مجلة الرسالة/العدد 408/نظرات في الشعر
مجلة الرسالة/العدد 408/نظرات في الشعر
للأستاذ محمود البشبيشي
من الشعر ما يلعب بالنفوس لعباً، بل يقلب جوهره قلباً، فيبعث في الرجل الصخري المزاج روحاً ارق من نسيم الفجر، والطف من شفاء الورد، وأنقى من دموع الفرح؛ ومن الشعر ما ينفذ إلى القلوب بغير إذن، لأن كل لفظ فيه لفظ من القلب، وكل مقطع من مقاطعه قطعة من الفؤاد، تتفتح له القلوب لأنه منها، وتتلقاه خافقة لأن كل نغم فيه من خفقاتها. في الشعر قيود لا انفكاك لها، ولكنها قيود محبوبة، يحس بضرورتها من كان من ذوي النفوس الحية، والقلوب الندية، ويحس بضرورتها من يضيقون بحرية الحياة الجائرة وقد فسدت، وحرية الشهوات والنزعات الداجية وقد تمادت، فيميلون إلى قيد من قيود الشعر يسعدون به، ويشعرون فيه بمعنى حرية الطهر والنقاء. إنهم يشعرون بالحرية في قيده، لأن الشعر حين يقيدهم إنما يقيد صوراً حية من الحياة الجائرة، ويمنعها من الوصول إليهم، أو يطهرهم منها لحظة، ويتيح لهم أن يتصلوا بعالم منغم حلو نقي هو عالم الشعر
بحث الكتاب في الشعر، وسيبحثون لأنه موضوع الشعور الحي، موضوع الروح: موضوع الحياة، سار مع الزمن، يضعف في عهد فتذبل أناشيده على الشفاء، ويشتد في عهد فتغنى به القلوب، وما ضعف ولا أشتد لعجزه عن مسايرة الزمن وأطواره، ولكنه ضعف حين ضعف المشاعر النبيلة في النفوس، وغشيت القلوب الأطماع، وأشتد حين تلألأت في النفوس أنوار الشعور، وأحس الناس أن في صدورهم قلوبا تخفق، فمالوا إلى ترجيع الكلام، حتى يجانسوا بين أنغام القلوب وبينه. . . ولعل هذه الصلة هي أصل الشعر! ومن هنا كان الشعر محبباً إلى النفوس لأنه منظم لمشاعرها، ولأن الطبيعة وهي مصدره منظمة منقمة. ولا عجب، فكل ما في الشعر من وزن وقافية وموسيقى أساسه النظام. من روعة الشعر أنه خلق نفسه خلقاً في حياة الإنسان، لينظم ويرتب وينسق كل ما يتصل فيها بالشعور. . .
قاله الشاعر حين اضطربت مشاعره في نفسه وغلبته الآلام والآمال، وتراكمت ففقدت النظام؛ وشعر هو بذلك فضاق واضطرب، وضج وثار، وفكر وتأمل، ولما صدق تأمله أدرك أن في نفسه تعبيرا عجز عن بيانه، وإن حديثه وخطابته لم يجدياه نفعاً ولم يخ ألمه؛ فهو لا يزال مضطرباً، عاجزاً عن بيان ما يشعر به في قرارة نفسه. . . وهو لا يزال يشكو ولا يعقل أن يكون سبب شكواه ضعفاً في رجولته وهو ابن البادية. . . إذن لعل في أسلوب شكواه والعبير عن آماله نقصاً. . . أنه لكذلك فراح يبحث عن لغة جديدة ينفث بها آلامه وأماله فتهدأ نفسه، فكان الشعر لغته الجديدة، وكان شفاء علته، وكان لسان الروح ولسان القلب.
