مجلة الرسالة/العدد 405/في المصادر والأصول
مجلة الرسالة/العدد 405/في المصادر والأصول
نساؤنا بين التقاليد والتجديد
لصاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك
مدير عام دار الكتب المصرية
مقدمة
من الدقة أن يرمى بحثنا إلى تناول أحوال المرأة المصرية المعاصرة، لأن فينا من مدله ي العمر فتيسر له أن يصف مسلك نسائنا في فترة محصورة من الزمن، لعلها البرزخ الفاصل بين ما كانت تجري عليه أحوال النساء عند السلف القديم، وبين ما أصبحن عليه الآن، وما قد يصرن إليه في مستقبل الأيام.
وإني، مع حرصي الشديد على تضييق مجال البحث وحصره، قد أتعرض للماضي أحياناً في نظرة خاطفة، لأجلي فيه بعض المعالم التي ترسمتها المرأة المصرية في مسيرها لكي تتبين: ألا يزال الدرب الذي تعدو الآن فيه موصولاً بالطريق الذي سلكته عدة قرون؛ أم أصبح مسيرها مقطوع الصلة بماضيها القريب والبعيد؟ ولعل المرأة حين اتخذت أسلوبها الجديد، أخذت تتعرض لمنحدر كثير الزلل والخطر. وإني حين أعني بالبحث في أحوال نسائنا، إنما أعني بحملة الرسالة الكبرى في تشييد أركان الهناء في الحياة، بل بحملة سر الرحمن وكلمته في بذل المحبة والرحمة والسلام.
وإني إذ أثير اليوم موضوع المرأة المصرية بين التقاليد والتجديد، إنما أثير موضوعاً حيوياً للزوجات والبنات والأمهات. وعلى الجملة موضوعاً يتصل بكيان الأسرة وكيان الأمة التي تنتمي إليها، ونرجو أن تحيا بنا عزيزة ونحيا بها كراماً.
لمحة تاريخية
فمن نيف وثلاثين عاماً كان (قاسم أمين) يحلق بخياله في متسع تاريخ مصر الاجتماعي، ويلقى بنظراته الناقدة في صحائف حياتها العمرانية، وكان يصيب نفسه وخز من الألم منشأه المظاهر الاجتماعية السيئة التي اتصلت بحياة الأسرة، دون أن يقرها العقل السليم، أو يرضاها الشرع الحكيم. ولقد حركت وخزات الألم لسانه وقلمه بما كان ينشده لأمته من ظهور امرأة جديدة تكون على حد قوله: (شقيقة الرجل، شريكة الزوج، مهذبة النوع، مربية الأولاد)
ولعل الصورة المثلى التي كان يتخيلها (قاسم أمين) ويريدها للمرأة المصرية تجعل للنساء كما كان يكتب ويقول:
- رأياً في الأعمال. فكراً في المشارب، ذوقاً في الفنون، قدماً في المنافع، مقاماً في الاعتقادات الدينية، فضيلة وشعوراً في الوطنية.
وكان يعتقد أن المرأة قد تسمو إلى ما ينشده لها من المكانة لو كملت تربية النساء على مقتضى الدين، وقواعد الأدب، ووقف بالحجاب عند الحد المعروف في أغلب المذاهب الإسلامية.
ومن حق المتأمل أن يجد فيما كان ينشده ذلك المصلح الكبير صورة للمرأة العاملة الجادة الشريفة الكريمة، وليست صورة المستهترة العابثة في مهازل العيش وترهات المجتمع، وأن الاختلاط الذي كان يدعو إليه بين المرأة والرجل إنما هو ذلك الاختلاط البريء من مثيرات المفاسد، وتدعو إليه مقتضيات الحياة النزيهة المثمرة، وأن ما كان ينادي به قاسم من الحرية إنما هي الحرية التي تعين على الخير، وليست تلك التي تركب للشرور ولآثام. على أن قاسماً كان شأنه في دعوته لمثله الأعلى شأن كل مصلح تلك فؤاده ولبه المثل الذي كان يدعو إليه، فكان اهتمامه لتحقيق دعوته أشغل لفكره، وأصرف لنفسه عن الاشتغال بالبحث في مختلف الوسائل التي تقي أغراضه الصالحة من الانحراف.
