مجلة الرسالة/العدد 400/كتيبة الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 400/كتيبة الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 03 - 1941



للأستاذ محمد عبد الله العريان

مضى الركب على وجهه يطأ الحزونة ويجوب الصخر في المفازة الجرداء، لا يتكاءده سهل ولا جبل، فما هو إلا أن انتهى إلى (ثنية المرار) من أسفل مكة، حتى حط رحاله ووقف ينظر ما يكون من أمره وأمر قريش. . .

أربع عشرة مائة من أصحاب محمد عليهم الدروع والحلق، وفي أيديهم سيوف طالما رويت من دماء المشركين علا بعد نهل؛ لو شاءوا لدخلوا (مكة) دخول الفاتح لا يقف دون غايته شيء ولا يثبت له بطل؛ ولكن محمداً وأصحاب محمد لم يسعوا مسعاهم ذلك لحرب يحشون نارها في الشهر الحرام في البلد الحرام؛ وإنما جاءوا معتمرين حاجين يدعون دعوة السلام في دار الأمن والسلام. . .

أفترى قريشاً وقد أخرجت محمداً وأصحابه بليل منذ ست سنين فأجلتهم عن ديارهم وأموالهم عنوة، تأذن لهم اليوم أن يدخلوا البلد الحرام في عدة وعدد ليستلموا ويطوفوا ويدعوا دعوتهم بين سمع العرب وبصرها؟. . .

وكتبت قريش كتائبها وأجمعت أمرها على أمر؛ وخرج بنو عبد مناف وأحلافهم في جلود النمور، وعهم النساء والولدان، يقفون لمحمد على الطريق معاهدين ألا يدخلها عليهم عنوة أبداً!

ونظر محمد إلى أصحابه عليهم الدروع والحلق، وأيديهم على مقابض سيوفهم يريدون أن يقابلوا عدوانا بعدوان؛ ثم أرتد نظره إلى قومه الذين فارقهم وفارقوه، قد اجتمعت جماعتهم هناك تترقرق دماؤهم بين اللحى والترائب؛ ثم هتف محزوناً أسوان: (يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب! فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة!)

هنا جيش وهناك جيش، والرسل ما تزال ساعية ذهاباً وجيئة تحاول (الهدنة) بين العسكرين المتعاديين، حفاظاً على حرمات الشهر والبلد؛ وهدأت فورة الدم حيناً ريثما ينتهي أمر المتفاوضين إلى أمر؛ ولكن هناك، في مكة، على مسيرة ساعة أو بعض ساعة، كان بضع عشرات من المسلمين يعض الحديد على أرجلهم، ويعانون ذل الأسر في ظ فوقها ظلمات؛ أولئك جماعة من المستضعفين قد تقطعت بهم الوسائل، فلم يهاجروا فيمن هاجر من المسلمين إلى المدينة، وضرب عليهم وأهلهم ومواليهم بسور ليس له باب، يجرعونهم الذل ويسومونهم سوء العذاب ليفتنوهم عن دينهم؛ ولكنهم صبر على الضراء، مؤمنين بأن يوما قريبا يوشك أن ينطلقوا فيه من إسارهم إلى حيث يعبدون الله جهرة، ويتملون وجه محمد وأصحاب محمد. . .

متى الميعاد. . .؟

كذلك راح كل واحد من هؤلاء الأسارى يسأل نفسه؛ فما هو إلا أن جاءهم النبأ بأن محمدا وأصحابه قد بلغوا ثنية المرار من أرض الحديبية، حتى راح كل منهم يأمل أملاً ويتمنى أمنية، ومضى بعد عدته لأمر؛ أليس جيش محمد يوشك أن يدخل مكة فاتحاً منصوراً لا يقف له شيء؛ فما بقاؤهم في الذل والإسار بعد!

وانتهى العسكران إلى شروط الهدنة الموقوتة، وراح محمد يملي على كاتبه:

(هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يامن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير أذن وليه رده عليهم، ومن جاءه قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه. . .!)

ووثب عمر بن الخطاب كالملسوع يقول: علام نعطي الدنية في ديننا؟

قال محمد: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني. . .!

ومضى الكاتب يكتب. . . ولاح شبح من بعيد يتقارب، تجاذبه أثقال الحديد في رجليه؛ وطلع فتى أشعث أغبر على وجهه قترة وفي عينيه ذبول، فما هو إلا أن لاح له مجلس محمد وأصحابه حتى ترامى عليه وهو يهتف: الحمد لله الذي آمنني بك يا رسول الله من ذل الإسار وعسف الكفرة!

ذلك (أبو جندل) بن سهيل بن عمرو، قد فر من أسر المشركين إلى رسول الله يستعينه على الخلاص. . .

وصمت محمد، وغمغم أصحابه بكلام؛ ونظر إليه أبوه سهيل أبن عمرو وقال وفي لهجته شماتة وسخر: هيهات أن يؤمنك محمد بعد!. . .

