مجلة الرسالة/العدد 4/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 4/الكتب
في الصيف لطه حسين
(في الصيف) بعد (الأيام) دليل بعد دليل على ملكة أخرى كانت مجهولة في هذا الذهن العجيب! فقد كان عهد الناس بصديقنا طه عالما غزير البحر، وباحثا جريء الرأي، وناقدا نافذ البصيرة، وجدليا دامغ الحجة؛ أما الكاتب الذي يستشف بالإلهام حجب الغيب، وينمق بالخيال صور الحقيقة، ويحيي بالعاطفة خمود الفكرة، فظل مغموراً بين الأديب الذي يبحث في ضوء العقل، والأستاذ الذي يدرس في حدود العلم، فلم يكد يظهر الا في صفحات من ذكرى أبي العلاء نسي فيها المعري وذكر نفسه، وفي مقالات نشرت في السفور صور فيها عواطفه وحسه، حتى نشرت (الأيام) فعجب الناس أن يكون وراء هذا العقل المتمرد هذا القلب الشاعر، واقبلوا في دهشة يتعرفون إلى طه التلميذ والأخ والزوج والوالد، ويتحدثون إليه في منازله ومباذله وبين أهله، فيجدون من اللذة في أحاديثه، أمثال ما وجدوا من الفائدة في بحوثه، ثم جاء كتاب اليوم قاطعا في الدلالة على بلوغ هذه الشخصية الأدبية الغاية في كل ناحية من نواحي الأدب، حتى الناحية التي لا يغنى فيها الخيال عن الواقع، ولا السماع عن النظر!
قرأ (في الصيف) أديب كبير فطلب إلى طه في شيء من الدعابة أن يترك العلم إلى القصص، وتقرأ أنت (في الأدب الجاهلي) فتقول هذا اختصاصه وتلك مادته، ولعلك إذا سمعته يحاضر أو قرأته يناظر تقول هذا عمله وهذه غايته. وأبلغ آيات العبقرية أن تكون في كل مادة أصيلة، وفي كل موضوع سامية، وفي كل غاية مبرزة.
طه قصصي من طراز خاص، أو هو لم يشأ إلى اليوم أن يكون على غير هذا الطراز. فالأيام وفي الصيف طوائف شتى من الذكريات والتأملات والملاحظات أنثالت في وقت الفراغ على ذهن شديد النفاذ، وفكر دقيق الملاحظة، وشعور صادق الحس، ثم ألف بينها خيال كروح المنطق فيه لذة وفيه عقل، وأبان عنها أسلوب كأسلوب الحديث فيه طلاوة وفيه فضل، ثم تقرأ قليلا وإذا بك متصل بالكتاب، مغمور بشعوره، مسحور بحديثه، مشغول بتفكيره، يخرج بك من موضوع إلى موضوع، وينقلك من موضوع إلى موضوع، دون أن يدع لك السبيل إلى استرجاع الذكريات التي هاجها بذكرياتها، واستقبال الخواطر التي جددها بخواطره، فأنت منه كما تكون من البحر الداوي لا تدري بماذا استولى على مشاعرك؟ أبحلاله أم بجماله أم بسعته أم بروعته أم بكل أولئك جميعا؟ ثم تفرغ من القراءة وتعود إلى نفسك فتقول: ربما ولدت هذا المولد؛ ونشأت هذا المنشأ، ودرت هذه الدراسة، وسحت هذه السياحة، ورأيت هذه الصور، وعرضت لي مثل هذه الخواطر، ونعمت بمثل هذه الأسرة، ولكن أولئك كله جف في خيالي كما يجف نمير الماء في العود الذابل، ومات في خاطري كما يموت رنين الصوت في الصخر الأصم! ولكنها في الأيام أحيا ما تكون في ذهن، وفي كتاب (في الصيف) أزهى ما تكون في خيال!! ذلك إذن هو الفن الذي يخص الله به إنسانا دون انسان، وذلك إذن هو ما ينقص الناس فيجدونه في الفنان!!
(في الصيف) لا يروعك منه الحادث، ولا تدهشك المفأجاة، ولا تشوقك العقيدة، ولا تفتنك الصنعة، فانه كما قلت لك مجموعة من الذكريات والتأملات يتشقق بعضها كما تتشقق الأحاديث، وإنما يأخذ بلبك منه الصدق في تصوير الفكرة، والحذق في نقل الشعور، والنفس التي تشتد في المجتمع حتى تشتط، وترق في الأسرة حتى تضعف، والروح التي تحلق فوق الأحداث متمردة، وتخفض الجناح لأهواء الطفلين الحبيبين حانية، والألمعية التي تصور بالظن فلا تخطيء اليقين، وتسمو على جناح الخيال فلا تفوت الحقيقة، والأسلوب الذي يحار في تعريفه البيان المكتوب، وأقل ما يصفه به الكاتب العجلان أنه تفضيل في غير إملال، وبساطة في غير ابتذال، وتدفق في غير كدورة، وجدة في غير عجمة، وإهمال نادر يجره وتجرفه الحركة، ومذهب جديد كثر في ناشئة الكتاب من يحاول الجري عليه.
إن في هذا الكتاب صفحة ضاقت بما يضيق به القلب الصديق! نشرتها ظروف وستطويها ظروف، وسيطيل النظر فيها من يعني بفهم هذه النفس الكبيرة على حقيقتها، ودرس ما تتأثر به من العوامل في بيئتها، وان في هذا الكتاب صفحات على نحو ما في (الأيام) من ذكريات الأزهر، وأحاديث إخوان الصفا من طلابه، وآلاف الجمود من شيوخه، ولن يتذوق ما فيها من جمال الفن الا من حي هذه الحياة وشعر هذا الشعور، وان في هذا الكتاب صفحات خالدات لن تجد كثيرا من أمثالها في الأدب العالمي! تلك ما كتبت عن فرنسا عامة وعن الألزاس خاصة.
أما التحليل والتمثيل فلن يغنياك عن قراءته شيئا، وفي اعتقادي أن خير ما يسر به الإنسان نفسه أن يغيب عن دنياه في دنيا هذا الكتاب ساعة أو ساعتين!
الزيات