لقاء الدعوة
وجد قاسم أمين حين دعا دعوته للمرأة المصرية من أيدوه ومن عارضوه، ومن حذروه سوء العقبى إذا لم تتخذ الحكمة وأسباب الاحتياط.
فأما الذين أيدوه فكانوا ممن يعتقدون أن نهضات الأمم وعظمتها تفتقر إلى مسعى الرجال ومسعى النساء، ورقي الرجال ورقي النساء، ويكون ذلك بإشاعة التربية والتعليم ونشر الحرية بين أفراد الأمة جميعاً.
وأما من عارضوه فكانوا ممن يعز عليهم أن يتغير ما ألفوه في حياتهم من عادات راسخة ضيعت على المرأة الكثير من حقوقها في الحرية والتعليم، وكانوا من المستضعفين لضغط التقاليد التي أثقلت كواهلهم وكواهل عدة أجيال من آبائهم وأسلافهم.
وأما من حذروه، فكانوا يعتقدون أن للمرأة صفات نوعية تتميز بها عن الرجل، وأن مسلكها وتقدمها ينبغي أن يساير ما انتزع عن فطرتها من الصفات، وألا يتعدى دائرة ما اختصتها. به الأقدار، وألا يخرج عن الميدان الذي يتحقق فيه فوزها في كفاحها الحيوي، ويتجلى فيه إنتاجها في الوجود؛ وهؤلاء يقررون على نحو ما يقول الأستاذ فريد وجدي:
(أنهم ليسوا بدعاة إلى ظلمة القرون الأولى، ولا بمروجي خطة أسر المرأة، بل طلاب كمال يناسب كرامة الإنسانية، ورواد مدنية حقة يقوم عليها الإنسان غير خائن لأمانته، ولا غاش لنفسه)
على أن دعوة قاسم كان لها الفوز على دعوة معارضيه، ولم يكن تحذير المحذرين من بعض ما لا يرضون من نتائج هذه الدعوة بمعوق لها عن الانتشار المتواصل السريع، وذلك لأنه حركة النهوض المصري كانت تشتعل في شتى ظواهر الحياة الاجتماعية من نيف وخمسين سنة. وكان لابد لها أن تمتد إلى الأسرة وتتصل إلى المرأة التي هي دعامة البيت وركنه الركين.
وعلى ذلك سايرت دعوة قاسم مجرى الحياة الاجتماعية المندفعة للرقي، وفسح للمرأة طريق معبد في النهضة العامة، وفتحت لها أبواب التعليم، ونظمت القوانين لمصلحة النساء؛ وعلى الجملة سارت النهضة النسائية في بداية أمرها مؤيدة بالحق يشجعها كل ميال لرؤية المجتمع المصري يسير من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن.
الانحراف
لكن بينما كانت تسير نهضتنا النسائية في مجراها الصافي إذ شابها ما يعكر شيئاً من صفائها برغم أنها صدرت عن نبعها الأول، ومن دعوة قاسم، نقية طاهرة، فتحول خروج النساء من عزلتهن عن أن يكون وسيلة يسوغها شرف الغاية ليكون غاية لذاته، أو وسيلة لغاية وضيعة. ولعل من أشد العوامل التي أضعفت قيمة الاختلاط بين المرأة والرجل وسوأت خروجها عن معزلها الذي ظلت فيه طويلاً هو انتشار بعض الآراء دون أن تفهم على وجهها الصحيح، ودون أن تنضج في فهم من تخطفوها وتلقفوها؛ ومن هذه الآراء ذهابهم إلى أن الاختلاط بين النساء والرجال وتوالي المجامع التي يتلاقون فيها من شأنه أن يهذب من المظاهر، ويعمل على ترفيع النظرات، وترقيق الآداب. وحقاً أن تلاقي النساء بالرجال في الحدود التي تقتضيها حياة التعاون والعمران من شأنه أن يجر إلى عالم النسيان كل الاعتبارات الجنسية.
فالفلاحون الذين يتلافون في الحقول مع الفلاحات لاستغلال خيرات الأرض، إنما يجتمعون اجتماعاً طبيعياً لمقتضيات نافعة قاهرة فيتلاقون بدافع هذه المقتضيات ويفترقون عند انعدامها. والمتبادلون من الناس في المتاجر، إنما يتلاقون لحاجة وينصرفون عند انقضائها، والمتلاقون في المعابد قد يجتمعون رجالاً ونساء لأداء حق من حقوق دياناتهم.
