مجلة الرسالة/العدد 400/مزامير

مجلة الرسالة/العدد 400/مزامير

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 03 - 1941



للنفس العربية

للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف

2 - غول المهد الأول

كان المهد الأول للعربية (غول) عجوز شوهاء، عمرت هناك دهرا طويلا تأكل أكباد الرجال بالحقد والضغينة والحسد والأنانية والتفرد، وتلعب بقلوبهم، تتخذ منها عقوداً وقلائد، إذ تغري بينها العداوة والبغضاء، فتوقد نيران الحرب الطاحنة لتلغ في دماء الجميع: القاتل والمقتول، والخاذل والمخذول. . .

وقد اتخذوها إلهة معبودةً وقدموا لها القرابين من دماء الأحرار، وزينوا عرشها بجماجم الشبان المفتون دائماً بالبطش والحرب، وأنشدوها الأشعار، واجتلبوا لها الأسمار، وقرعوا الطبول، ونفخوا الزمور. . .

ما تركت فيهم شاباً يكتهل أو كهلاً يشيخ؛ فكبدها عطشى مخلوقة من نهم الرمال، وجشعها للدم المسفوح والدمع المنضوح. . . فلم تك تبقي للحياة إلا النساء والأطفال والمستضعفين، من الذين يقال فيهم: بقايا السيف، وطلقاء عفو القادرين. . .

وكان لها كأسان: تتلقى في إحداهما دم الرجال، وفي الأخرى دمع النساء على الرجال. . . ثم تمزج وتشرب وتعربد وتقهقه. . . كاشفة عن أنيابها الزرق المسنونة. . .!

تلك هي الفرقة! حليلة الشيطان المحظية. . . يقدمها بين يدي الجليل الخطير من كيده، ويرصدها لتحطيم الشأن العظيم في حياة الإنسان غريمه. . . أخرجه بها من الجنة حين فرق بين هوى آدم وحواء ووصايا ربهما، فأزلهما. . . فهبطا إلى الأرض للمحنة والعناء. . . فكانت بيده مفتاحاً عريقاً يفتح به قلوب بني آدم للشر، ويغلق به أبواب الخير. . .

وقد أسكنهما قلب الجزيرة العربية، وأوصاها ألا تترك قلوب هذه الأمة تجتمع وشملها يلتئم وذكاءها الخارق وبيانها الحاذق ييسران لما خلقا من أجله؛ إذ كان يعلم أن وثيقة ملاعنه وبيان خدائعه للنفس البشرية، ستكتب بقلم هذه الأمة، وتسجل في (كتابها)، وتنزل على قلب أحد أبنائها؛ فاستجمع لها كل خبائته ومكايده، واستعان حليلته وأرصدها لها بكل سبيل، وفتنها بأكرم خصالها: الشجاعة والكرم والبيان!

حول الشجاعة إلى وحشية وإسراف في سفك الدماء، كأن ذلك حرفة. . .

وحول الكرم إلى إسراف في مقومات الحياة وتفريط في بنائها المادي، حتى لا يحصل تمدين فيستقر السلام، فيكون وراءه عمران مستفحل وخدمة باقية في الذريات والأعقاب، للتحضير والترقية والتهذيب. . .

وحول البيان إلى شقاشق تهدر ثم تضيع، وأناشيد ترسل فيما لم تخلق له؛ إذ تسجل المخازي وتعرض العورات على الأسماع، وتهيم بأصحابها في أودية الخيال. . .

وكان يعلم أن الظلم والشرك والعبودية والجهالة - وتلك هي قوائم عرشه - ستهدم بأيدي هذه الأمة، وأن ألاعيبه وتماثيله التي كان يملأ بها معابد الأقوام وجوانح إنسانية الشرق والغرب ستتركها معاول العرب حطاماً وجذاذاً. . . . فجعل من بينها سداً ومن خلفها سداً، وغشى أبصارها عن إدراك مواهبها ومكارمها وما عندها من الفطرة الصادقة. ووضع همه الأول في تفريق قلوبها وتمزيق وحدتها، ووسوس لكل قبيلة أنها أمة لها دم خاص منحدر من ماء السماء وضياء النجوم. . . وإلى كل فرد أنه خير هذه الأمة، وأنه عملها المفرد، وبدرها والفرقد! فغنى لنفسه وشرب على هواها مع النجوم في ظلمات الليل، ومع الشمس والشياه والبعران في مراعي الصحراء. . .

وفي الأرض أمامه سعه ومذهب لكل من أراد الاستقلال والتملك. . .

وفي السماء هول وعظمة يغريانه بمد آفاق نفسه كما يشتهي. . .

وفي القلب الإنساني حطب ولهب لكل فرقة ولكل شرود وجموح فلا عليه أن ينشد الإمارة ولو على الحجارة. . .

يا لهذه الصرخات الدائمة في أذن الصحراء من حناجر فتيان هذه الأمة!

يا لبكر. . .! يا لتغلب! يا لمضر! يا لربيعه! يا لعدنان! يا لقحطان! يا لكل قبيلة على كل قبيلة!

وسباع الأرض وهوامها وخشاشها، وعقبان السماء ونسورها، تتسمع إلى هذه الصيحات وتتبعها؛ لأنها أبواق دعوتها إلى الولائم التي تقام من الدماء التي تشخب، والبطون التي تبقر، والأكباد التي تفرى، والقلوب التي تسحق، والعيون التي تفقأ، والأشلاء التي تتناثر.

فكم من قلب كبير لبطل كريم في فم ذئب لئيم. . .!

وكم من لسان فصيح بليغ في منقار غراب بكى منكر الصوت قبيح المرآة. . .!

