مجلة الرسالة/العدد 406/محمد عبده ومحاولته إصلاح الأزهر

مجلة الرسالة/العدد 406/محمد عبده ومحاولته إصلاح الأزهر

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 04 - 1941



للأستاذ عثمان أمين

المدرس بكلية الآداب

للأزهر منذ إنشائه قصة طويلة، وله مهمة معلومة نيط به أداؤها. فلم يكن المقصود منه أن يكون مسجدا للعبادة، ولا أن يكون مدرسة للتعليم فحسب، وإنما أثر الأزهر في العالم الإسلامي وفي تكوين العقلية الإسلامية أثراً عميقاً يفوق أثر المساجد والمدارس والجامعات. من أجل ذلك كان إصلاح ذلك المعهد في نظر الشيخ محمد عبده من الأهمية بمكان عظيم، لأنه بمثابة إصلاح للأمة الإسلامية كلها.

توجه الشيخ محمد عبده إلى إصلاح الأزهر منذ كان مجاوراً فيه يتلقى على أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني. وشرع في العمل لذلك أيام الخديو توفيق. ولكنه لم يستطع في ذلك الحين أن يدخل إلا بعض الإصلاحات الثانوية. ووجد محمد عبده، من البداية، في أكثر شيوخ الأزهر خصوصاً ناصبوه العداء. وأدرك حينئذ أنه لن يستطيع السير في حركة الإصلاح دون أن يظفر بتأييد الخديو والحكومة. ولكن الخديو توفيق لم يكن لديه استعداد لفهم التجديد المنشود، فلم ينظر إلى جهود الشيخ محمد عبده بعين العطف والرعاية. ولما جاء الخديو عباس الثاني - وكان قد تربى في أوربا - استبشر الناس بولايته ورأوا فيها فاتحة عهد جديد. وتقدم الشيخ محمد عبده إلى الخديو عباس وكاشفه بجملة رأيه في الأزهر، ورغبة في إصلاحه وتحويله من الحال التي كان عليها، وكان في ذلك الحين أشبه بتكية من التكايا أو ملجأ من الملاجئ، يأوي إليه العجزة والفقر، وأهل الكسل والبطالة.

ويمكن أن نلخص رسالة الأزهر كما تراءت حينئذ للشيخ محمد عبده في الأمور الآتية: أن يكون مدرسة جامعة بالمعنى الصحيح يتلقى فيها الطلاب العلم الصحيح الذي يعدهم لأن يكونوا رجالاً عاملين، فيكون منهم لمصر وللإسلام قضاة ذوو نزاهة، وأساتذة باحثون، وعلماء متخصصون، ومرشدون مخلصون يعملون على بث الآراء الدينية الصحيحة، والمعاني الأخلاقية السليمة، ومكافحة الخرافات، والقضاء على البدع والأباطيل.

وكلف الخديو الشيخ محمد عبده أن يضع مشروعاً للإصلاح فشكل الشيخ لذلك (مجلس إدارة) من أكابر علماء المذاهب في الأزهر وجعل هو وصديقه الشيخ عبد الكريم سلمان من أعضائه. وكانت مهمة ذلك المجلس الإشراف على التعليم والتربية في الجامعة الأزهرية.

وسار الشيخ في إصلاحاته أول الأمر بسرعة اغتناماً للفرصة، ولم يلق معارضة من أحد مباشرة، وإن كان قد أشير عليه من وقت إلى آخر بتأجيل بعض المشروعات بحجة التدريج والسير بهوادة!

وكان أول أبواب الإصلاح التي وجه الشيخ عنايته إليها هو تحديد مدة الدراسة بالأزهر: فقد جرى العرف منذ زمان طويل أن ينفق المجاورون من أعمارهم الأعوام الطوال في الأزهر، دون أن يجدوا من أولى الأمر أية رقابة على أعمالهم. وحدد القانون بدء السنة الدراسية ونهايتها، كما حددت أيام العطلة والمسامحات. وقد كانت الحال قبل ذلك بلا ضابط: فكان المشايخ والطلاب يمكنهم التغيب متى شاءوا فضلاً عن تغيبهم أيام المسامحات الرسمية.

ووجه الشيخ بعد ذلك عنايته إلى نظام التدريس والامتحان: فاقترح أن تعقد للطلبة امتحانات سنوية. ولم يكن ذلك النظام معروفاً قبل ذلك في الأزهر، بل لم يكن عدد من يمتحنون كل عام يزيد على ستة، وهؤلاء كانوا يتقدمون إلى الامتحان لا بحسب دورهم أو ذكائهم أو علمهم، بل بشفاعة الشفعاء وإلحاح الملحين، والغرض من ذلك طبعاً هو بث روح التسابق فيهم وترغيبهم في التحصيل.