وعلى الجملة، فإن في دواعي الاختلاط الطبيعي الذي يتحقق لدوافعه الداعية ما يعين على ترويض النزعات الجنسية للاستقرار في مكامنها، والوقوف عند حدودها التي تحول دون كل مكروه.
التوسع في الاختلاط وأضرار ذلك
لكن الناس قد توسعوا في هذا الترخص واستباحوا لأنفسهم أن يحوزوا مجتمعات الجد الطبيعية إلى مجتمعات هازلة مصنوعة من شأنها أن تؤدي إلى تحريك الانفعالات التافهة والشهوات الوضيعة والمواقف المرذولة أكثر مما تؤدي إلى ما تزكو به العقول، أو تترفع به النفوس، أو تتحقق به فائدة من فوائد الحياة.
فقد يزدحم النساء والرجال في مجتمع من مجتمعات الشاي أو الخمر (الكوكتيل) فلا يلبث هذا المجتمع أن يتحول إلى معارض التزيين والأناقة، والى مضمار للتأنق بالأقوال الرخيصة، وبذل التظرف المصنوع، واتخاذ الابتسامات المنافقة. وإذا كان لبعض النساء من وسائل الزينة ما ينحدر في المرتبة عن زينة الأخريات، فسرعان ما تنبض القلوب بالغيرة والحسد، أو تدق دقات الزهو الأجوف. وإذا كان في هذه المجتمعات من يعوزه يقظة الفضيلة، وصلابة الخلق، فثم النظرات المسمومة، وثم الأحاديث المهيئة لنزعات السوء ونزعات الشيطان، ومن ثم فضائح لغواية، ومآسي الغيرة، وما قد يجره ذلك من الكوارث في هدم سعادة الأسر.
وإذا ذكرنا مجامع الشاي وحفلات الخمور، فلنضف إليها ما هو أسوأ منها أثراً من منتديات الميسر، والمراقص، والرحلات المشتركة، ومسارح التمثيل الخليع، وحمامات السباحة الجامعة. وعلى الجملة ضروب المجتمعات التي تخلط بين النساء والرجال، وإثمها أكبر من نفعها لو أن لها نفعاً مذكوراً عند من يحسنونها وينزلقون إليها.
وإذا صح أن بعض ما ذكرت من هذه المجتمعات يخلو مما أشرت إليه من المساوئ ويؤدي إلى فوائده المزعومة من جر الاعتبارات الجنسية إلى عالم النسيان، فإنها تضعف من المرأة عاطفة الحياء، وتوهن في الرجل عاطفة الغيرة، وفي إضعاف عاطفة الحياء خسارة كبرى في المرأة، فإن الحياء زينة لها؛ وفي إيهان غيرة الرجل خسارة كبرى على الرجولة وحماية الأسرة.
ولعل قاسم أمين يخشى أن يتجاوز الناس حدود المعقول فيما دعا إليه من الاختلاط حين دعا إليه بعد أن تجاوزوا حدود المعقول في العزلة فقال:
(والذي أراه في هذا الموضوع هو أن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصون المرأة من التعرض لمثارات الشهوة، ولا ترضاه عاطفة الحياء)
وهكذا ظلت حركة اختلاط المرأة بالرجل تنمو سريعاً وتشيع إلى أن أصبحت الفتاة التي كانت أمها من نيف وثلاثين عاماً لا تستبيح نفسها الاتصال ببعض المحارم أصبحت هذه الفتاة ترى الاتصال بالرجل للسمر والتسلي حقاً من حقوقها، وليس في الحرص على ذلك من عار ولا تأثيم.
ومن المقرر أن الاختلاط بين النساء والرجال إذا قام على غير مقتضياته الضرورية الجادة، وكان مبعثه اللهو والترف، فإنه لا يلبث أن يقوض دعائم الأمم. وفي تاريخ الرومان شاهد على ذلك:
(فلما دعاهم داعي اللهو والترف إلى إخراج النساء من خدورهن ليحضرن مجالس الأنس والطرب، فخرجن خروج الفؤاد بين الأضالع، فتمكن ذلك العنصر المهاجم وهو الرجل لمحض حظ نفسه، من إتلاف أخلاقهن، وخدش طهارتهن، ورفع حيائهن حتى صرن يحضرن التياترات، ويغنين في المنتديات، وساد سلطانهن حتى صار لهن الصوت الأول في تنصيب رجال السياسة وخلعهم. فلم تلبث دولة الرومان على هذه الحالة حتى جاءها الخراب من حيث تدري ولا تدري).