وكم من عين نجلاء صافية تحت خنفساء قذرة وعقرب عمياء!

ثم يصحوا الذين نحروا الجزور وشربوا الخمور وأنشدوا الأشعار وهتفوا وصرخوا بدعوى الجاهلية، ويستيقظون بعد أبتراد الغلة وذهاب الحمية وسكون الترة، ويعودون إلى الخيام يسمعون للبوم والخفافيش وندب النساء وعويل الأطفال على الجثث الطريحة على الشراجع والنعوش. . .

والغول واقفة تقهقه فيذهب صوتها كصرخات مفزعة في شعاب الجبال وبطون الوديان وأغوار الكهوف. . .

ثم يسمع لقهقهتها صدى بعيد من حناجر الشباب الهاتفين: إلى الحرب. . .

إلى الفطام من الحب ونعيم السلم وقرار الأمن. . .

إلى الثأر من الذين قتلوا الآباء واستحلوا الحرمات. . .

ثم تدور الرحى على أمواج الرمال وضفاف بحار السراب والآل

فيلتقي رجل برجل (تحية بينهم ضرب وجيع)

ثم ترقص الحرب عارية حمراء، تنوس على الآفاق ذوائبها السود وغدائرها التي نسجت من ريح السموم. . .!

وتحولت الأمة العربية تحت سحر هذه الغول إلى أمة من الأحطاب. . . لا تتوهج عناصرها وتظهر عبقرياتها الكامنة إلا إذا مستها النار برهة تستحيل بعدها إلى رماد وهباء منثور تذروه الرياح على وجه الصحراء أرض الفناء والصمت الذي لا يخرقه إلا صرخات هذا الإنسان الضائع الفريد. . .

أما النمو والإبراق والإزهار والإثمار فتلك أدوار لم يكن لشجرة الأمة العربية منها نصيب كبير. . . وأنى للأخشاب والأحطاب أن تثمر وأن يكون فيها مناطق نمو؟ لقد أوشك الجفاف المادي والمعنوي أن يميت جذور هذه الشجرة العظيمة العريقة فاحتبس عنها فيض السماء وسيح الأرض مدة جعلت لبلبها يوشك أن يموت ويقسو كالأحجار أو يكون أشد قسوة

ولكن الله رب الطبيعة وموزع إنسانها وحيوانها ونباتها على بقاعها بقدر موزون، ومخرج الحي من الميت ومفجر العيون الثرارة من قسوة الحجارة. . . كان يصنع هذه الأمة هكذا تحت عوامل الحرمان والقسوة والجفاف والجهالة ليصنع منها معجزتها الأخيرة ويخرجها فجأة على إنسانية الشرق والغرب الناعمة المتعلمة الغنية بموارد الخصب والمال وأفانين الحكمة والجمال كما يخرج الفجر الصادق الوضاح من ظلمة الليل البهيم. . . ليعلم الإنسان أن عقله وقلبه في قبضة الذي (الأرض جميعا قبضته والسماوات مطويات بيمينه. . .) الذي يجلو بياض النهار، وينسخ سواد الليل ويحيي الأرض بعد موتها ويحول بين المرء وقلبه. . . الذي وضع قوانين الطبيعة وإن شاء خرقها: فهو لا يخضع لها كما يخضع أبناء العجز والفناء. . .

فقال للفجر الصادق في حياة الإنسانية: أبزغ من هنا. . . من أفق هذه العقول المحرومة من هدى النبوات وإرشاد العلوم، واسطع من هذه السماء التي لا ينظر إليها أحد من عباد دنيا الروم وفارس والمفتونين بعلوم اليونان. . . وأشرق من أرض الأوثان على المعابد والهياكل والبيع والصوامع (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء)

وقال للنهر الدافق مخصب العقول البشرية: تفجر من هنا. من هذه الرمال الظامئة والجبال الكزة القاسية، من غير نطفة دافقة ورحم لاقفة واعية، وأفض فيضك وأرسل سيحك على المواضع العفنة والبؤر الفاسدة التي اطمأن فيها الشيطان وعشش، ثم باض وفرخ. . . وأغسلها؛ فإن استعصت على التطهير فليجرفها عبابك وليحدر بها سيلك مع القش والغثاء والزبد الذي يذهب جفاء

(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين!)

وقال للوحدة القومية بل للوحدة الإنسانية الجامعة: استعلني من هذه الأرحام المقطعة والعرى المنفصمة، واقتلي (الغول) واجمعي الفلول. . . (. . . وألف بين قلوبهم. لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)

فإذا أمة من الرهبان الفرسان يحملون المصحف والسيف لرسم الطريق وحماية السائرين فيه. يأخذون الدين بكاء وخشوعاً بالقلوب في المحاريب. ودفاعاً نبيلاً في الميادين، وعملاً صالحاً مثمراً في الأسواق والمعاهد والحقول والمصانع والجيوش. . .

وإذا دولة يحكمها سائسون قديسون! ليس فيهم خيلاء الحكام ومطامعهم وغطرستهم، وخداع الساسة وختلهم ونفاقهم، إذ كانوا يفقهون أن الحاكم خادم، والأمير أجير، والسياسة نصح وتربية وإرشاد، لا تجارة واحتراف وذبذبة مع اتجاه رياح المطامع، وخطب جوفاء، ووعود خلابة، وأماني براقة كالتي يلقيها ساسة هذا الزمان على آذان الإنسانية الشقية ليحشدوها بها في مواكب مجدهم الشخصي الكاذب وخيلائهم العاهرة. . .!

عبد المنعم خلاف