مجلة الرسالة/العدد 400/الرنوك في عصر المماليك
مجلة الرسالة/العدد 400/الرنوك في عصر المماليك
للدكتور محمد مصطفى
للرنوك شان عظيم عند الغربيين، لها سجلات رسمية خاصة بها، يسجلون فيها شكل الرنك (الشعار) وألوانه والرسوم التي فيها، مع لقب العائلة التي يحق لها حمله، وأسماء أفرادها، وكل ما يتعلق بهم من البيانات عن تواريخ ميلادهم ونشأتهم وحالتهم المدنية مع إضافة علامة جديدة لبعض أفراد العائلة الجدد. وللرنوك عندهم علماء تخصصوا في البحث فيها، وفي تتبع رنك كل عائلة واستقصاء أصله وتاريخ نشأة العائلة. وهنالك رنوك أخرى للمدن والبلاد في أوربا لتمييز جماعات كل بلد أو صناعاته أو مناخها عن غيرها. وقد حاول بعض هؤلاء العلماء إرجاع أصل الرنوك عند الغربيين إلى الشرق، وقالوا إنهم اقتبسوا فكرتها أيام اتصالهم بالسلاجقة والأيوبيين والمماليك إبان الحروب الصليبية، بدلي وجود رنوك سلجوقية وأيوبية ومملوكية مشابهة لرنوكهم على بعض الآثار في مصر وسوريا وفلسطين
وبينما نرى أن للرنوك في أوربا صفة عائلية محضة يتوارثها الابن عن أبيه وجده، نجد أنها كانت تدل في عصر المماليك على الوظيفة التي كان يتقلدها حامل الرنك في البلاط السلطاني. وكان للمماليك في جيشهم نظام عسكري لا يحيدون عنه، فكانوا يعتمدون فيه على الجند من المماليك فقط، يجددون دائماً بشراء مماليك صغار، يتولى جلبهم إلى مصر موظف معين لذلك يلقب بتاجر المماليك. وهؤلاء المماليك الجدد كالهم حديثو السن، يلحقون بمدرسة المماليك بالقلعة حيث يقيدون كمماليك كتابية، ويتعلمون القراءة والكتابة، ويدربون على الأعمال والنظم الحربية. فإذا ما تم تعليمهم وتدريبهم، أعتقهم السلطان، ووهبهم ما يبدءون به حياتهم الحرة، وما يتناسب مع تدريبهم الحربي، أي ملابساً تميزهم عن إخوانهم الأرقاء وأسلحة وخيلاً. وتطلق كلمة مملوك عليهم بعد عتقهم أيضاً، فكان مؤرخو العرب يستعملون أسم (مملوك) لمن يؤدي أعمالاً داخلة في النظام العسكري، وكلمة (عبد) لمن يستخدم في أعمال منزلية مثلاً وهو في الرق
ثم يعين السلطان المماليك (الأحرار) الجدد للخدمة في الجيش أو في المقاطعات والبلاد، بعد أن ينتخب منهم عدداً لحراسته وخدمته الخاصة، ولذلك يسمون بالخاصكية. وهؤلاء ه نخبة الجند، يقلدهم السلطان درجات ضباط الجيش ووظائفهم، فيبدؤها الخاصكي برتبة أمير عشرة، فأمير طبلخاناه، فأمير مائة، فمقدم ألف، وهذه أرقاها. وكان لكل من هؤلاء الضباط أو الأمراء شعار خاص به يسمى (رنكا) يرسمه على كل ما يمكن أن يتصوره العقل من الأدوات التي يستعملها في حياته اليومية كالأسلحة والمشكاوات والأقمشة والمخطوطات وأدوات الزينة وأواني الطعام والشراب، وعلى واجهات المباني والشبابيك والأبواب والأعمدة وتيجانها وغير ذلك.
والرنوك في مصر والشام كانت موضوع بحث عند كثيرين من العلماء الأوربيين اذكر منهم ويعقوب أرتين باشا. وكان آخر من بحث هذا الموضوع الأستاذ الدكتور الذي ألف كتاباً فيه. ولا يزال يتابع البحث، وينشر ما أستجد من الأبحاث في المجلات العلمية.