وعاد الفتى إلى محبسه وبين جنبيه هم يضيق به! وكان ثمة رجل آخر يتربص، ذلك (أبو بصير) بن أسيد ابن جارية؛ إن الحديد ليعض على رجليه في محبس بني زهرة بمكة منذ سنوات؛ فمتى يحين له الخلاص بنفسه ودينه؟

وجاءه ما كان من أمر (أبى جندل) وما حكم فيه رسول الله، ولكنه لم يجزع

وآب النبي في صحابته إلى المدينة وإن قلوبهم لتفور بالحقد والحفيظة، فلولا أن رسول الله نهاهم لما انتهوا عما أرادوا؛ وتوزعتهم خواطر وهموم، وثقل عليهم ما يلقى إخوانهم هناك، ولكنهم طائعون لأمر الله ورسوله!

. . . ووجد أبو بصيرة سهوة من حراسه فحطم أغلاله ومضى، وتقاذفته الفلوات وحيداً بلا زاد ولا راحلة، حتى بلغ يثرب، وإنه ليعلم ما هناك. . .

وجد الطلب في أثره، فما أدركه قومه إلا وهو في أمان محمد، وما كان محمد ليغني عنه وذلك العهد بين محمد وقريش قائم، ولكن أبا بصير قد أعد عدته لأمر. . .

وجاء رسولا بني زهرة يذكران محمداً العهد القائم ويطلبان إليه أن يرد أبا بصير إلى قومه؛ وما كان لمحمد أن يغدر بما عاهد عليه القوم. . .

. . . وطأطأ أبو بصير رأسه وعاد مع الرسولين أدراجه وعيون المسلمين تشيعه بالدمع، وإن قلوبهم لتفيض بالألم والحسرة؛ ولكن أبا بصير لم يلبث أن عاد إلى المدينة وحيداً وعلى ظبة سيفه دم يسيل!. . .

وماذا على محمد بعد وقد وفى بما عاهد عليه القوم فرد إليهم رجلهم ثم أختار الرجل لنفسه؟

حر أنتصر فلا جناح عليه!

وافتر ثغر النبي عن ابتسامة وهو يقول: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال!)

وسمعها أبو بصير فوعاها، ثم ودع صحابته ومضى لأمره وما تزال يده على قائم السيف. . .

وعلى سيف البحر من ذي المرؤة، كمن أبو بصير كمون القدر يتربص لكل رائحة وغادية

(ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال!)

كلمة تجاوبت بها نسائم القفر بيمن مكة ويثرب، فإذا صداها يتردد بين جدران المعاقل والسجون حيث يرسف المستضعفون من المسلمين تحت حكم قريش، فتلقفتها آذان ووعتها قلوب. . . (بلى، إن معه لرجالاً لا يريدون شيئاً إلا كان!) ذلك كان رجع الصدى!

وفي ظلال صخور الحرة من ذي المروة على سيف البحر، كانت جموع تتجمع، وكما تجتمع الظلال ثم تفترق فتراها العيون ولا تلمسها الأيدي، كان أبو بصير وصحابته؛ وانطلق السجناء من محابسهم يدرعون الظلماء من كل حدب ليجتمعوا بذي المروة؛ وركز أبو بصير رايته في الوادي الأفيح يستظل بها بضع عشرات مرابطين على طريق قريش لكل غادية ورائحة؛ وانثال عليه المدد، فإذا العشرات بضع مئين؛ وعسكرت (كتيبة الإيمان) على الطريق تحمي الحمى وتمنع الجار، وكان على الميمنة (أبو جندل) وعلى الميسرة (أبو بصير)؛ وكانت قريش الكافرة تزودها وتميرها بكل قافلة تغدو وتروح!. . . وانقطع طريق الرائح والنادي على مكة من أرتد أن يطل دمه!

وتسامع الناس بما هنالك ففزعوا وراحوا يداولون الرأي. . .

وسعى ساعي قريش إلى محمد في المدينة: يا محمد، نسألك بالرحم إلا ما آويتهم، فلا حاجة لنا بهم بعد!

وابتسم محمد، ثم دعا كاتبه ليكتب إلى أبى بصير يدعوه إلى الأمن والدعة. . .

ومضى الرسول بكتاب محمد يغذ السير إلى ذى المروة ليدفع كتاب محمد إلى أبى بصير إلى الأمن والدعة، بعد جهاد العمر ومشقة الحياة؛ فما بلغ الرسول حتى كان أبو بصير سطيحاً بين أثنين من صحابته وهو ينشد في صوت يختلج:

الحمدُ للهِ العليَّ الأكبرْ ... من ينصر الله فسوفُ ينصراْ!

ودفع الرسول إليه الكتاب، فتناوله ونظر فيه نظرة ثم أغفى، وكانت إغفاءة الأبد!

وسكنت الريح، وخفت الصوت، وتجاوب بين الصخور صدى الصم هاتف:

(اللهم قد بلغت! اللهم إلى أمنك ودعتك!)

محمد سعيد العريان