مجلة الرسالة/العدد 40/الإسماعيلية

مجلة الرسالة/العدد 40/الإسماعيلية

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 04 - 1934



الملقبون بالحشاشين

أين نشأ ابن الصباح

ورد فيما مضى ذكر لدار الحكمة وهي المدرسة التي أنشأها في مصر الحاكم بأمر الله العيدي في القرن الثالث الهجري لتعليم مذهبه التوحيدي، فلما مات أبو طاهر الجنابي عام 332هـ وهو الذي خلف أبا سعيد الجنابي كانت هذه المدرسة قد زهت وأفلحت فلاحا عظيما، وكان أساس التعليم فيها قلب الخلافة العباسية وزوال دولتها، وكان الدخول فبها مباحا لكل راغب، ويلقي العلوم فيها شيوخ تصرف لهم المرتبات والمكافآت العظيمة من أموال الدولة، وكانت علوم هذه المدرسة تسعة كلها دينية منقولة عن مبادئ أبن القداح (القداح هو ولد ديصان واسمه عبد الله ولقب بالقداح لأنه كان يعالج العيون بقدحها، وكان أبوه قد علمه الحيل، واطلعه على أسرار نحلته ومخاريقه، فلما مات خلفه أبنه، وكان يدعو إلى ظهور المهدي في ذلك الزمان في اليمن، وهو المذهب الذي تفشي في البحرين في القرن الثالث الهجري كما ذكرنا)

وكانوا فيالدور الأول من هذه العلوم يعمون على الطالب ويشوشون عليه تشويشا مخيفا ويلقنونه معنى مكتوما لمتن القرآن، وفي الدور الثاني يفرضون عليه إيمانا وأقساما يقسم بها ويبالغ في حفظها، ثم يعلمونه الأئمة المقامين من الله تعالى الذين هم في مذهبهم أصل كل معرفة، فإذا بلغ الطالب الدور الثالث علموه، عدد هؤلاء الأئمة الذي لا يتجاوز سبعة، وإذا بلغ الدور الرابع علموه انه منذ خلق الله العالم وجد سبعة متشرعون الاهيون هم الرسل. السبعة المعروفون في مذهبهم بالنطقاء، وكيفية إقامتهم لتلك الشرائع. فإذا بلغ المرتبة الخامسة علموه أن لكل واحد من هؤلاء السبعة اثني عشر رسولا للدعوة إلى الإيمان الصحيح، وإذا بلغ السادسة علموه السنن الإسلامية، ولقنوه أن كل الشرائع الدينية المشروعةيجب أن تكون خاضعة للشرائع العمومية والفلسفة، معولين في ذلك على فلسفة إفلاطون وأرسطو وفيثاغورس، وهي عندهم رأس كل تعليم، وإذا بلغ المرتبة السابعة انتقل من الفلسفة إلى الأسرار، وفي الثامنة كانوا يثقفون عقله بتعليم أشياء من مراتب الأنبياء والرسل، ويلقنونه وجوب إنكار وجود الجنة والنار، ويبطلون الأعمال ويقولون أن ليس على الأعمال ثواب ولا عقاب لا في الدنيا ولا في الآخرة. ثم يدخل الطالب في الدور التاسع وفيه ينقاد الانقياد الأعمى لشيخه فلا يخالف له أمرا ولا يعصي له كلمة ولو أدت إلى الموت.

ونظرة إلى هذه التعاليم ترينا مقدار مخالفتها للدين الإسلامي، فأن منها ما لو آمن به المسلم لكفر، ونتبين منها الكراهة لبني العباس والتشويش على الطالب بتلقينه معنى مكتوما لمتن القرآن حتى يتيسر لهم التوفيق بين إنكار الجنة والنار، وما ورد في ذلك الكتاب المقدس عن وجودهما بأصرح عبارة. ثم هذا إلى ذكر المشرعين الإلاهيين والرسل الذين يدعون إلى الدينالصحيح، وما في ذلك من التشكك في صحة النبوة والدعوة إلى الارتياب فيها وقصر الصحة على أولئك الرسل وحدهم.

في هذه المدرسة التي ذكرنا تعاليمها الخبيثة درج زعيم الحشاشين، وعلى هذه المبادئ التي تناقض الدين نشأ ابن الصباح. فلا عجب إذن أن فعل ما سنراه من المنكرات، ولا عجب أن تكون هذه الأفعال نتيجة سيئة لإنكار الحساب والجزاء والعقاب. وإذا كان الشخص الناشئ على هذه التعاليم خطراً على الدين والأخلاق فماذا يكون إذا شابه ابن الصباح فيما كان عليه من دهاء وعلم وحذق؟! لكإن ابن الصباح اصلح نفسية تلائم هذه المدرسة واخصب عقلية لغرس تعاليمها.

كيف تولى ابن الصباح أمر الإسماعيلية

لا يقول ابن الأثير (وكان الحسن من تلاميذ ابن العطاش الطبيب الذي ملك قلعة أصبهان، ومضى ابن الصباح فطاف البلاد ووصل إلى مصر، ودخل على المستنصر صاحبها فأكرمه وأعطاه مالا، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته، فقال له الحسن فمن الإمام بعدك؟ فأشار إلى ابنه نزار وعاد من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر والروم ورجع إلى خراسان، ودخل كشغر وما وراء النهر يطوف على قوم يضللهم. فلما رأى قلعة (آلموت) واختبر أهل تلك النواحي أقام عندهم وطمع في غوايتهم ودعاهم في السر، واظهر الزهد والورع ولبس المسوح فتبعه أكثرهم، والعلوي صاحب القلعة حسن الظن به، وجلس إليه وتبرك به. فلما احكم الحسن أمره دخل يوما على العلوي في القلعة، فقال له ابن الصباح: أخرج من هذه القلعة، فضحك العلوي وظنه يمزح، فأمر ابن الصباح أصحابه فأخرجوه إلى دامغان، وأعطاه ماله وملك القلعة).

هذا الدهاء الذي اتصف به الحسن كان من اكبر العوامل التي ساعدته على تسليم الرياسة الكبرى للإسماعيلية، والى جانب هذا الدهاء انصراف الخلفاء من بني العباس في وقته عن الشؤون العامة وعجزهم عن تحصين إمامتهم، وضبط خلافتهم لاسترداد الملك للعجم من الديلم والسلاجقة فباتوا لا يقدرون على كف الغوائل عنهم، والإسماعيليةينتشرون في أنحاء الشرق القاصية.

وبعد استيلاء الحسن على قلعة آلموت في ولاية جيلان بفارس وهي أقوى القلاع زادها قوة واحكم تحصينها وجعلها تحت دولةالإسماعلية، فعظم أمره بين اتباعه ولقبوه بالشيخ وهو اكبر ألقابه، وقد كانت له ألقاب أخرى منها الرئيس والسيد.