ومما يؤسف له ألا نجد شيئاً وافيا عن هذا الموضوع في كتب مؤرخي العرب الذين عاصروا المماليك: كأبي الفداء والمقريزي والقلقشندي وأبي المحاسن وابن إياس سوى ما ذكروه من الرنوك عرضا - وفي حالات قليلة - في سياق كلامهم عن الحوادث أو وفيات بعض الأمراء. ومن هذه الحالات القليلة ما ذكره أبو الفداء في تاريخه من علامات وظائف الدوادار والسلاحدار والطشتدار والجمدار والأمير آخور والجاويش. وإننا نعتقد أن مؤرخي العرب اعتادوا رؤية الرنوك، فلم يجدوا فيها ما يستلفت النظر ولذلك لم يبحثوا فيها، ويؤيد هذا الرأي الأستاذ جاستون فيبت في نقده لكتاب الدكتور ماير، ويقول إن الذهبي وصف مرة رنك السلطان كتبنا مع رسم توضيحي له. ولهذا فنحن مضطرون في دراستنا للرنوك إلى الاعتماد فقط على الكتابات التاريخية التي ترافقها في بعض الأحيان، ودراسة تراجم الأمراء المذكورة أسماؤهم في هذه الكتابات لكي نصل إلى معرفة الوظائف التي كانوا يشغلونها، ونستخلص من ذلك ما نفسر به رنوكهم
وقد دلت هذه الدراسات على أن الوظائف الممثلة في الرنوك هي وظائف صغيرة في البلاط السلطاني يشغلها الخاصكية؛ واستنتج الدكتور ماير أن المماليك كانوا يحتفظون مدى حياتهم برنوك وظائف الخاصكية التي شغلوها في خدمة السلطان قبل ترقيتهم إلى درجات الأمراء، بل إن كبار الأمراء كانوا يفخرون بما تولوه في أول عهدهم بهذه الوظائف الصغيرة وأثبتت هذه الدراسات أيضاً أن سبع علامات من التي ترى على الرنوك يمكن الاستدلال بها بوجه قاطع على الوظائف التي تمثلها، وهذه العلامات هي: الكأس للساقي أو الشراب دار وهو من يتولى سقاية السلطان، والخانجة أو المائدة المستديرة للجاشنكير الذي يتذوق الطعام للسلطان، وعصاتا لعبة البولو للجوكندار وهو المشرف على هذه اللعبة. والدواة للدوادار أي كاتب السر - وكان المرحوم عبد الحميد مصطفى باشا أول من أثبت أن الدواة علامة كاتب السر - والبقجة المربعة للجمدار أي حامل الملابس، والسيف أو الخنجر للسلاحدار وهو الذي يحمل أسلحة السلطان، والقوس للبندقدار أي رامي النشاب. وجل هذه الوظائف لها صبغة عسكرية يتقلدها - على حد قول مؤرخي العرب - (أرباب السيوف) من المماليك. وهنالك علامات أخرى نراها على الرنوك، منها: السبع والنسر وزهرة الزنبق والوردة والهلال وغيرها. وهذه العلامات إما شخصية كالسبع الذي يرى على نقود السلطان بيبرس البندقداري ومبانيه، أو علامات لم يمكن معرفة ما تدل عليه، لأن تراجم الأمراء المذكورين في الكتابات المرافقة لها غير مستوفاة، أو لا تشير إلى الوظائف التي كانوا يشغلونها قبيل ترقيتهم إلى درجات الأمراء.
وقد استطاع أخيراً الدكتور ماير أن يفسر إحدى هذه العلامات تفسيرا قريبا من المنطق، وهي على شكل قرن، وقال إنها تدل على القرن الذي كان يحفظ فيه البارود، وذلك لأن أول ظهورها كان في رنوك الثلث الأخير من القرن الخامس عشر الميلادي، أي عندما عم استعمال البارود في الأسلحة.
وللرنك أشكال مختلفة منها المربع والمدبب والذي يتألف محيطه من تقاطع عدة دوائر، ولكن أكثر هذه الأشكال انتشارا هو الذي يتكون من دائرة يقسمها خطان متوازيان إلى ثلاثة أقسام يسمى القسم الأوسط منها (الشطب). وتلون الرنوك بألوان مختلفة حسب ما يختاره صاحبها؛ وتظهر هذه الألوان في رونقها في الرنوك المرسومة على الزجاج والخزف والفسيفساء والرسوم الحائطية
ويقسم الدكتور ماير الرنوك إلى نوعين: رنوك بسيطة، ورنوك مركبة. فالرنوك البسيطة هي التي تحوي علامة أو أكثر على الشطب، أو على الرنك إذا لم يكن بوسطه شطب، وهي رنوك شخصية تدل على الوظيفة التي كان يشغلها حاملها قبل ترقيته إلى درجات الأمراء. أما الرنوك المركبة فيرى عليها علامات متعددة على أقسام الرنك الثلاثة، وهي ليست شخصية، كما هي الحال في الرنوك البسيطة، بل هي رنوك جماعات من المماليك تنتسب كل جماعة منهم إلى أحد السلاطين أو أحد كبار الأمراء كالمماليك المؤيدية والأشرفية والظاهرية مثلا
وكانت الرنوك البسيطة هي الشائعة في عصر المماليك البحرية. ولم تظهر الرنوك المركبة إلا في عصر المماليك الشراكسة، فبدأت بعلامتين فقط على الرنك أيام السلطان برقوق، وتدرجت إلى أن وصلت إلى سبع علامات على الرنك الواحد في عهد السلطان قايتباي والسلطان قانصوه الغوري
ويوجد نوع آخر من الرنوك خاص بسلاطين المماليك فقط ويسمى في الاصطلاح العرفي - نقلا عن الغربيين - (خرطوشاً).
وهذا النوع على شكل دائرة مقسمة إلى شطب في الوسط وقسمين آخرين أحدهما أعلاه والآخر أسفله ولا توجد عليه علامات كما في الرنوك الأخرى، بل عليه كتابات باسم السلطان، مثال ذلك كتابة باسم السلطان قايتباي (انظر الشكل) تقرأ: على الشطب: عز لمولانا السلطان الملك الأشرف، وفي أعلاه: أبو النصر قايتباي، وفي أسفله: عز نصره. ويرجع أقدم هذه (الخراطيش) إلى أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الميلادي فظهرت أولاً على الأواني كالمشكاوات الزجاج، وأقدم ما نعرفه منها على المباني خرطوش باسم السلطان الناصر بن محمد قلاون على حائط في حوش بردق بجوار مسجد السلطان حسن
وتوجد بدار الآثار العربية مجموعة قيمة من الرنوك على الأواني والأدوات المختلفة الأشكال والأنواع من الزجاج والخشب والأقمشة والرخام والأحجار والقاشاني والخزف والفخار المطلي والنحاس إلى غير ذلك. وكذلك في المتاحف الأخرى والمجموعات الخاصة، ولكن عدد الرنوك المصحوبة بكتابات تاريخية قليل بالنسبة إلى العدد الهائل الذي وجد منها في حفائر الفسطاط.
محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية