مجلة الرسالة/العدد 404/الغناء والموسيقى وحالهما في مصر والغرب

مجلة الرسالة/العدد 404/الغناء والموسيقى وحالهما في مصر والغرب

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 03 - 1941



للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

- 3 -

أشتد الاتصال بين مصر والغرب منذ أوائل القرن الماضي بتعدد ضروبه، مع الزمن، وتشعِّب دروبه؛ فنمت نزعة المصريين إلى تقليد الغربيين، شأن الَّمتخلف المُستضعَف مع التقدم صاحب الشوكة والغلبة السياسية

وخرج العالم من الحرب الكبيرة الماضية ظمآن إلى التشييد والتجديد والتفوق، مبتلى بأنواع من الفساد وصنوف من الادعاء، وأدرك عندنا جيل نبت في أثنائها أو بُعيدها، واتسع أمامه ميدان التقليد في الضلالة والهدى؛ وكثر بيننا سالكو مناهجه ومدعو العلم والفن، والابتكار والعبقرية؛ فُوجد بطبيعة الحال مَن دعا إلى التجديد في الغناء والموسيقى، والى تقليد الغربيين فيهما، وأقبل عليه فريق من المشتغلين بهما

قام بعضهم بتقليد طائش وهم يحسبون انهم يحتذون مثال الغرب في فنه؛ وكان الأصوب والأجدى ألا يقلدهم إلاَّ من كان على قدر من المعرفة بفنهم، بماهيته الأصلية وأصوله وأنواعه، مع صحة الفهم لتعابيره، كي يكون في مأمن من تشويه ما في يده بأخلاط لا هي من هذا ولا هي من ذاك، كما صنع أناس لا يعرفون من الغناء والموسيقى جملة، إن عرفوا، سوى المقام وربع المقام وبعض النغمات ومواقعها على المعازف، وسوى أقيسة ما يغنون أو يعزفون من الألحان الشرقية والغربية

تورط هؤلاء في تخليط قديمهم المسيخ بما يسرقون ويحرفون من الألحان والموسيقى الغربية القديمة والحديثة، ومن أصوات (الجاز) وهم يسمون هذا الخليط الغريب من ألحانهم وغنائهم وموسيقاهم فناً وتجديداً، مع أن هذا الجديد موصوم بالعيوب المبينة في هذه الكليمات، ومع ركوده في قرار سحيق يبعد به كل البعد عن مستوى الفن الحقيقي الذي أوضحنا ماهيته الأصلية

فكل لحن من أكثر جديدهم ألف صنف (أو سلطة روسية - على استعارة في العامية الفرنسية للمجموع المشوَّش من الأشياء المختلفة) فقد تجد في هذه السلطة العجيبة عبارة صوتية ممسوخة من أوبرا، تتصل بأخرى من شارلستون، تعانق ثالثة من لحن دور ع تنتهي إلى نغم من تنجو أو رُمْبا، يتعليق بذنبه شئ من موسيقى (عشرة بلدي) وما ذلك إلا تنافر صارخ بين دلالات موسيقية على مدلولات تجمع غضبة مستفحلة - مثلاً - إلى خلاعة إلى بكاء إلى إيحاء شهوي، إلى ما لسنا نفهم في الغناء الجديد أو المبتكر، من أصوات يمطُّ ويمدُ فيها حرف أو أحرف مداً قلقاً في مواقعه، شاطاً خالياً من التناسب مضحكا في شذوذه؛ وتسمع منها جلجلات مستنكرة ينبو عنها الطبع، وخلخلات مستغربة غالباً، لوقوعها في مواضع ليست لها بين عويل ونواح طويل

واللحن البدِع في الغناء على ذوق الآن (الموضة: مركب أيضاً، بعضه شرقي وبعضه غربي، يولد مسخاً على سنة هذا المذهب الحديث حتى الأغنية العربية التي يلفقونها على أوزان لحن بأكمله من رمبا مشهورة أو تنجو معروف؛ إذ يدخلون فيه عبارات صوتية من ألحان غربية مباينة له وإذ تتنافر مدلولاته الصوتية ومعاني كلام الأغنية في أذن من يدرك اختلاف المقام المعَّين بالنص العربي، والمقام المعين باللحن خصوصاً إذا كان يعرف كلام الأغنية الغربية التي سُرق منها اللحن، فأبشع بهذا الفن الزائف!

الحق أننا لم نفهم غرض القائلين بأن الموسيقى الغربية أقدر من الشرقية الحاضرة، وبأنه يجب من أجل ذلك أن نحتذي على مثل منشئيها في موسيقانا؛ فلم نفطن لما يجمل بنا أن نقّلد فيه الغربيين، بل اعتززنا بفننا الضالّ، محدود الإحساس والمدى توهما منا أن موسيقانا أوسع مجالاً وأقدر بربع المقام الذي به نفاخر ونكابر، ومن قلت عرفته زاد اعتقاده المعرفة

كان الأحرى أن نقلد غناء الغرب وموسيقاه من حيث هما إجهار بالدلالات الصوتية في الكلام، أي لغة نغمية تعبر تعبيره عن خواطر القلب وأحاسيس النفس وجلاجلها، لأن تلك الدلالات مصداق القائل:

(إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا)

