول أموالهم فما كان للعبيد والموالي أموال ولا أملاك. والبرلمان يأنس في الملك ضعفاً وخوراً في حين من الأحيان، وجبروتاً غاشماً في حين آخر، وطراءة في الشباب في عهد من العهود فيحفز للنضال حقه المهضوم وسلطانه المكلوم وتغريه كثرته فيثور ثم يناوئ ثم يعتدي ثم يمالئ. كل ذلك على حساب الشعب؛ والشعب مرهق مغلول ضعيف مفلول يتلقى العذاب من ملك يرميه بالتمرد ويكديه بالجباية، ومن أمير أو شريف يتهمه بالكسل ويرهقه بالعمل. والكنيسة يطيب لها أن تثبت وجودها بأن تتهم الناس بالكفر والضلال وتعزو سوء الحال إلى إسراف الملك في سلطانه والحد من سلطانها فتصور الشعب فريسة أطماع الملك الضليل، وتصور الملك مغلوباً على أمره من شعب مغرق في الأباطيل، وتستعدي الشعب على الملك والبرلمان يوماً، وتستعدي البرلمان أو الملك على غيره يوماً آخر. وهكذا ألقيت بينهم العداوة والبغضاء وألْبِسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض. تلك أمة قد خلت.

وهناك نتساءل أين موضع شاعرنا من هذا المعترك المصطخبة أمواجه المتلاطمة أفواجه؟ كان من رجال القصر وسفرائهم ومن خدم الملك، فليس عجيباً أن نراه من رجال الدين في الموضع الذي رأيناه؛ وليس غريباً أن نراه يصورهم بالصورة التي تفزعهم وإن تلطف أو داجى، ولا يتعاظمنا أن ينظم قصة فيسلكهم في صدرها ساخراً مقذعاً متندراً: قال:

