مجلة الرسالة/العدد 4/رفائيل

مجلة الرسالة/العدد 4/رفائيل

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 03 - 1933



للدكتور عبد الوهاب عزام

البارحة بعد نصف الليل أتممت قصة رفائيل قراءة. وكنت بدأت قراءتها منذ زمان بعيد فتطاول الأمد، وتثاقلت النفس، تثاقل الغم والحزن على قلبي جوليا ورفائيل.

ما حسبت قط أن الحزن الذي شربته جرعات، وأشربه قلبي وأحسسته حينا بعد حين يبلغ بي هذا المبلغ. بلى؛ أذكر أني في إحدى الليالي وقفت القراءة إشفاقاً على نفسي حينما بلغت برفائيل وجوليا حديقة منسو. وحم هنالك الوداع! أذكر أني حينئذ وضعت الكتاب على حافة السرير، وألقيت على الوسادة رأسا بنوء بالهموم، فماج بي الليل وطار الفكر في أرجاء السماوات، وقذف القلب بأحزانه زفرات، ودارت النفس في أعماق من الظلام والفكر ما لها من قرار. ولكني ما حسبت قط أن الحزن آخذ بي إلى هذه الغاية. وأذكر في هذه القصة مواقف موجعة، ومشاهد مروعة. أذكر جوليا ورفائيل، وهما في نفسيهما مأساتان أحكم الله تأليفهما. وبعث بهما إلى الأرض في صفحات الحادثات أو في صفحات لا مرتين ليقرءوا على مر الأيام. . وأذكر البحيرة، بحيرة (برجيه) يوم جمع القضاء بين حبيبين لا يعرف أحدهما الآخر، فكأنهما التقيا على موعد بعد أن برح يهما الشوق، وأمضهما الانتظار، ويوم حان فراق اكس، ورحلت جوليا إلى باريس فتبعها رفائيل يرقبها عن كثب وهي لا تدري، وينجدها كلما عرض لها ما تكره؛ حتى أبلغها دارها ثم رجع، وأذكر تلاقيهما في باريس يجتمعان على هوى عذري، وفرح هو أشد ضروب العذاب، في ملتقى حبيبين هو أشبه بمأتم تهيأ فيه للقضاء الذي ليس منه مفر. ويوم يبيع رفائيل لؤلؤة أمه وهو يبلها بدمعه ليستطيع الإقامة على مقربة من جوليا، ويوم ذهب إلى أمه فأخبرها أن الطبيب أشار عليه بالمسير إلى سافورا، فلا تجد أمه بدا أن تقسو على أعز صديق وأنفس ذخيرة وأجمل ذكرى: الشجرات اللاتي يظللن المنزل واللاتي حنون على هذه الأسرة دهراً طويلا! فكان في ظلالهن مسارح اللهو ومدارج الصبا لرفائيل وأمه وأبيه. فانظر كيف تضطرها الأقدار، أن تسلط الفأس على هذه الأشجار!

كل أولئك أذكره، وأنها لذكرى ممضة. ولكن ما حسبت قط أن يبلغ الحزن بي هذا المدى!

البارحة بعد نصف الليل أخذت الكتاب أقرأ الوريقات القليلة الباقية ونفسي تضطرب فزع مما سيلقاها في ثنايا هذه الصفحات التي بدت كأنها صحف الغيب تنفتح عن المقادير واحدا بعد آخر.

حتى إذا بلغ رفائيل الكوخ الذي حمل إليه جوليا، فلم ير الا ظلاما ولم يسمع بين الظلام نأمة حي، فدار يقبل الجدار والجدار، حتى بلغ المكان الذي ركع فيه بين يدي جوليا وهي في غشيتها يوم البحيرة. ثم يتحامل إلى جدول يأكل على حافته ما يمسك ذماءه. على ذكرى قاتلة، وحرقة يعيا بها الوصف.

قرأت حتى جاء الملاح إلى رفائيل برسالة من صديقه لويس يبلغه رسائل جوليا، فعاد رفائيل إلى حجرته يسير إلى مهلكه على شعاع ذاو من أشعة الشمس الغاربة. يفض رفائيل الغلاف عن رسالة لويس ثم عن رسائل باريس فإذا كتاب معلم بالسواد، وإذا خط (ألن) لا خط جوليا. يقرأ سطورا سوداء تنعى إليه جوليا. وينظر بصره الزائغ فإذا خط جوليا نفسها، أجل خط جوليا نفسها، ولكنها كلمة أرادت قلمها عليها وهي في غمرات الموت تعزي رفائيل عن نفسها، فلله ما أفظعها تعزية! تركت رفائيل يخر مغشيا عليه. وخررت على فراشي فبكيت ثم بكيت ثم لج بي البكاء.

وحاولت سدى أن أسكن جأشي أو أكفكف دمعي، ما تعمدت البكاء ولا رجوته، ولا خلت أن أنتهي إليه، ولكنه كان وحيا من الحزن والدمع لا أعرف من أين هبط، بل ثورة من هموم راكدة، وأحزان كامنة، كانت قصة رفائيل لها كقداحة الزناد. أو كضربة مسحاة على نبع يدافع الثرى لينفجر.

كذلك انتهت بي قصة رفائيل، وكذلك أبكي لامرتين بعد مائة سنة شاعراً مجهولا يشبه لامرتين طبعاً مكتئباً، وقلبا منقضباً، ونفساً ملتهبة. شاعرا قد يبلغ به الاعتداد بنفسه أن يظن أن ليس بينه وبين أن يكون لامرتينا آخر الا (التأملات).

كذلك فعلت بي قصة رفائيل، فلما أفقت لم أدر أأساء إلى لامرتين أم أحسن، ولم أدر أأحمد صديقي الزيات أم ألحاه؟.