مجلة الرسالة/العدد 409/صفحة من كتاب

مجلة الرسالة/العدد 409/صفحة من كتاب

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1941



من جوف الليل

للأستاذ شكري فيصل

- 1 -

أرقت في هذه الساعة فما استطعت أن أنام. . . لقد حاولت أن أغمض عيني، وأن أستسلم لهذه الرؤى البارعة، وتلك الأحلام الرائعة، وذاك الجمال الذي أهواه، لعلي أنام على ذكراه وأغني على هدهدته، وأجد اللذة في مداعبة خياله، والأنس بحثاً له، ولكني لم أفد شيئاً من هذه المحاولة. إن النوم ليعصيني كأن بيني وبينه عداء؛ وما كنت لأعادي إنساناً أو أغضب رجلاً، أو أسئ إلى مخلوق، لأن قسوة الحياة علمتني منذ كنت طفلاً منكمشاً في زاوية المدرسة، وحيداً في أطراف الطريق، معتزلاً في ركن البيت، ألا أقسو على أحد، وأن أنشد الخير لهؤلاء الناس جميعاً؛ فليس أحلى من الخير، ولا أحسن منه استثارة العاطفة، وإرضاء للشعور الغاضب المضطرب

- 2 -

لِمَ يجفوني النوم؟ ولِمَ يباعد بيني وبين أحلامي الهانئة وقصوري الناعمة في جنات الخيال؟ ولِمَ يريدني على أن أساهر النجم وأراقب الكواكب وأشهد صفحة السماء بعيني، بينا، تتطلع إلى السماء بألف عين فأخافها وأخشاها، وأرتعد منها، وأفر إلى أعماق السرير، وأستر وجهي بهذا الغطاء الكثيف؛ فلا أنجو من الرعب ولا أخلص من الارتعاد، وتظل هذه الأعين تطل علي، وتلحق بي، وتتعثر في ناظري، وترمقني بشعاعاتها النافذات؟!

أي شيء أصبت من إثم حتى يجردني الله من لباس الليل، فلا أرتع فيه، ولا أغيب في آفاقه السعيدة أنسى هموم اليوم ومتاعب النهار، وأخبار السوء؛ ولم تتوافد علي الذكريات أليمة محزنة، وتطوف في خاطري كئيبة سوداء، وتنشر في نفسي ليلاً آخر بكل سواده القاتم، وجلاله القائم، ونجومه المنطفئات؟!

- 3 -

لم تعد لي قوة أحتمل بها هذه الوحشة. . . لقد كنت ألقي أهوال النهار فأفر منها إلى الليل، ولكن الليل يطردني عنه، وينفيني منه، ويريد أن يحول بيني وبينه. لقد وسع كل شئ؛ كل الخيرين والأبرار، والآثمين والأشرار، والغاصبين والأخيار؛ ولكنه ضاق عني، وقذف بي إلى مغارة هائلة لا أدري أين أستقر فيها. . .

رحمة بالضعفاء يا ليل! إن الذين تزدريهم أعينك الليلة، ويتجافى عنهم مداك الواسع، وسلطانك الممتد. . . ليس لهم ما يستريحون إليه إلا هذه الساعات يقتطعونها من عمر الزمن، ويختلسونها من حياة الدهر، ويسرقونها سرقة الجائع المتهالك للكسرة الجافة واللقمة الشاردة لينعموا بها ساعة في نوم عميق ينسون فيه أنفسهم، وهذه الآفاق التي تحيط بهم، وتلك الذكريات التي تنتاشهم، وحادثات الألم التي تصك مسامعهم فلا يملكون بعدها الحركة والشعور، فهلا رفقت بهم أيها الليل هلا ضممتهم في نعيمك الممتع، ولففتهم بسكونك المتراخي، وتركتهم إلى هذا الهدوء الذي ينشدونه، وهذا الصفاء الذي يرمقونه، وتلك الفترات التي يتطلعون إليها ليجددوا بعد القوة على احتمال الأسى، ولقاء الشرور

- 4 -

إني لأخشى هذا الفضاء الهائل الذي أجدني فيه، ليس من حولي شئ، ولا إلى جانبي إنسان، لقد ذعرت حقا حين مددت يدي هنا وهنالك، وأجلت بصري أمام ووراء، فلم ألق هذه الإنسانية البرة الحنون التي رعت طفولتي بشقائها، وغذت يفاعتي بدموعها، ونشأت صباي من دم قلبها. . . لقد أدركت. . . إنها بعيدة عني، وأن بيني وبينها آماداً ومسافات يرعاها الله، ويكلؤها الرحمن، فمن لي باليد التي تطوق عنقي، من لي يفيض على الجرأة، ويبعث في القوة، ويطرد عني خوف الليل؟

إن فضاءً كبيراً حولي. . . وإن فضاء أكبر في نفسي. . . وليس في وسعي أن أملأه بما أرى في النهار، وأسمع في الطريق، وأحس في العمل، لأني لا أرى شيئاً، ولا أسمع صوتاً، ولا أحس حركة. لقد ابتلع الليل كل شئ، فطواه في ثناياه، وضمه إلى حشاه الواسع. . . إلا أنا. . . إلا أنا سهران لأنه يفيق عني، فأظل مشرداً في كهوف مرعبة من الشكوك والأحزان: شأن هؤلاء المشردين في أطراف الأحياء، وأرصفة الشوارع، وحافات المقاهي في النهار، ولكني أنا مشرد ليل، وليس لهذا الليل ندى آوى إليه، أو صديق أسلو معه، أو شارع أجوس خلاله. . .

