مجلة الرسالة/العدد 406/في المصادر والأصول

مجلة الرسالة/العدد 406/في المصادر والأصول

​نساؤنا بين التقاليد والتجديد​ المؤلف منصور فهمي
في المصادر والأصول
ملاحظات: بتاريخ: 14 - 04 - 1941



نساؤنا بين التقاليد والتجديد

لصاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك

مدير عام دار الكتب المصرية

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

التبذل

وإني لمناسبة ما ذكرته من الاختلاط لغير مقتضياته الاجتماعية ذكرني صديق بأن بعض فتياتنا قد يغشين المجامع لغرض شريف ذلك هو الرغبة في الزواج وبناء البيت، وإذا صح ما ذكره صديقي، فإن نبالة النية وشرف القصد لا يحولان دون فساد الأسلوب وتعثر الطريق المتبع، لأنه لا مأمن من نزوات النفوس ووساوس الشيطان، إذ يضيع على الرجولة شهامتها فيستخدم الخلطة للعبث والتسلي دون تقدير لما يترتب على ذلك من تردي الفتيات والنساء في سبيل الغواية، ودون نظر إلى فداحة الآثم حين يصيب كل من جنس الرجل والمرآة من الآخر آنسا لا يحلله إلا صدق المواثيق والعقود وإخلاص النفوس. وزيادة على ذلك فإن الفتاة إذا غشيت هذه المجامع المصنوعة دون حذر شديد، أو حامت حول حماها، فقد تقع في مخاطرها، لأن حظ الفتاة من طيبة القلب وليونة العاطفة وروح الإيثار وسذاجة الوجدان يربو كثيرا عن حظ الرجل الذي راضته أحداث الزمن على مرانة في التفكير وقلة في الحساسية وتغلغل في الأنانية، مما قد يساعده على أن تكون المرأة هدفاً لخديعة الرجل وتغريره. ولطالما يهفو الرجل فتدفعه هفواته لاستباحة المتعة من المبذول، لكنه طالما يكرم نفسه باختيار زوجته ممن يكرمن أنفسهن في حمى العزلة وقداسة الصيانة. وأزيد على ذلك أن ابتذال الفتيات لأنفسهن مضيع للعزة والكرامة. وينبغي أن تكون عزة المرأة وكرامتها فوق شرف الزواج، ولا عزة لمن يتقدمن من النساء في سوق العرض والطلب، ومن الخير لهن أن يكن معززات مصونات محببات يطلبن في شغف، لأن في الابتذال إضعافا للرغبة. ومن الخير للرجل أن يكون شهما كريماً، فيستخدم شهامته ومروءته لصيانة شريكة حياته وأم بنيه عن مواضع الذلة ومواطن الابتذال حين تنز الفتاة في ميدان العرض والطلب فيصيبها ضعة العارض ومهانة المعروض.

فساد الذوق

وفيما سلف ذكره، قد أشرت إلى انحراف الاختلاط عن وجهه القويم، وأشرت إلى سوء فهم الحرية المعقولة والى مهانة الابتذال. أشرت إلى كل ذلك لعناصر مسيئة لنسائنا المجددات؛ ويجدر بي أن أشير إلى عنصر آخر لا يقل أثره سوءاً. ذلك هو اختلال الذوق في اللباس والتزين. لقد ذكر أحد العلماء الممتازين الحاليين الدكتور (كاربل) في كتاب له إلى ما أصاب العصر الحديث وأهله من ضعف في الإنتاج الصالح، وضمور في الجسوم، وضعف في الذوق الفني. وليس من شك في أن ملابس السيدات الغربيات قد أدركها ذلك الضعف، من حيث الذوق ومن حيث اللياقة. وإن مستحدثات الأزياء التي يتخذها نساؤنا عن الغربيات ويغيرها بين حين وحين مبدعو الأناقة من أهل التجارة، تدل أبين دلالة على ضعف هذا الذوق الفني وانحلاله. فالجلباب القصير والمحاسر والقبعات قد يؤلم الكثير من أشكالها نظر ذي الذوق السليم. فهبك رأيت امرأة طويلة نحيلة في جلبابها الذي لا يبلغ ساقيها، ويخرج عن كمية ساعداها الطويلان النحيلان العاريان وتمتد رقبتها الدقيقة من طوقها المفتوح، وتتخم شفتاها الظاهرتان في وجهها الضئيل بتلك الأصباغ الدامية. أفلا يخيل إليك أنها كالأفعى ولغت في الدماء؟ وليست هذه الصورة الدميمة البشعة إلا من نتائج اللباس القصير الحاسر الذي لا يرضه لهذا الجسم ذوق صحيح.