في عصر الملك الصالح أرثور كنت ترى بلادنا الإنجليزية مشرقة بالبشر رافلة في حلل النعيم تمرح في أرضها وغابها أميرات الجن تحوطهن صاحبات لهن من الخود الرعابيب، فإذا أمسى المساء خطرن على مروج الزهر، وإذا أصبح الصباح رأيت في الأرض ما تناثر من عقود الزهر التي نظمنها في حلقات رقصهن. وأما الآن فما بقي في الأرض إلا شحاذو الكهان والرهبان نفروا كل مليحة من أميرات الجن، وأفزعوا كل غضة من بنات الغاب، وملئوا المكان بعد أن كان زاخراً بالأميرات. كان أحد فرسان ذلك الملك الصالح ممتطياً صهوة جواده وعلى وجهه سحابة من الحزن وغشاوة من الشجن فأفضى به التسيار إلى جانب من الغابة قد اتخذته أميرات الجن مرقصاً فركض إليهن جواده يلتمس عندهن شفاء من آلام نفسه وأوصاب صدره، فما أن رأينه حتى شردن وتوارين ولم تبق إلا عجوز شمطاء شوهاء قامت إليه وأخذت عليه السبيل ثم قالت: (أأكول في عونك أيها الفارس؟) قال: (نعم أيتها الجدة، وإن لم تفعلي لأكون من الهالكين) لقد سلفت مني بادرة لا تليق بالسادة الأشراف. أسأت إلى فتاة فحكمت علي الملكة بأن أقصي عن بلاطها سنة ثم أعود فأنبئها وفتياتها الغاضبات بجواب عن سؤال حيرتني به ألا وهو (ما أحب شيء للمرأة؟) فإن أعجبهن جوابي كنت سعيداً موفقاً، وإن أخطأني التوفيق فهنالك هلاكي. ولقد تصرم يا جدتي العام بعد أن التمست الجواب عند الأمهات والزوجات والعاتقات فما اتفقن على رأي ولا عرفن شيئاً واحداً هو أحب ما يحب النساء: قيل لي أن النساء يعجبهن الملق والمداجاة؛ وقيل لي أحب شيء إليهن الحب والهوى؛ وقيل بل الزواج وقيل المرح والطرب؛ وقيل التكريم والثناء، وقيل البذخ والثراء؛ وقيل غير هذا وأنا لا أزال حائراً مضطرباً. فهل عندك الجواب وعندي لك كل حاجة تريدين قضاءها وكل مطلب مجاب؟) قالت العجوز: (أتقسم أن لي كل حاجة عندك مقضية؟) قال: نعم. وأقسم بشرفه ليفيَنّ لها بما وعد: قالت: (هلم معي إلى القصر) وأفضت إليه في الطريق بالجواب. فلما بلغا القصر عقدت الملكة مجلساً ومثل أمامها الفارس وقالت له: (حياتك رهن بالجواب عن هذا السؤال: أي شيء أحب إلى المرأة سواء أكانت عانساً أم بكراً أم زوجة) قال الفارس: (ليس أشهى إلى المرأة يا صاحبة الجلالة من السيطرة والسلطان تشتهي السيطرة على زوجها وعلى بيتها وعلى ثروتها وعلى ضيعتها وعلى كل شيء وكلهن في ذلك سواء. أنتن أيتها النساء تردن الحكم، تردن التحكم في جميع الناس، تردن أن يكون لكن الأمر وعلى الرجال الطاعة.) وما فرغ من إلقاء جوابه حتى أمَّن الحاضرات عليه وغشيت وجه الملكة حمرة لا تخفيها. وهنا برزت العجوز وصاحت: (أنا يا مليكة صاحبة هذا الجواب لقنته إياه بعد أن أقسم ليأتمرن بأمري ويجيبن مطلبي؛ وهاأنذا بحضرتك أتَنَجَّزه وعده، وما حاجتي إلا أن يتزوجني) شده الفارس لهذا المطلب العسير الفظيع، والتمس إليها الوسيلة للخلاص من وعده، وأخذ يغري هذه العجوز بالثروة والنشب فما أغنى عنه ماله وما كسب، وكرهت الملكة أن تكون هذه الشمطاء زوجة لفارس من فرسان القصر؛ ولكنها آثرت ذلك على أن يدنس الفارس شرفه فينقض عهده وينكث وعده وأمرته أن يتزوجها. وبنى بها الفارس مكرهاً في ليلة لم ير أسود منها. ولم يخف عليها حنقه وغيظه إذ قال: (ليت مصابي بك كان عند قبح وجهك وكبر سنك، ولكنه تجاوز هذا إلى خسة منبتك وضعة شأنك) قالت العجوز: (أهذا كل ما يؤلمك - ألا تعلم أن شرف المنبت وطيب الأعراق ليست إلا ثروة عتيقة موروثة، وماذا يغني عنك حسبك ونسبك؟ إن كان لك مجد تليد فالفضل فيه لمن كسبه من آبائك وأجدادك؛ وإن كان لك مال قد خلفوه لك واسم كريم قد ألصقوه بك واعتمدت على هذين في طلب المجد والشرف، فما أخيب مسعاك وما أبعدك عن بلوغ القصد. المجد والشرف لا يشتريان بالمال. هأنذى امرأة وضيعة المنبت لا أملك طارفاً ولا تليداً، ولكنني لست امرأة سوء هل كان المسيح غنياً وهو مثلنا الأعلى في المجد والشرف؛ كلا بل كان جهده أن يفعل أفعال الكرام. أما قبح وجهي وكبر سني فإني أعرض عليك في ذلك اختياراً: أتريدني عجوزاً حصيفة الرأي أم فتاة ضالة في سبيل الحياة؟) قال الفارس: (الرأي لك أيتها العجوز العاقلة) قالت: (ألا ترى أنني بسطت عليك سلطاني وأخضعتك لأمري فأذنت لي أن أفعل ما أريد) قال: (نعم) قالت: (أنظر إلي واعجب لما تحولت إليه قسماتي) فنظر الفارس وإذا بالعجوز قد تحولت إلى فتاة نضرة غضة لم تقع عيناه على أجمل منها.

(الإسكندرية)

الصباغ

أحمد الطاهر