وثالث الإصلاحات التي اقترحها الشيخ محمد عبده: إصلاح لا يقل عن سابقيه أهمية وأثراً، وهو يقضي بإلغاء دراسة بعض الكتب العقيمة - كالشروح والحواشي والتقارير - التي اعتاد المشايخ تلقينها الطلبة من غير فهم، وكان من شأنها أن تشوش عليهم موضوعات العلوم التي يدرسونها؛ واستعيض عن ذلك كله بكتب أنفع وأقرب إلى مدارك الطلاب.

ورابع الإصلاحات يرمي إلى تقسيم العلوم التي تدرس بالأزهر إلى مقاصد ووسائل؛ فأطيلت مدة الدراسة في (علوم المقاصد): كالتوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والأخلاق. أما (علوم الوسائل): كالمنطق والنحو والبلاغة ومصطلح الحديث والحساب والجبر، فهي التي يلزم طلاب شهادة العالمية بأداء امتحان فيها.

والإصلاح الخامس يقرر إدخال دروس ومحاضرات جديدة في علوم: التاريخ والتاريخ الطبيعي والرياضيات والجغرافيا والفلسفة والاجتماع وما إلى ذلك من العلوم التي كان قد أهمل تدريسها بالأزهر إلى ذلك الحين.

ويلاحظ أن تلك الإصلاحات المتواضعة لم يستطع الشيخ محمد عبده أن ينفذها جميعها لمقاومة الشيوخ إياها، إما عن سوء قصد أو سوء فهم، فضلاً عن وقوف الخديو نفسه حجر عثرة في وجه المشروع انتقاماً من الشيخ محمد عبده - كما سنرى - ولكن ما نفذ من الإصلاحات المقترحة لم يخل من أن يحمل ثمراً طيباً: فقد شوهدت في طلبة الأزهر إذ ذاك حماسة جديدة، ودبت فيهم روح فتية، وشاعت عندهم رغبة في التوسع في التحصيل واستيعاب البرنامج التعليمي. وربما كان من الميسور اطراد ذلك التقدم لولا قيام مصاعب جديدة لم تكن في الحسبان.

والواقع أن الشيخ محمد عبده إذا كان قد استطاع أن يضع مشروعاً كاملاً للإصلاح، فذلك لأنه كان يحس بأن من ورائه سلطة الخديو تؤيده. هذا إلى أن شيخ الأزهر الشيخ حسونة النواوي كان يشاطر الشيخ محمد عبده كثيراً من آرائه. ولكن سرعان ما تبدل موقف الشيخ حسونة عندما ظهر له أن الشيخ محمد عبده لم يكن من أهل الحظوة لدى الخديو عباس. ولما عزل الشيخ النواوي، حل محله الشيخ سليم البشري، وكان رجلاً محافظاً مناوئاً لكل فكرة عن التجديد. ومع ذلك، فقد حظي هذا الرجل برعاية الخديو، وصدر قرار بإلغاء الإعانات التي كانت تعطى للطلبة المتفوقين. وكان معنى هذا العدول عن عقد الامتحانات السنوية. ولكن الشيخ سليم البشري اخذ يعود شيئاً فشيئاً إلى آراء الشيخ محمد عبده. وفترت علاقات البشري بالخديو فعزله دون أن تذكر أسباب العزل في المرسوم الصادر بذلك.

ومنذ ذلك الحين اصبح منصب شيخ الأزهر شاغراً. وكان لابد من اتفاق الحكومة المصرية مع ممثل الاحتلال الإنجليزي على تعيين من يشغل ذلك المنصب؛ فعرضت المعية السنية على الحكومة - بواسطة اللورد كرومر - أسماء طائفة من مرشحيها ومن بينهم الشيخ حسونة النواوي - وكان قد عاد إلى الحظوة لدى الخديو - والشيخ محمد بخيت الذي كان معروفاً بعداوته الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد راشد الإمام الخاص للخديو، والشيخ أحمد الرفاعي الذي كان معروفاً بصلته بالبلاط الخديوي. ولم تقبل الحكومة أحداً ممن رشحتهم المعية السنية، ورشحت المعية أخيرا الشيخ علي الببلاوي، فوافقت الحكومة عليه، وصدر قرار بتعيينه شيخاً للأزهر.

وكان الوفاق تاماً بين الشيخ محمد عبده والشيخ الببلاوي، فعاد الهدوء إلى الأزهر، واقبل الطلاب على دروسهم وامتحاناتهم، وانصرف مجلس الإدارة إلى الاشتغال بإنجاز الأعمال العديدة التي كانت أهملت في عهد الشيخ سليم البشري: فقرر المجلس عقد امتحان لشهادة العالمية التي تمنح الحاصلين عليها حق التدريس في الأزهر أو القضاء أو الإفتاء. . .

