مجلة الرسالة/العدد 407/القصص

مجلة الرسالة/العدد 407/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 04 - 1941



عطر المنصور

للأستاذ رفعت فتح الله

في إحدى قباب بغداد قرأ المنصور ورقة تشكو، ثم قبضها في يده تتلوى، وقد ظل يردد كلماتها، يكاد يتمزع من الغضب، كأنه سحاب راعد: في عينيه برقه، وعلى جبينه قطره، وفوق سمرته غيمه، ولم يكد يخفف عن الورقة قبضته حتى انتفضت، كأنها منخنقة فك خناقها، فبدت آثاره على صفحاتها اثناء، وعلى كتابتها شحوباً!

ألقى المنصور الورقة من يده، بعد أن ألقى ما فيها في نفسه، ولقد ارتعد إذ رأى رعيته تشكو بعض عماله، وكل راع مسؤول عن رعيته، فأين يفر الظالم من شكاية المظلوم؟ وكيف يواجه ظلم العامل حزم الخليفة؟

واخذ يفصل أنواع المظالم، ثم ينثرها في رأسه ليرسل إليها تفكيره، فتواردتها آراؤه كأنها حمام سراع إلى حب منثور، وتزاحمت، وتضاربت، حتى أحس ضرباتها في رأسه، ثم تلاقت الآراء على رأي سن عليه أمره، وعقد عليه قلبه: أن يعزل العامل لظلمه، ويأخذ ماله على عينه، ويترك المال في بيت مفرد، يسمى (بيت مال المظالم) ويكتب عليه اسم صاحبه

ولما استراح إلى رأيه نادى صاحبه ليأمره آمره، ثم قام إلى مجلس أهله ليقضي حق الاهل، فلقى في طريقه صبيا يلعب، فمس فرع أذنه بسبابته؛ فنظر إليه الصبي نظرة الصغر إلى الكبر، فأخذه على ذراعه، وغمز نغانغه، وكلمه مداعباً، ثم قبله على شغف، وأرسله على مرح قائلاً: إذا كان الحزم مع الكبير مجازاة، فهو مع الصغير مناغاة:

ونظر غير بعيد، فإذا رجل يمشي مشية الأسيان، يرسُّ الحديث في نفسه فتتحرك شفتاه بما لا تسمع أذناه، ويفتح عينيه ولكنه لا ينظر بهما، كأنهما انعكستا على رأسه، فتجسمت فيهما صور ما وراءها من تفكير، ولم تتصور أشباح ما أمامها من منظور، فهجس في نفس المنصور أنه يرى مظلوما أصابه بعض عماله، وارتجع إليه فكرة الأول، فلم يلبث أن أشار إلى الرجل الذاهل إشارة ضاعت في ذهوله، فأومأ إلى عصا ألقيت في طريق الرجل فاعترضته حتى كاد يتعثر، ولكنه اعتدل ولم يلتفت! صاح حاجب المنصور: أيها الرجل!

فالتفت الرجل التفاته كأنها أفاقة المغشي عليه، ثم برق عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين

قال المنصور: وعليك السلام يا أسير الشجون! هل تتذكر اسمك؟!

قال الرجل: سعيد. . . سعيد. . . يا أمير المؤمنين!

قال المنصور: أسعيد أنت؟

قال الرجل: ذاك اسمي لا وصفي، والأسماء من اختيار الآباء، والأوصاف من اختيار الأقدار!

قال المنصور: وكيف كنت مع الأقدار؟

فتأوه سعيد، وقال:

- جعلت حياتي تتلون تلون الزمن: من سواد الليل إلى بياض الصبح، ومن حمرة الهجير إلى صفرة الأصيل. . . فلقد كان مشرق شبابي مغرب والدي، وكان ميراثي منه وفراً من الوصايا ونزراً من الدراهم، فما مددت يدي إليها حتى بعثت فيهما نشطة العمل، كأنها رقية التكسب، فتاجرت وأخلصت للتجارة حتى برت بي ودرت، لله درها! فقد صرت أعد أوقاتي بالدنانير حتى خيل إلي أن أشعة الشمس تجمد في يدي ذهباً!