ليس فيه إلا الفراغ المرعب، وهذه السهام المسددة التي تبعثها النجوم في نفسي

- 5 -

أخذت أتقلب في أطراف السرير وألوذ بجوانبه، ولكن الحركة لم تكن لتنجو بي من هذا الذي أشقى به، وأطراف السرير وجوانبه قلقة حائرة. لقد نبا بي كل شئ: حتى هذا الغطاء الذي آلفه في الليل وفي طرفي النهار. . . إنه ليضطرب فوق جسمي كأنما أنا أرتعد، وما أدري سر هذه الرعدات الخانقة وما أعرف متى أخلص منها. . . إن القمر الدائر ليتراءى لي، وإني لأحاول أن أفزع إليه. . . ولكن المسكين لا يقوى على شئ. لقد أهزله الطواف حول الأرض مدى عشرين يوماً ونيفاً فلم يبق منه إلا الجسم الناحل والعظم المقوس، ولم يعد له ذلك البريق الذي كان يفيض منه، ولا ذاك لألق الذي ينساب من أطرافه، ولا تلك الأضواء التي كانت تغمر الأرض، وتنير حواشي السماء، وتطرد ظلمات النفوس. لقد أضحى كابي النظرات، خامد الحسن. متهاتف القوى، وأصبح جمرة هامدة بعد أن كان شعلة متقدة. إن طبقة من الرماد الأزرق تحاول أن تطغي عليه. لقد امتدت إليه فعملت فيه كما يعمل السل؛ ونفذت في طرف منه فتقبلها بضحكته الكاملة وبسمته المستديرة وغمرها بألقه الحنون، ولكنها كانت من طباع الناس: فبها لؤم وغدر، وفيها إثم وشر فلم تزعه، وإنما أخذت تنفث سمومها فيه، لقد بترت أوصاله، وإنها لتسرى الآن إلى أحشائه تلتهمها. لم يبق بينها وبين قلبه شيء. إنها لتكاد تلتهم هذا القلب الكبير الذي وسع الأرض وطاف حولها، لا تكبر شيخوخته، ولا تحترم مشيبه ولا تذكر إحسانه إليها. . . هاهي الماكرة تسرق قلبه وتأنى عليه. . . لقد أضحى القمر المسكين ذؤابة بيضاء منحنية لا تملك أن تتماسك، ولا تستطيع أن تشتد، وستلحق هذه الانحناءة النادية بالقلب الكبير: لتجدد معه في العالم الآخر عهود الصفاء والضياء والنور

- 6 -

لقد نهضت أمشي. . . ولكني لا أملك أين أضع قدمي مخافة أن أنزلق به. . . إني لأحبو كالطفل، أتلمس الطريق بكل أطرافي وحواسي. لقد عدت طفلاً لا يعرف كيف يسير، فهو محتاج إلى من يمسك بيده ويأخذ بساعده ويمضي به، فهلا أخذت بساعدي - أيها ليل - ومضيت بي كما تمضي بكل هؤلاء الناس إلى أحبتهم يناشدونهم الوصل، ويعتبون عليهم القطيعة، ويلومون منهم هذا الإهمال، وإلى أهلهم البعيدين منهم المتغربين عنهم: يبثونهم الحنين، ويهدونهم التحيات، ويطبعون على جبينهم قبلة الحب الذي يملأ كل جارحة ويغطي على كل شئ، وإلى معاهد الصبا يطوفون فيها ويسمعون في جنباتها ويرددون في آفاقها نشيد المرح والسعادة، وإلى أرض الوطن يسألونها ماذا حل بها وأي شيء أصابها، وماذا فيها من مكر الدهاة ومكارة الدنيا وعبث الزمان؟؟ وهل من بلاء - لا كان - يلقاه أبناؤها الغر: الذين يحملون فوق كل ما يحمل أبناء العالم من واجبات المدرسة والبيت، وحقوق المدن والريف، وأهداف الوطن والمستقبل، وغايات العرب والإسلام؟؟

- 7 -

لم يعد في وسعي شيء - أيها الليل - لقد سددت النافذة وأقفلت الباب ودفنت وجهي في الوسادة، ودسست كل أطرافي في أعماق السرير كمن يتحصن. . . ولكنك لم تشأ أن ترفق بي: إن الباب ليطرق طرقاً عنيفاً، وإن النافذة لتهتز هزة شديدة، وإن كل ما حولي ليتحرك. . . ولكني سأجمع كل قوتي، وستتركني أنت هنا في هذا الأسر الموحش. . . غير أن النهار سيضيء وسيحسن إلي مرة، لأنه يعرف أنه أساء إلى مرات، وسأنهض على قدمي وأفتح ناظري وأرى النور. . .

- 8 -

إنّ غبش الفجر ليلمع في جبين الليل، وإن همسات خافتة من أضوائه لتتراءى لي. . . هذا السواد يهزل ويهزل، إنه ليمضي في طرف الأفق مطرقاً مستحيياً، ولكني سأغفر له هذه الإساءة لأني أحب هدؤه وأعشق صفاءه وأعيش في أحلامه. . .

(القاهرة)

شكري فيصل