التغرير بالمرأة

وكما أساء الاختلاط المطلق الحرية السقيمة المعتلة وفساد الذوق الشائع إلى النساء والحديثات المعاصرات كذلك أساءت إليهن فلسفة التغرير. فقد يغرر العصر الحاضر بالنساء حين يدفعهن إلى ميادين من الأعمال الشاقة. كان من الخير أن يزاولها الرجال ويحتملوا أوصابها وتبعاتها دون النساء حرصا على أن تسلم وظيفة الأمومة التي هيئت لها المرأة، ووقاية من زجها في الجهود المضنية التي تعطل فيها صحة أنسجتها العضوية، وتفسد عليها رقة الطبع وسلامة الأعصاب.

كتب الأستاذ فريد وجدي (حين بحث في مشاركة النساء الرجال في أعمالهم) قال: (إن من أقبح مظاهر اسر المرأة في الأفراد والأمم ترك حبلها على غاربها، وقذفها بذلك الجسم اللين والعواطف الرقيقة والفؤاد المملوء رحمة، والمهجة المتشعبة الشفقة، أن تزاحم الرجال في معترك الحياة كتفاً لكتف لسد رمقها، فتقضي طول نهارها وجزءاً من ليلها بين لهيب المعامل ودخانها أو على قارعة الطرق بين هيجاء تلك المدينة المفزعة. ولو تسنى لك يوماً من الأيام أن تزور معامل أوربا وأمريكا مما جمع إلى فخامة المبنى وضخامته سعة لا يكاد يحيط بها البصر، رأيت في داخلها أمرا عجيباً: رأيت جماعات من ذلك الجنس الرقيق مكلفات بأشق الأعمال وأقسى المحاولات العضلية واقفات أمام التنانير المسجورة يعانين أوصاب الحياة ومرارة العيش، تقرأ على وجوههن التي لفحتها تلك النيران المستعرة هذه الجملة التي لا تذهب من مخيلتك أبدا:

(هذا منتهى أسر الرجل للمرأة)

ومحررو المرأة عندنا بدلا من أن يعدوا هذا مرضاً اجتماعياً كما يعده علماء العصر الحاضر ويضعوا كل همهم في حياطة بلادنا منه مثل ما يفعله حكماء أوربا وأمريكا تراهم يودون أن يفتحوا علينا ذلك الباب الهائل لظنهم أننا سائرون خلف أوربا قدما بقدم.)

ولقد صدق الأستاذ وجدي فيما كتب فمحاكاتنا للغرب تدفع نساؤنا الحديثات في كل ميادين العمل الاجتماعي ويغرر بهن ليسرن في هذا السبيل من غير قيد ولا حذر. وقد توقع الكثير من علماء الاجتماع سوء عاقبة هذا التمادي في التغرير بالمرأة وتوريط المجتمع في كوارث اقتصادية وخلقية، حتى أن (أوجست كومت) وهو رأس من رؤوس فلاسفة الغربيين كان يرى من واجب الهيئة الاجتماعية أن تضمن للنساء حياة ناعمة مريحة إذا أعوزهن من يكفلهن من الأقارب والأزواج. وذلك لكي تتجه النساء وجهتهن فيما خلقن له من إسعاد الأسرة ودعم أسسها، ومن إنعاش جو المحبة، ومن إشاعة نسمات السلام. وإن ما يذهب إليه هذا الفيلسوف يساير تعاليم الإسلام حين يوجب على بيت المال أن يقوم بنفقات من يفقدن كافلهن ولا يملكن ثروة تدرأ عنهن العوز، أو ليس لهن من يعولن عليه من ذوي القربى الواصلين للأرحام.

ولقد ذهب كذلك (جول سيمون) الاجتماعي الفرنسي إلى تأكيد ما يفصل بين واجبات المرأة وواجبات الرجل في الحياة الاجتماعية مما يدعو في جملته وتفصيله إلى الحد من التغرير بالنساء بزجهن في كل الأعمال التي تقتضيها الحياة العمرانية

الأسرة وقيودها

يتبين مما تقدم ذكره أن للمرأة كمالاً نوعياً خاصاً، ومضمار هذا الكمال الأمومة وتربية الأولاد وتنظيم البيت وإسعاد من فيه. وعلى حد ما يقول قاسم أمين في كتاب المرأة الجديدة:

(نحن لا نجادل في أن الفطرة أعدت المرأة للاشتغال بالأعمال المنزلية وتربية أولادها، وأنها معرضة لعوارض طبيعية كالحمل والولادة والرضاعة لا تسمح لها بمباشرة الأعمال التي يقوى عليها الرجال؛ بل نصرح هنا أن أحسن خدمة تؤديها المرأة إلى الهيئة الاجتماعية هي أن تتزوج وتلد وتربي أولادها. هذه قضية بديهية لا تحتاج في تقريرها إلى بحث طويل)

ومن المعلوم أن تأسيس الأسرة وتكوين العائلات إنما دعم على انتقاد من حريات الأفراد وحد من استقلالهم حيال ما يعود من الفوائد الناتجة عن التكامل العائلي حين يشمل أفرادها الحدب والحنان والعودة والتراحم وما يترتب على ذلك من تبادل المنافع.