وبعدان تولى الرياسة كثر اتباعه وانقادوا له الانقياد الأعمى فأتخذ منهم أداة للظلم والطغيان فارهب بهم الخلق والملوك والسلاطين وحاربهم هزمهم، وقد قام بترتيب الطائفة إلى ثلاث مراتب: الدعاة وهم الداعون إلى مذهب الطائفة، والرفاق وهم الذين اعتنقوا المذهب وخضعوا لسلطة الرئيس، والفدائية وهم عدة الرئيس خاصة يسيرهم كما يشاء، وكانوا يربون في بيوت الرؤساء منذ نعومة أظفارهم يلقنون طاعة الرئيس والتضحية بالنفس في سبيل إنفاذ أوامره، ويفهمون أن الواحد منهم قد علقت سلامته بفداء روحه ويصور لهم العذاب في ابشع صورة أن خالفوا للرئيس أمرا، والنعيم في أشهى مظاهره أن هم تفانوا في خدمته. وهنا تظهر صولة القوم وخداعهم فقد كانوا كي يحققوا الفدائية ما يعدونهم به من النعيم مقيم ينشئون الحدائق الغناء والبساتين الفيحاء يحيطونها بالأسوار العالية ويضعون فيها من الصناعات ما حسن تنسيقه مما يبهر الأنظار ويخلب الألباب ويجعلون فيها كل أنواع الفاكهة والأزهار والورود والرياحين تتدفق فيها الشلالات الجميلة وسط المزروعات الخضراء والمروج الفيحاء، وينبعث من أرضها ماء الينابيع والنافورات، ويخصصون أمكنة من تلك الحدائق تكون مجالس فاخرة وأروقة مزخرفة بالخزف والصيني والفرش، والبسط والطنافس والرياش ويودعون فيها الأواني الفضية والذهبية والبلورية المموهة بالذهب الخالص يزين ذلك كله اجمل العذارى، واظرف الولدان في ثياب ارق من نسيج العنكبوت يروحون في تلك الحدائق ويغدون كالأطيار الجميلة تنتقل من دوحة إلى دوحة، يغرون الناظرين بالتيه والدلال، وبالجملة فقد جعلوا من تلك الحدائق فتنة لاتباعهم، فذا فاز أحد الرفاق على الآخر في إظهار منتهى الطاعة للرئيس والخضوع لأوامره خضوعا تاما وكتم السر والاحتفاظ بالعهود، أعطوه من الحشيش ما يذهب معه لبه، ويفقده صوابه. ثم أرسلوه إلى تلك الحدائق الساحرة حيث يفيق بين مظاهر الجمال ويغمر بأنواع الملذات ويتركونه ساعة يعطونه بعد مضيها الحشيش مرة أخرى حتى إذا غاب عن صوابه أعادوه إلى مكانه الأول.

وهناك يمنونه بالعودة إلى تلك الجنان أن هو زاد في طاعته، وبلغ في التفاني والولاء أقصى ما يستطيع.

وبعد أن تفشت هذه التعاليم أباح الرؤساء لتابعيهم كل أنواع الملذات وأطلقوا لشهواتهم العنان، وأباحوا لهم زواج الأخوات وكل من يحرم الدين الزواج منهن، وعكفوا على تعاطي الحشيش وأدمنوا في ذلك وأسرفوا، حتى انقلبت تلك الطائفة التي تدعى أن لها تعاليم دينية راقية وأنها تدعو إلى الإيمان الصحيح إلى فئة طاغية مجرمة تحلل المحرمات وتحض على المنكرات. وترى في القتل عملامشروعا يثاب عليه فاعله.