وراجت في تلك الفترة إشاعة مؤداها أن حديثاً دار بين الخديو عباس وبين (الشيخ الببلاوي) على موضوع الإصلاحات الأزهرية التي أنجزها (الشيخ محمد عبده). وذكروا أن الخديو قال ضمن حديثه للشيخ الببلاوي: (سمعت أنك تعمل في الأزهر كل ما يريد المفتي (الشيخ محمد عبده)، مع أنك حر في أن تعمل برأيك. . .). وذكروا أيضاً أن الشيخ الببلاوي أجاب الخديو: (إني أوافق المفتي كلما رأيت أن الحق معه، ولو اخطأ لقلت له، ولكن لم تعرض بعد فرصة لذلك، فالحمد لله على تلك الحال)

وتالف في الأزهر خلال تلك الفترة حزب لمعارضة الإصلاح؛ وكان على رأس ذلك الحزب (الشيخ محمد الرفاعي) الذي ذكر اسمه بين مرشحي (المعية السنية) لمنصب مشيخة الأزهر. وكان من أعضاء الحزب (الشيخ المنصوري) الذي كان قد عينه (الشيخ البشري) شيخاً لرواق الصعايدة. وشرع الحزب يقدم عرائض ينتقد فيها أعمال مجلس إدارة الأزهر. وفي ذلك الحين كان بعض المسلمين قد طلبوا إلى الشيخ محمد عبده - وكان مفتياً للديار المصرية - أن يدلي بفتوى في جواز أكل المسلم من ذبائح أهل الكتاب، وفي جواز لبس (البرنيطة) والتزيي بزي الأوربيين. وأفتى الشيخ محمد عبده مصرحاً بأن القرآن لم يحرم طعام غير المسلمين ولا لباسهم، لاسيما إذا كان المسلم مضطراً إلى أن يعيش مع الأوربيين. فضج حزب المعارضة وأرجف في تلك الفتوى، واخذ يطعن عليها وعلى شخص المفتي. وكان له مأجورون أخذوا يذيعون أن المفتي إنما يعمل على التقريب بين المسلمين وغير المسلمين. وأسس حزب المعارضة جريدة يومية اسمها (الظاهر)، كان غرضها محاربة الفتوى. وقيل حينئذ أن مدير تلك الجريدة كان مؤيدا من الخديو. . .

وراجت الأكاذيب والإشاعات، وتفاقم الأمر حتى اخذ الناس يهمسون باحتمال عزل المفتي. وقالت جريدة (المقطم) حينئذ أن اللورد (كرومر) هو الذي حال دون ذلك العزل، إذ تدخل في الأمر وصرح بأن الشيخ محمد عبده أصلح من في مصر للإفتاء، وأنه لذلك ينبغي أن يبقى في منصبه.

ولاحظ (الشيخ الببلاوي) أن حزب المعارضة اخذ يشتد ويعظم نفوذه بتأييد الخديو إياه، حتى أصبح وكأنه الحزب الرسمي، ووجد هو نفسه معطلاً عن العمل. ثم حدثت حادثة (رواق المغاربة) الذين احتموا بالقنصلية الفرنسية، واحتلوا بعض غرف خالية في الرواق العباسي، وانتهى الأمر بإخراجهم منها؛ ولكن شيخهم كان أكثر الوقت يتردد على (سراي القبة). وكبرت هذه الأمور على (الشيخ الببلاوي) ويئس من صلاح الحال فاستقال.

ولما وجد الشيخ محمد عبده نفسه وحيداً محروماً من معاونة شيخ مجرب كالببلاوي، آثر أن يستقيل من مجلس إدارة الأزهر. وتبعه في تلك الاستقالة عضوان آخران من أعضاء المجلس هما الشيخ عبد الكريم سليمان والشيخ أحمد الحنبلي

تلك خلاصة لما حدث بالأزهر في السنوات الأولى لهذا القرن، ومنها يتبين مقدار ما لقي الشيخ محمد عبده من الأذى في سبيل إصلاح مناهج التعليم والتربية في الأزهر، ومبلغ ما بذل من جهود لتقويم ما فسد من نظم الإدارة فيه.

ولكن رغم ما عاناه المصلح من عنت الشيوخ الجامدين، وما حيك حول مساعيه من دسائس الخديو وحزبه، فإن شيئاً لابد أن يبقى ولا تستطيع قوة أن تقضي عليه: ذلك البذر الصالح الذي ألقاه الأستاذ الإمام في ذلك المعهد يوم ألقى فيه دروسه فبث فيها من حر الآراء وسليم الأفكار ما نرجو أن يحسن الخلف القيام عليه.

عثمان أمين