فحدقه المنصور بعينين تطل منهما نفسه المحبة للمال، وقد كان المنصور يجمع في صفاته قوة الحزم ورجاحة الرأي وحب المال وطهارة اليد. فسطع في عينيه من معنى الذهب بربقه، ثم غلب عليهما من معنى الحزم حديده؛ ثم قال: أليس في هذا سعدك يا سعيد؟ فكيف احتضرك الهم؟

قال سعيد:

- لقد كنت أمس قرير العين بهيج القلب، إذ رجعت من سفرة راشدة - في تجارة رابحة - فدفعت إلى امرأتي ما أحضرت من كرائم الأموال، وطفقت اشغل يدي بتصفيفها ولساني بتحسينها، حتى أخذتني نشوة الظفر بما كسبت فأهديت، وأسرعت المرأة القبول. . . آه! يا لها من عجول!! تركتها ضائق النفس، وخرجت إلى الناس أؤدي حقوقاً لزمتني بالإياب، ثم رجعت إلى منزلي مع الليل، فأسر إلي حلماً منعما، تشيع فيه أضواء الذهب، وتنوس عليه أهداب الديباج، حتى استرد الليل بردته السوداء، وطوى فيها حلمي ألهني، فصحوت أمد يدي. . . قالت المرأة: مالك؟ قلت أين المال؟ قالت: المال أخذ. . . أحسست أن عقلي أخذ معه، وقمت أتفحص عن الجدار فما وجدت نقباً، وطفت أتوسم في الأثاث فما رأيت أثراً، فأي لص هجم على بيت كأنه حصن؟ وكيف تسور أو تدخل؟ تخيل لي أن عقلي قد اختنق، وأن صدري قد اشتعل، فسرت تيهان هائماً كمحترق يفر من نار شبت فيه!!. . . وهكذا رأيت قرة عيني تسيل في دموع كأنها ينبوع!. . . وأحسست بهجة قلبي تطير في خفقان، كأنها غربان!. . .

قال المنصور: لعل المال مأخوذ غير مسروق

فنظر إليه سعيد نظرة سائلة وهو يردد قوله: مأخوذ! مسروق!. . . مأخوذ! مسروق!. . .

فأطرق المنصور عنه قليلاً، ثم قال: منذ كم تزوجت امرأتك؟

قال سعيد: منذ سنة

قال المنصور: شابة أم مسنة؟

قال سعيد: شابة

قال المنصور: ألها ولد؟

قال سعيد: لا!

قال المنصور: أبرْزة إلى الرجال، أم مقصورة في الحجال؟

قال سعيد: برزة

قال المنصور: جميلة؟

قال سعيد: أن وجهها كالدينار: أخذت بريقه واستدارته

فهمس المنصور: وتركت لك رنينه وصفرته

ثم قال: يروقك جمالها إذن!

قال سعيد: أنها كالبدر يا أمير المؤمنين

قال المنصور: ذكية؟

قال سعيد: أن ذكاءها هو السماء التي تطلع بدرها

قال المنصور: تلك امرأة حبيبة قال سعيد: وذاك اسمها يا أمير المؤمنين

قال المنصور: والمال الفقيد حبيب أيضاً! وابتسم، ففز سعيد وابتأس!

قال المنصور: لا تبتئس، فعسى أن يرجع إليك مالك ثم دعا بقارورة طيب كان يهتم به ويختص، وقال: يا سعيد هذا طيب يتفاءل به، فخذ منه شيئاً عسى أن يكون جلاء همك وصقال نفسك، واستبشر بمسيسه كأنه حظ عصر لك في مدهن! وتمتع من شميمه كأنه من أرواح الجنة!

فأخذه سعيد وقبله كأنه تميمة سعادة، واصطانه كأنه مفتاح خزانة؛ ثم سلم على الخليفة، وانقلب إلى أهله وقد انتشر الأمل على أصغريه، كما انتشر الطيب على عطفيه. فلما دخل على آمراته قالت: أني أشم عطراً يتضوع منك. قال: ذاك عطر وهبه لي أمير المؤمنين، وإني واهب لك منه شيئاً عسى أن يكون لبيتنا فألاً ميمونا. فابتسمت شاكرة للزوج الواهب، ثم انصرفت مفكرة في العطر الموهوب