ولما قامت الحروب الصليبية كان للحشاشين فيها يد سوداء، وقاموا في أثنائها بأفظع الأعمال الوحشية، فأطلق الفرنجة اسم وهو تحرف لكلمة حشاشين وجعلوه لكل قاتل مجرم. ويروي المؤرخون لأولئك الحشاشين من فظائع الأعمال ما يعطينا عنهم صورة بشعة رسمت بلون الدماء الحمراء، ووضعت في إطار من عظام القتلى وأشلائهم، فيقول المسعودي وأبو الفداء انه بلغ من جرأة الحشاشين انهم كانوا يخطفون الناس من الشوارع والحارات بأغرب الطرق، وكان الرجل يتبع خاطفه في سكون وخشوع، والويل له أن أبدى مقاومة أو تحرك لسانه طلبا للنجدة، فانه أن فعل استقر خنجر الفداوي في قلبه، وكان إذا غاب أحدهم ساعة عن أهله تحققوا انه قد خطف وقتلفيقيمون عليه الأحزان، وصار الناس يلبسون الدروع تحت الثياب مخافة الفدائية، وكان من دهائهم تعليم اتباعهم المهن كالطباخة والحلاقة والخياطة ودسهم في بيوت الأمراء يقومون فيها بالخدمة الجاسوسية. يقال أن أحد السلاطين أرسل يوما إلى شيخ الجبل يدعوه إلى الطاعة والكف عن إيذاء الناس. فقال الشيخ للرسول: أمخلصون انتم لسلطانكم؟ فأجابه كلنا نفتديه. فقال له قل لسيدك موعدنا يوم كذا، وقل له أن يضم إلى مجلسه اخلص المخلصين له، وكان عند السلطان غلامان لا يطيق فراقهما لحظة، فلما حل اليوم اقبل الشيخ في قلة من أصحابه مدججين بالسلاح فجعل يحادث السلطان فقال السلطان للشيخ سألت عن إخلاص قومي وكفايتهم، وأني مريك الآن ما لم تراه، وكان المجلس غاصا بالقواد والوزراء، فرمى السلطان بخنجره من شرفة المكان إلى الوادي فترامى القواد لإحضاره فهلكوا جميعا. فقال الشيخ نعم القوم قومك. فقال السلطان وهل أنت على مثل ذلك من قومك؟ قال لي كلام أقوله لمولانا في خلوة. فأخرج السلطانكل من كانوا عنده عدا الغلامين، فنظر إليهما الشيخ وقال يا عبدي مولانا إذا قلت لكما أن مولاكما هذا يهدد شيخكما ويفسد عليه أمره، فماذا تفعلان به؟ فاستلا سيفهما ولوحا بهما على راس السلطان وقالا نقتله، فدهش السلطان وحار في أمره ثم التفت إلى الشيخ يقول انصرف فأنت في حل مما تفعل. . .

وقد توفي الحسن ابن الصباح عام 518 هـ وتولى الزعامة بعده نحو سبعة من الرجال نجد ترتيب زعامتهم في دائرة المعارف الإسلامية مادة وقد ظلت الزعامة في طائفة الحشاشين قائمة في قلعة آلموت حتى 654 هـ أي نحو قرنين لم يبطل لهم فيهما شر، ولم يكفوا في أثنائهما عن أذى إلى جانب إفساد الأخلاق بتعاطي الحشيش وتحليل المنكرات وإباحة الملذات.

وكان من اكبر دعاتهم في أفريقية رجل خرج من صنعاء يقال له أبو عبد الله احمد بن محمد بن زكريا، ويعرف بالشيعي يبعث الدعوة للمهدي. أما مصر فلم يكن لهم فيها حوادث أو وقائع، اللهم إلا تلك الخرافات يرويها الناس عنهم كقصة الشاطر حسن وشيخ الفداوية. أما القبة الموجودة الآن في العباسية والتي يزعمون إنها للفداوية فقد كانت قبة للصلاة بناها الأمير يشبك بن مهدي الداودار عام 884 هـ في ولاية السلطان قايتباي، وقد تداعت فرممها الأمير حسين كتخدا ثم رممها ديوان الأوقاف الخيرية عام 1317 هـ في عهد محمد توفيق باشا.

ولا يزال للإسماعيلية إلى وقتنا هذا صوت كدبيب النملة، وزعيمهم آغاخان الذي عرف واشتهر بوفرة ماله لا بزعامة لتلك الطائفة الموزعة بين الهند وفارس. والظاهر أن القوم قد غيروا ما عرف به سلفهم من قبيح العادات والتقاليد، وإلا لما استطاعوا الإقامة بين الحكومات التي تنبهت وتوصلت إلى طرق من الرقابة على الناس مباشرة، وقد انصرف القوم عن نشر دعوتهم واكتفوا بعقيدتهم والحياة فيما هم فيه من يسر البيع وربح لتجارة، وما كان القرن العشرين ليتسع لمثل دعوتهم.

لك شأنالإسماعيليةعامة والحشاشين خاصة، وتلك مكانتهم التاريخية طوال أيام الدولة العباسية، وهي وان كانت مكانة لا يحسدون عليها لما قامت عليه من شر ونكر إلا أن التاريخ سجل يحتفظ بين طياته حوادث الأيام والناس لا يفرق بين مخازيها ومفاخرها. فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض؟

محمد قدري لطفيليسانسيه في الآداب