لقد كانت المرأة في حالة الهمجية الأولى واسعة الحرية، وكذلك كان الرجل. لكن تقدم النوع الإنساني وأطوار العمران قضت شيئاً فشيئاً على هذه الحرية الهمجية إلى أن وصل المجتمع إلى تكوين الأسرة المهذبة المتراحمة على أنقاض هذه الحريات.

ولقد حددت الشرائع وما تعارف عليه الناس لكل من أفراد الأسرة مختلف النظم والحدود، وعلى ذلك يجب أن يمارس كل من الزوج والزوجة والبنين حقه وواجبه في حدود الله والعرف الصالح.

ويسوءنا أن نلاحظ على مجتمعنا في العهد الأخير أن الناس نساء ورجالاً قد تعدوا حدود المعقول والمشروع في السلوك. وبخاصة فيما يتعلق ببنية الأسرة وجوهر آدابها.

ففي حين قضت حكمة الإسلام أن يكون للزوج درجة على زوجته في تسيير دفة الحياة العائلية اصبح الحال بعكس ذلك في الأسر التي طغى عليها التقاليد المنحرف الدخيل، وفي حين كانت تدعو التقاليد الإسلامية بأن تحتجز زينة النساء وتبرجهن للبيت والأزواج؛ اصبح الكثير من النساء لا يستسغن التزين والتبرج إلا للمجتمعات مع ضعف في الذوق جرت إليه المحاكاة الطائشة.

وفي حين كانت تقاليد الإسلام لا تبيح للنساء مخالطة الرجال ولا تبيح للرجال مخالطة النساء إلا بشروط وقيود. أصبحت حرية الاختلاط في بعض الطبقات الاجتماعية رهينة وحي اللهو والهوى والفتون، وفي حين كانت التقاليد الإسلامية تدفع بالناس إلى التبكير بالزواج والتناسل أصبحت أطوار الأخلاق، وفلسفة الزمان المستحدثة تغري بعكس ذلك من التقاليد التي قامت عليها عظمة الماضي وقوة السالفين.

وليس من شك أن هذه الحالة التي تواضع الناس على تسميتها بالحياة العصرية حيناً وبحالة التجديد حيناً آخر يتنافى مع التقاليد الأصيلة فينا، وإن هذه الحالة السيئة تسللت إلى مصر مع غفلة الزمن وضعف الشخصيات والولوع بالمحاكاة، ولقد شعر الكثيرون منا بخطر هذا الحال الاجتماعي واخذوا يثورون عليه سراً وفي استحياء في حين أن دعاة من صميم الغرب قد دعوا جهرة للحد من خروج المرأة عن نطاق عملها ودوائر نشاطها.

ورد في جريدة المقطم منذ أسبوع: أن سيدة سورية طلبت إلى الجهات المختصة في حكومتها الموافقة على انتظامها في سلك المحاماة، فردت تلك الجهات بامتناعها عن إجابة هذا الطلب لمخالفة ذلك لروح القرارات التي أصدرتها الحكومة الرئيسية في فيشي.

على أني لا أتعرض لإقرار ذلك أو رفضه، إنما أريد أن اتخذه دليلاً على ما يبديه الغرب من الروح الجديدة، والرجوع بالمرأة إلى الحدود الواجبة.

المعاول

ومما يزيد الأمر عندنا سوءا أن معاول الإتلاف في الحياة الاجتماعية متعددة وكثيرة، فإشاعة الروايات الغرامية، وعرض المسرحيات الرخيصة، وترديد النظر فيما يعرض في دور الخيالة السيئة، وما يوحيه ذلك للفتيات والفتيان والزوجات والأزواج والاختلاف إلى المتنزهات العامة دون رقابة واحتشام وعصمة، وقراءة ما يسمونه الأدب المكشوف، وكثرة الاطلاع على الصور في أوضاعها الخليعة، وما إلى هذه المغريات. كل ذلك شأنه شأن المعاول في هدم الحياة الاجتماعية المنتجة، وفي زعزعة أسس التربية الصالحة في كيان الأسر.

الدعوة والعمل وأصبح لزاماً على المفكرين دعوتهم للإنقاذ من هذا البلاء، ولعل هذه الدعوة تجد آذاناً صاغية لما آلت إليه حالة المجتمع من التدهور كما وجدت دعوة قاسم أمين آذاناً صاغية عندما اشتدت التقاليد القديمة وضيقت الخناق في حياة النساء، وعسى أن يكون لوزارة الشؤون الاجتماعية وللهيئة الحاكمة عمل في ذلك مذكور قد أتعرض لتفاصيله وبيانه في فرصة أخرى أن شاء الله.

على أنني أرجو من المرشدين الراشدين والكاتبين والكاتبات ورؤوس الأسر رجالاً ونساء أن يفطنوا للخطر الذي حقت كلمته في الغربيين وراء الاستهانة بروابط الأسرة ومقتضياتها ومقوماتها فاستيقظ الغرب يبتغي الوسيلة لوقايتها مما حاق بها وبرد المرأة إلى ما هيأته لها المقادير.

منصور فهمي