ما أروع الشعر! لقد خلق نفسه خلقاً، بل لقد خلقته حاجة النفس البشرية إلى تنظيم مشاعرها، ومنذ عرف الشعر أصبح ترجمان القلوب، ولغة النفوس، ينتقل بك من عالم القيد إلى عالم الخيال، وتجد أنت في ذلك لذة لا تدري كنهها، ولا تعلم مصدرها، ولكنك برغم ذلك تحبها وتود السبح في سمائها الحالمة، والشعر يغمر نفس الشاعر وجدانا موزوناً نغماً
يولد الشاعر والشعر في روحه سر من اسرارها، لا يظهر إلا إذا انتظمت مشاعره، ولكنه لا يتقيد بسن ولا بزمن، وقد تفاوت مواعيد ظهوره بتفاوت نفوس الشعراء واستعدادها لتنظيم حياتها بطبيعة النظام الشعري الكامن فيها، فمن الشعراء المفطورين من يتمادى به العمر قبل أن يقول الشعر، ومنهم من تشع نفسه إشعاع الشعر، وهي في أيام الصبا الندية. . . ليس معنى هذا أن ملكة الشعر تقبر طيلة هذه الفترة الخامدة في نفس الشاعر، بل أنها لتظهر ولكن في صور أخرى كأن يميل صاحب النفس الشاعرة في طفولته إلى اللعب المنظم وجمع الصور الملونة والى سماع الموسيقى، وفي شبابه إلى الرسم الجميل وابتكار الصور البديعة. ذلك بأن ملكة الشعر موجودة فيه، تنظم اتجاهات نفسه، وتعمل على السمو بها حتى تتهيأ لرسالة الشعر. ومن عظمة الشعر أن يكون للشاعر المكفوف عيناً يغمر قلبه بالنور فيبدد غياهب الظلمة، وينثر الشعر أمامه نجوماً وشموساً تبهر عيون المبصرين. إلا أن الشعر وحي يرتفع بالشاعر إلى مرتبة الروحانية، ففي استطاعة الشاعر أن يعرض لك الصور الحسية الجافة الصامتة عرضاً كله حيوية ناطقة؛ يصور لك الشيء الذي لم تره، فتشعر كأنك رأيته ولمسته وخبرته. وما رأيته ولا لمسته، ولكنه سحر الشعر وفنه وأعجازه، يجعل من المعنويات محسات، ومن الأخيلة حقائق، فما أبدعه وما أروعه! انتهينا إذن إلى أن الشعر لغة روحية، هب نسيمها على النفوس عندما انتظمت المشاعر، وحينما تهيأت لتلقي الرسالة الشعرية؛ وأنه أسلوب خلق نفسه في الإنسان خلقاً، عندما ضاقت النفس بمعان لا تصورها خطابة، ولا يعبر عنها حديث، وقد ارتاحت النفوس إلى الشعر لأن طبيعته الوزن والنغم والنظام والأناقة؛ وأحبته حين نظم مشاعرها، ونظم أحاسيسها فأراحها
وإن الشاعر المفطور يخلق وفي طبعه روح الشعر، أن روح الشعر لا تخمد بخمود روح الشاعر، بل أنها لتظهر في صور فنية أخرى. ولما كان الشعر وليد العاطفة المنظمة لابست أغراضه أغراض النفس أصدق ملابسه، وتساوقت معاني القلوب وأحاسيسها في معانيه وأحاسيسه، وصار أمرا طبيعيا أن يكون الشعر صورة لنفسية الشاعر، وعبيرا لأزاهير حبه، ولهيباً لما يشتغل بين جوانحه من عاطفة، وشعاعاً لما يتألق في وجدانه من آمال. وكان بكل هذا حقيقاً أن يكون مجتلى لسائر العواطف الإنسانية السامية
وإن الباحث البصير ليستطيع أن يحدد زمن الشعر الذي يقرؤه إذا أوتي حظاً من دراسة النفس في مختلف العصور، بل أنه ليستطيع أن يهتدي بالشعر إلى كثير من أخلاق الشعوب، فيعرف ما شاع في كل عصر من الأخلاق، وما اضطرب فيه من العادات والتقاليد، وما كان يعتبر فيه مناط الفخر والمفاضلة، وأنه في كل ذلك لسائر على هدى ما يتأرج به الشعر، وما تشبه أرواح الشعراء؛ هبك قرأت الأبيات آلاتية:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تفلق هاماً من رجال أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
ألا تشعر بعد طول التامل، بل بقليل منه أنها من إنتاج الأدب القديم، أدب التضحية والفداء، عصر الشهامة والإقدام؟ وهبك قرأت قول الشاعر:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
ألا تحكم لأول نظرة بأن هذا كلام متمعن في الحضارة، ممعن في الرفاهية، فياض بالرقة، تلوح على محياه نضرة النعيم، فلا يحلق بنفسك أقل عجب إذا علمت أنه من كلام (جرير). وهبك قرأت قول الشاعر: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... املك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه أن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
ثم قرأت بعده قول الشاعر:
أصبحت لا أستطيع الثوب أحمله ... وقد أكون وضافي الدرع سربالى
ولا تكاد يدي تجري شبا قلمي ... وكان طوع بناني كل عسال!