نعم، كان الأحرى أن نقلد غناء الغرب وموسيقاه من حيث هما يصفان ما يصف الكلام، ويتناولان مثله شتى الموضوعات من نواحي الحياة الإنسانية وظواهر الطبيعة ومظاهرها التي يتأثر منها الإنسان الحي في أحضانها، لأنهما يسايران دلالة اللفظ الصوتية، مفخمين لها بالإنشاء الغنائي وبالإنشاء الموسيقي، ويصفان مواقف المسرحيات التي تمثل الحياة من الأوجه المختلفة وكان يحسن أن نقلد الغرب فيما ارتقت إليه موسيقاه من التصوير الذي عظم شأنه بالتحسين والابتكار في المعازف

ولقد رأى زوار معرض الموسيقى بمدينة فرانك فور الألمانية سنة 1928 أن معازف الغربيين كانت تشبه معازف الشرقيين، وانهم ظلوا يحسنونها ويستحدثون غيرها حتى أصبحت آلاتهم الموسيقية متقنة، ميسرة للمنشئ الموسيقى أن يزوق سياق اللحن الأصلي بألوان من أصواتها تصاحبه وتنمقه وتؤنقه في تواؤم بينها وموافقة له، فتحجب بهذا التصوير كل وحدة مملة وكل اطراد مسئم. وقد يبلغ عدد العازفين في النوبة الكبرى زهاء مائة

ذلك كله هو الشيء الجوهري الذي يجب أن نعالج تقليد الغربيين فيه عسى أن يشبه فننا فن الأحياء في العبارة عن الشعور السليم والمدارك السامية، وإلا فما فضل ربع المقام الزائد؟ وماذا يفيدنا ونحن نقف جامدين به وبالمقامات والنغمات جميعاً عند موضوع واحد محدود ليس فيه غير المذلة البشعة، والحزن القتال، والشهوة الوضيعة؟ ولماذا نرضى بالجمود وليس في فطرتنا الشرقية شئ يمنعنا من التعبير الفني عن حركات ما أودعنا الخالق وأودع الغربيين على السواء من نفس بشرية واحدة وغرائز وملكات متماثلة؟

يعتذر بعض المغنين والموسيقيين عن عيوب فنهم بذوق الجمهور الذي يرتاح إليه ولا يقبل منه بديلاً. وهم على حق من حيث أنهم من هذا الجمهور وأنه يحتملهم، ومن حيث أن الذوق كالمثل الأعلى: ثمرة تنتجها عناصر عديدة منها الوراثة، والبيئة والتطور.

لكن حق كذلك أن من عوامل التطور تأثير البيئة في الأفراد وتأثيرها منهم، خصوصاً من الشخصيات القوية بينهم؛ فالفنان يؤثر في بيئته وجمهوره وإن تأثر منهما، ومن هنا نصيبه في تهذيب ذوق الجمهور وأعلاه مثله الأعلى بقدر مواهبه وسحر فنه، ومن هنا تبعة الفنون الضالة ومسؤولية أصحابها الخلقية في إفساد الأذواق

وحق أيضاً أن أولئك طلاب منفعة وليسوا بفنانين إلا مجازاً، لأن محب فنه لا يضحيه تملقاً للعامة وللجماهير، بل يقدسه قانعاً من الكسب بما يمسك الرمق. وإن شئت مثلاً لتقديس الفن فانظر كيف أن الموسيقار الفرنسي (بيزيه - منشئ موسيقي كرمن، الرواية المشهورة عند فنانينا منذ ألف الخلعي ألحان أغانيها العربية - لم يستسلم لذوق مواطنيه الفرنسيين، حين استهجنوا هذه الموسيقى الوصفية التي أبدع فيما صور بها من حياة الإسبانيين، ولم يهمل أسلوبه الفني؛ فلما علا قدره بكرمن في عاصمة النمسويين وطار صيته رجعوا عن خطئهم، وعرفوا فضل نابغتهم.

نحن إن كففنا عن العيش في الظلام، وفتحنا بصائرنا لنور الحق، وسلك الموهوبون منا سبيل الإصلاح، ظهر فينا المغنى الأحوزي والموسيقار العبقري

فإذا أتيح للموسيقى والغناء المصريين أن يظهر من محبيهما فنانون لا تعبأ شخصياتهم القوية بغير فنهم، ويعرفون ما عندنا وعند غيرنا، فانهم يئنون بالجديد السليم الذي يسري في النفوس، ويسوق طوائف المحترفين والهواة والمستمعين إلى الطريق القويم فينصلح الذوق العام شيئا فشيئاً؛ ثم يتصعد مستوى الفن مع انتشار التعليم والثقافة، وارتقاء البيئة والحياة الاجتماعية، فنبلغ الشأو بعد حين. ووجود نقاد يدعون إلى سلوك سبل الإصلاح هو علامة أوانه بل آية أبانه.

ومن لم يصدق ما قرأ في هذه الكليمات فإني أوصيه بأن يطلع على بعض كتب الموسيقى الشرقية، وعلى شئ من تاريخ الموسيقى الغربية ومذاهب أصحابها ونقادها؛ وبان يصغي بانتباه إلى مختارات منها بإرشاد من يفهمها؛ ولعله يستيقن بعد ذلك أن سبيل الإصلاح والترقي في الغناء والموسيقى عندنا هو دراستهما دراسة فنية ثقافية جدية، وتقليد الغرب فيما تقدمت الإشارة إليه؛ وليس شك في أن المعارضين يسلمون بهذا في مستقبل قريب أو بعيد، تسليم أناس كانوا قبل سنين أدبرت ينعون على المستنيرين معالجتهم إنقاذ اللغة والأدب من جمود طالما أرادوهما عليه، ويرمون بما ليس دون الكفر كل من قال بوجوب الإصلاح من شئون الأزهر

محمد توحيد السلحدار