مجلة الرسالة/العدد 402/العصبية داؤنا الموروث
مجلة الرسالة/العدد 402/العصبية داؤنا الموروث
كنا ستة في أحد مجالس القطار السريع الصاعد إلى القاهرة. وكانت غريبةُ الغرائب أن يجتمع في هذا المجلس الطائر القلق ثلاثة ينتسبون إلى ثلاثة أحزاب سياسية، واثنان ينتمي كل منهما إلى فرقة دينية؛ وكنت أنا وحدي المستقل فيما بيني وبين الله والناس. وكان مما ليس بُد منه أن يترامى بهم الحديث إلى ذكر ما يشغل الخواطر من شؤون الدين والسياسة والحرب؛ فكان لكل منهم هوى لا يتابعه هوى، ورأي لا يشايعه رأي، حتى انقلب الحديث اللطيف جدلاً صخاباً لا حيلة فيه إلا للإشارة العنيفة والحنجرة الصُّلبة
حينئذ ابتلعت لساني ودخلت في نفسي وتركت هذه الأفواه يقذف بعضها في وجه بعض؛ ثم أخذت أفكر في هذه الصدَعات التي مزقت الكلمة وفرقت الدين، وجعلت بعضنا يبني وبعضنا يهدم، وأحدنا يسوق والآخر يعوق، فلم أجد لها مصدراً تشتق منه إلا العصبية!
تصورت في هذا المجتمع الصغير، صورة ذلك المجتمع الكبير، فعجبت كيف يتسنى في هذا الجمع الشتيت أن يتفاهم لسان ولسان، ويتآلف قلب وقلب، وتتعاون يد ويد، حتى يجوز أن تنتج من اتحاده قوة، وأن تنشأ من آحاده أمة!
الفرد في نفسه هو كل الناس، وشيئه في عينه هو كل شيء، ورأيه في عقله هو كل رأي؛ وذلك داء موروث من أدواء العصبية التي أفسدت كيان العرب وأوهنت بناء الإسلام بما يلازمها من حب الاستئثار وشهوة الرياسة
لم تمتْ العصبية من حياة العرب إلا فترة موقوتة بحياة الرسول. فلما استعز الله برسوله انبعثت في (السقيفة) بين المهاجرين والأنصار تقول: منا أمير ومنكم أمير. ثم سلطها الشيطان على الخلافة فانقسم العرب إلى هاشمية وأموية، ثم إلى قيسية ويمنية، ثم إلى علوية وعباسية، ثم إلى عربية وشعوبية. وأغراها بالدين فانشعب المسلمون إلى اثنتين وسبعين فرقة، تتقاطع بالظلال، وتتعادى في الباطل، وتزعم كل فرقة أنها هي وحدها الناجية! ولو كان تحزب العرب وتشعب المسلمين لمبادئ تصلحُ الدنيا وتعز الدين، لكان ذلك أخلق بمن جعلهم الله أمة وسطاً، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات؛ ولكنهم اختلفوا تعصباً للنفس أو الجنس أو الرأي، وتوسلاً لبلوغ الحكم أو خضوع الخصم أو فتون العامة
وحب الرياسة وشهوة الحكم هما شر أدواء العصبية وبالاً وأشدها استفحالاً في الشرق الق والحديث. ولو ذهبتَ تستقري عوامل الشقاق والانشقاق بين العرب في جميع الأطوار والأقطار لما عدوت ما رُكب في طباعنا من حب الظهور، ورغبة التفرد، ورذيلة الحسد
إذا جاء الأمة خير لا نصيب لي منه ولا سلطان لي عليه، جعلته شراً يستعان على درئه ببدع تتسم بسمة الدين، وخدع تتستر بستار الوطن. وإذا نهضت في الأمة جماعة للإصلاح ولم يكن لي موضع الرياسة فيها ولا مرجع الفائدة منها، أشعتُ حولها الرَيب، وأطرْت فوقها الظنون، حتى يستوحش من ناحيتها الناس فتفشل
تنازع زعيمان عظيمان من زعمائنا على الرياسة أو ما يشبه الرياسة، فقسما الأمة بنزاعهما قسمين متعارضين لكل منهما آراؤه وحججه ومبرراته؛ وكاد يدخل على الناس أن هناك مذهبين في سياسة البلد: أحدهما يصل والآخر ينقطع! وكان مبعث الأمر كله عصبية الرأي وشهوة الرياسة.
واجتمع أعضاء مجلس الإدارة لجمعية المعلمين في بغداد يوم أُنشئت لينتخبوا من بينهم رئيساً فلم يفز أحد من الثلاثة عشر عضواً إلا بصوت واحد! ذلك لأن كل عضو منهم أراد أن يكون الرئيس فانتخب نفسه!
أحزابنا السياسية وجماعاتنا الدينية أسماء وأزياء لا تجد وراءها مسمى يتميز من مسمى، ولا جسماً يختلف عن جسم. وإن طالب الثقافة ليستطيع أن يذكر لك في يسر ووضوح جملة الفروق في الوسائل والغايات بين اليسوعية والماسونية والشيوعية والنازية والفاشية، أو بين حزب وحزب من الأحزاب البرلمانية في جميع البلاد الدستورية؛ ولكني أتحدى أستاذ الجامعة أن يذكر لي فرقاً أو شبه فرق بين الوفديين والسعديين والدستوريين والمستقلين والوطنيين والشعبيين والاتحاديين، أو بين الشبان المسلمين، والإخوان المسلمين، والأخوة الإسلامية، والهداية الإسلامية، وشباب الإسلام، ومجد الإسلام، ومن لا علم لي به من هذه الجماعات. ولئن سألتهم ماذا يمنعهم أن يضموا الشتات ويوحدوا الكلمة ويحددوا الغاية ما داموا اخوة في الوطن أو في الله، ليقولنَّ كل حزب منهم: ما يمنعنا إلا أن يكون لغيرنا زعامة الأمة ورياسة الحكومة. ولو سمحت العصبية الآثمة أن يكون للمتحزبين غاية غير هاتين لأمكن الوفاق وسلمت الوحدة؛ ولكن العصبية هي داؤنا الموروث لا يحسمه عنا إلا طِبابُة الذي عالجه به الله ورسوله: محو الفروق بالحرية والشورى، وشفاء الصدور بالأخوَّة والمساواة، ورفع النفوس بالإيثار والتضحية!
ويومئذ يحيا فينا الضمير الاجتماعي فنعمل مرؤوسين ومجهولين، أصدق مما كنا نعمل رؤساء ونابهين، فنخلص للأمة كما نخلص للأسرة، ونحب لعامة الناس ما نحب لخاصة النفس، ونخرج من حدود العصبية إلى آفاق الوطنية سالكين سبيل القانون إلى غاية الحق، كما يسلك هذا القطار صراطه المستقيم إلى غايته المعلومة!
احمد حسن الزيات