ألا تشعر بأن الشاعر الأول بدوي النشأة، صحراوي البيئة، تتراءى في كلامه مظاهر العربي الصميم، الذي كل عتاده السلاح والبعير، ومن طبيعته جوب الفلاة والتعرض للذئاب والرياح والأمطار؟ أو لا تشعر أيضاً بأن روح الحضارة تهب من عبارة الشاعر الثاني؟ أفليس أدق فكرا نظاما من الشاعر البدوي؟ أو ليس له من مفاخر الحضري القلم يجريه كيف شاء؟ وإذا أمعنت في التأمل استطعت أن تدرك أن الشاعر الثاني فارس في حلبتي البيان والحرب. إلا تراه يقرن بين القلم والرمح؟ فهل تعجب بعد ذلك إذا علمت أنه رب السيف والقلم (محمود باشا سامي البارودي)؟!
وهكذا يستطيع الفنان البصير أن يلمح صور الزمان والحضارات في مرآة الشعر؛ ويستطيع أن ينتقل من عهد إلى عهد على هدى من الشعر ومن نور البصيرة.
وإنك لتستطيع أن تزن أخلاق الشاعر بشعره، وتدرك ما كان عليه من مختلف الصفات، وتعلم من خلال شعره أكان قوي الروح أم ضعيفة، جياش العاطفة أم فاترها، بعيد مدى الآمال أم رهن محابس القنوط، واسع الرغبة في الغلبة وذيوع الصيت أم قانعا بما فرضه عليه الزمان، وتقيده به المقادير
الشعر أصدق في الإفصاح عن نفسية الشاعر من المخالطة، لأن الشاعر قد يكون في وقت المخالطة متكلفاً مسوقاً إلى ملابسة الأحوال التي تضطرب حوله. أما إذا قرض الشعر، فإن عواطفه تتراءى بين سطوره، وإن حاول الاختفاء واجتهد في التنكر؛ ومن هنا كان الإنتاج الشعري صورة لمختلف الوجدانات؛ وطبيعي أننا نريد من كل ما تقدم شعر العاطفة، لا الشعر البالي المأجور، ولا عجب بعد ذلك أن توفر الناس على الشعر الحي النابض بالشعور الإنساني دراسة واستيعاباً وشرحاً ونقداً، أو معارضة واقتباساً، وكما دل الشعر على أن أبا نواس كان صاحب مجون، وإن البحتري كان صاحب موسيقى، كشف لنا عن سر طموح المتنبي وتحليقه في مساء عالية، وغلوه في الفخر والاعتزاز بقدره، فقد كان الرجل يحمل قلب ملك، ولسان شاعر؛ فلطالما رأيناه يبوح برغم محاربة الدهر له بما يضطرب في صدره من آمال جسام، وقد كان لا يصنع بما دون النجوم، وكان يريد من الزمان ما لا يبلغه الزمان من نفسه، أليس هو الذي يقول:
وما رغبتي في عسجد أستفيده ... ولكنها في مفخر أستجده
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
وهكذا كان الشعر وليد العواطف إذا احتدمت، ومنظمها إذا اضطربت، ومرآة الحياة العامة والخاصة؛ تنطبع عليها خبايا النفوس؛ فما أروع الشعر وما أجمله!!
(المنصورة)
محمود البشبيشي