الحرية وسوء فهمها ولقد أساء الناس فهم معاني الحرية كما أساءوا فهم الاختلاط والدعوة إليه، وجر ذلك إلى عدة شرور. وليس من شك أن الحرية من مطالب النفوس عندما يشكو الناس من نظم اجتماعية تحول بينهم وبين الحقوق الفطرية التي وهبت لهم لتأدية رسالتهم في العمران. وقد ينزع الطير المحبوس لحريته، ويحن للهواء الطلق والأجواء الواسعة، لأن في الحبس تعطيلاً لأجنحته التي سواها الله للطيران، وتتدرج بممارسته لكمال وظيفتها. وقد ينزع الشعب المقهور للحرية التي ضيقها عليه القاهرون لينعم بعزته القومية المسيطرة عليه، ويطمئن إلى عاداته وآماله المحببة إليه، ويستغل ثروة بلاده ونتائج كسبه ومسعاه. وقد يطلب المتبادلون المنافع في أسواق التجارة حرية البيع والشراء ليجد كل من الطالب والعارض ما تتحقق به حاجته ومصلحته وأجره. وقد يهيم المؤلف والكاتب والخطيب حين يصدقون بطلب الحرية لاعتقادهم أن في دعوتهم عوناً للخير والحق. وعلى الجملة قد تطلب الحرية كأداة صالحة يستعين بها المرء لأغراضه العليا من الخير والكمال. فما هي إذن تلك الأغراض العليا التي يقصد النساء إليها ويتخذن من الحرية لها أداة صالحة؟
أما إذا كان طلب الحرية ليصبن من العلم ما يصقل نفوسهن ويقوم أخلاقهن، فلا يمانع في ذلك أحد؛ فطلب العلم الذي تتكمل به النفس فريضة على الناس جميعاً. وإذا كان الباعث على طلب الحرية هو القيام بما ينتفع به المجتمع حين يحتاج لنشاط نسائه، فليس من ينكر عليهن تلك الحرية حين يقتضيها الحال وتدعو إليها الظروف. لكن إذا طلبت المرأة حريتها لغير ما ينفع، كما لو أرادت أن تلبى داعي النزق لتلهو بمخالطة اللاهين، وكما لو اتخذت من الحرية ما يستخدم لهجران بيتها لتأنس بالملاهي والمزارات والتسكع في الأسواق، وكما لو أرادت أن تتخذ من الحرية مطية للتبرج رغبة في الزهو بنفسها والغرور بزينتها، فليس من أحد رشيد يرضي عن حرية تركب للعبث والشطط.
لقد أبيح للكثرة من نساء الغرب تمشياً مع سوء فهم الحرية أن يتعرفن بمن شئن من الناس ويختلطن بالرجال بمحض اختيارهن حينما يشأن طوعاً لحقهن في الحرية، أو اعتماداً على ثقتهن الموهومة بأنفسهن؛ وقد يحاكيهن في ذلك بعض نسائنا في هذا العصر، وفي بعض الطبقات مطوحات بأنفسهن بعيداً عن مألوف العرف المصري والإسلامي، غير مكترثات بما قد يجر إليه هذا الإمعان في الاختلاط من مفاسد خلقية ومن أثر سيئ في بنية الأسر وفي تقدم المجتمع وكيان الدولة. وفي الحق أن هذا التجديد المروع في عادات نسائنا، هو أشد ما يخشى أثره في أمة كأمتنا ما زالت في طورها الحاضر تحبو في السبيل الموصلة لعظمة الأمم.
فإذا كان قد أصاب دولة الرومان ما أصابها من الضعف عند التوسع في الاختلاط المفسد بين الرجال والنساء، وعند التوسع في إطلاق حريتهن، فإن مثل هذا الاختلاط المنحرف كان له أكبر الأثر في إضعاف بعض الأمم الغربية المعروفة في العصر الحديث حين خبت ثقافتها، وهزل إنتاجها الأدبي المعاصر، وانحلت قوة المقاومة منها عند الجهاد والكفاح الحيوي.
(البقية في العدد القادم)