دعا المنصور أربعة رجال من ثقاته وأراهم طيبه، وأشممهم منه، ثم قال لهم: أٌقعدوا على أبواب المدينة، فمن مر بكم وعليه شيء من هذا الطيب فأتوني به. فذهبوا حيث أمرهم الخليفة، وجعلوا يتربصون بمن يمر بهم أريج الطيب، حتى ضم الليل شملته السوداء ومضى، وبعث الصبح في أطماره؛ فرقعت الأرض بالأقدام والظلال، وهم يترقبون ويتشممون، كأنهم من كلاب الصيد في توقع الفريسة، وإذا رجل قد توهج منه الطيب يجتاز أحد الأبواب، فانقض عليه أحدهم انقضاض عتاق الطير؛ فاهتز اهتزاز فراخ الصيد، وغيمت الدهشة في رأسه، فمادت نفسه، وحارت عينه، وسأل فلم يجد جواباً، ونظر فلم ير مناصاً، وسيق تائه المساق حتى قدم إلى الخليفة، فتقدم، ثم سلم تسليم مروع لا يدري من أين روعه؟

قال المنصور: ما الذي أقدمك؟

فنظر الرجل إلى الذي ساقه وقال: الجواب عند هذا يا أمير المؤمنين!

قال المنصور: ما اسمك؟

قال الرجل: حبيب!

قال المنصور: ما احب اسمك! ثم مد رأسه من وراء أنفه وتشمم، ثم قال: وما أطيب طيبك!. . .

قال حبيب: هو نفحة من يمنك يا أمير المؤمنين

فضحك المنصور، واستعجب حبيب من ضحكه

قال المنصور. أنى لك هذا الطيب؟

فارتد حبيب كأنه لديغ، ونظر نظرة قد تخشعت جزعاً

فتبسم المنصور، وقال: لا ترع، فما أريد بك سوءاً، وأما كان مثل هذا الطيب يفوح من سرقة بالأمس، وقد باح به جسمك اليوم، وإني أخشى أن يلصق بك ما تتهم به!

قال حبيب: يا أمير المؤمنين. . .

قال المنصور:. . . وتخفي في نفسك ما الله مبديه. . .

قال حبيب: أنا. . .

قال المنصور: وأنا أرى على وجهك مسحة براءة، وعلى يديك مسة طهارة، ولكني أمرت أن احكم بما ظهر، ولله ما بطن.

قال حبيب: ليس عندي من المال قديم ولا جديد إلا هدية أهداها إلي من لا اشك فيه

قال المنصور: ومن أهداها إليك؟

فاعتقل لسان حبيب في فمه!

قال المنصور: لقد رأيتك تدرأ عن نفسك حتى كدت تبرأ لولا غموضة تريب تلك الهدية، فهلا استكملت البراءة، ونزعت عن يديك تهمة ليست لبوساً لك! وإني موسع عليك ومخيرك: فإما أن تذكر من أهدى إليك فتجلو صفحتك ويقلب القضاء صفحته؛ وإما أن تنزل عن الهدية لنعرضها على صاحب المال فتسلم من آخر شيء يعلق به الاتهام، ويكون ذاك أغنى عن التصريح وأنفى للشك وابلغ في العذر

كاد حبيب يتكلم فيسلم، ولكن قلبه خفق فسكت، ودارت عينه، ودار من ورائها رأسه، لا يدري: أيمسك المال على بغض يبعثه اتهام الأمير! أم يتركه على حب يوحيه إهداء الحبيب؟ فإما أن يذكر مهديه المال خلاصاً فنفسه دون ذلك فداء، والفداء من سنة الحب، وما كان لفم طهره الحب أن تدنسه الوقيعة!. . . ولقد تعجب حبيب من صروف الأقدار في تصريف الأموال، فإنه ما كان ليعبأ بمال حتى يَفتن في جمعه ويُفتن بكنزه، وما تكاتفت سحابة من كسبه حتى تقاطرت في صرفه! كأن المال زائر عابر: ما سلم حتى ودع! ولكن هذه الهدية عريت عنده من معنى المال ولبست معنى القلب، فما يحسب رنين ذهبها إلا صدى الخفوق! ووثب خياله إلى رجل هنالك قد جمد قلبه جمود الذهب حتى عد خفوقه رنيناً!. . . رجل هنالك!. . . وأزعجه الخيال بوثيته، فصحا من غفوته، فإذا الخليفة يجسه بعينه وبجانبه صاحب الشرطة!

قال المنصور لصاحب الشرطة: خذ هذا الرجل، فخيره في ما خيرته، وأمهله، فعسى أن ينجده وقته، فإن أبى فصب عليه من العذاب ألف سوط!

(البقية في العدد القادم)

رفعت فتح الله