مجلة الرسالة/العدد 399/من وراء المنظار

مجلة الرسالة/العدد 399/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 02 - 1941



المتعاظم الصغير

يملك حب العظمة عليه نفسه، ولقد ركبه هذا المتعاظم منذ مدرجه وكبر معه، فهو اليوم في منتصف العقد الرابع، طفل في الخامسة والثلاثين. قتر على نفسه حتى اقتنى سيارة قديمة راح يتشبه بها بذوي اليسار من أصحاب السيارات الفخمة، وإن كان مرتبه كله لا يساوي ما يدفع هؤلاء من (بقشيش)؛ وقتر على نفسه مرة أخرى، فقضى الصيف في أوربا، وإن كان من ذوي رحمه الأدنين من لا يكاد يجد قوته.

ومن أحب الأشياء إليه أن يذهب في سيارته إلى القرية، فيطلق نفيرها هناك عالياً في داع وفي غير داع، وبنظر الفلاحون البسطاء إلى هذا (المحدث) مبتسمين، فيزهى إذ يخيل إليه غروره أنها ابتسامات الإعجاب. ولقد رأيته مرة - وكأنه أحد الدكتاتورين يدخل المدينة على رأس قوته المصفحة لكثرة ما تجبر يومها وتعاظم، ولكن سيارته لسوء حظه أصابها في تلك اللحظة عطل فوقفت، ونظر مبهوتاً على صوت ضحكات قريبة، وكنت غير بعيد من الفلاحين الضاحكين، فحبست ضحكاتي مخافة أن يفهم الدكتاتور أني غيران!

ومن آلم الأشياء عنده أن تمر به فلا تحييه، ففي ذلك إنكار منك لعظمته، ولقد يبلغ به الألم من ذلك حد الحمى، فإذا أقبلت مع ذلك تحييه: تباطأ وهو يقبل عليك، وتكلف سلام العظماء ونبرات العظماء وحركة رؤوس العظماء وعبوس العظماء أو تبسمهم حسب مقتضيات الظروف.

وشاع في القرية أو أشاع هو فيها أنه ما من كبير من رجال الحكومة إلا وله عنده مكانة مهما اختلفت على كراسي الحكم ألوان الأحزاب، وتهاوت عليه عرائض البسطاء يطلبون الاستخدام وما تزال تتهاوى عليه وهو يدسها كل مرة في جيبه في اتزان ووقار بالغين ولكنهما مع ذلك بثيران الضحك العميق!

وهو ينظر إلى هؤلاء من عل ويفرح أشد الفرح إذ يجد من يتملقه، ويغتر إذ يكون بعض الناس منه كما يكون هو ممن يطرق أبوابهم من ذوي المناصب مستجدياً متملقاً، وهو كثيراً ما يتملق ويستجدي، وقصارى أمره أن يظفر بتعيين فراش أو نقل ساع من جهة أخرى إلى أخرى يحبها ويحسب ذلك هو الجاه أعظم الجاه، وهكذا يتمسكن ويتضاءل في المدينة ليزهي ويتعاظم في القرية ويريق ماء وجهه عند أولى المناصب من يعرف منهم ومن يعرف منهم ومن لا يعرف ليصعر خده لطالبي الرزق وذلك عنده من أعظم لذات حياته.

وإذا جلس أحب أن يلتف حوله طالبو جاهه وفضله وتراه؛ يعجب أشد العجب إن صغرت الحلقة من حوله، فهو يعتبر نفسه كبيراً عظيماً ومن حقه أن يلتف حوله الناس كما يلتفون حول أقرانه من العظماء، وما كان في حلقته إلا من يضمر له السخرية حين يريه الاحترام.

وتراه يلوك بعض كلمات إفرنجية تعد على أصابع اليد فيحرك بها لسانه في لهجة محطمة أكثر تحطماً من سيارته، لهجة أشبه بلهجة الأوربي الذي ينطق كلمات عربية لم تطرق سمعه إلا منذ شهر، وأرى شأنه في هذا كشأنه في استبدال ملابسه العربية بحلة إفرنجية.

أما مكانته عند من يزعم من الكبراء فقصاراه في هذا السبيل ألا تفلته فرصة إذا رأى أحد هؤلاء أو بعضهم في أي مكان فيتقدم إليهم محيياً متهللاً يهز الأيدي التي تمتد في فتور إليه هزاً حماسياً قوياً وهو يقول: (أهلاً فلان بك. . . كيف حال سعادة البك). ولا ينصرف إلا بعد أن يكرر تحياته وإن هموا هم بالانصراف دون أن ينظروا إليه لأنهم لا يعرفونه! وهي بعد مقدرة على أي حال أميل إلى أن أسميها (فن الحياة) ففي الناس من لا يستطيع أن يسلم على من يعرف حق المعرفة ممن هم أكبر منه!

رأيته ذات يوم يطلع المحيطين به على البطاقات الكثيرة التي جاءته في العيد، وقد مهد لذلك بذكر ما شاء له زعمه ممن يعرف من (الباشوات والبكوات). وكانت البطاقات كلها مرسلة إليه حقاً وفيها من هذه الألقاب حقاً؛ ولكن لم أر على واحدة منها غير كلمة (للشكر) فحسب!

وآخر مرة رأيته فيها كان محنقاً فقد حياه أحد الريفيين بقوله يا شيخ فلان، وهذا هو اللقب الذي يجري على ألسنة البسطاء من أهل الريف إذا أرادوا التعظيم، وعجبت لم يغضب وهو شيخ في نشأته العلمية قبل كل شيء وكان أولى به أن يجعل هذا اللقب مدعاة فخره، ولكن هيهات أن يرضى حتى بالأفندي وهو عند نفسه سعادة البك!

الخفيف