مجلة الرسالة/العدد 409/صورة. . . وصورة. . .

مجلة الرسالة/العدد 409/صورة. . . وصورة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1941



للأستاذ محمد محمد المدني

هذه كلمة من نوع ما كنت أكتب عن الأزهر من قبل، جاشت

النفس بها ثم احتبستها، ولكن كلمة الأستاذ الزيات:

(هل أنبعث الأزهر) قد أثارت كامن الشوق القديم:

وذو الشوق القديم وإن تعزى ... مشوق حين يلقي العاشقينا!

الصورتان متقابلتان كأتم ما يكون من التقابل، متنافرتان كأعنف ما يتصور من التنافر، وهما مع ذلك مجتمعتان في مكان واحد، وبينهما صلة جوار قريبة ورابطة قوية يبدو أنه لا سبيل إلى التخلص منها قبل زمن بعيد!

ليس الموضوع خيالاً يا عشاق الخيال، وإنما هو الواقع الذي لم تفسده التصاوير، والحقيقة المبرأة من المبالغة والتهويل!

الصورتان في الأزهر، والأزهر يحتفظ بهما معاً، ويصانعهما معاً، ويود لو يبقى الناس غافلين عنهما، منصرفين عن النظر إليهما

الصورة الأولى

صورة باسمة مشرقة متميزة الملامح والقسمات، يشع منها نور الإيمان، وتبدو على محياها سمات العقل والتفكير: لمن هذه الصورة؟؟ إنها صورة أزهري صحيح الفكر، رشيد العقل، واسع الأفق، لا يضيق صدراً بما يأخذ به الناس من أسباب حياتهم، وألوان ثقافاتهم، وطريقة تفكيرهم مادام ذلك في حدود العقل الصحيح والعلم الصحيح!

يشعر بأن الأزهر في عهده الحديث مطالب بأن يفهم ما حوله فهماً صحيحاً، لأن هذا الفهم ضروري له، وضروري للدين الذي يحمل لواءه، وضروري للأمة التي تجعله منها في مكان القيادة!

فهو ضروري له، لأنه إذا لم يفهم ما حوله فهماً صحيحاً، ظل يخبط في ظلمات، ويضرب في مجاهل، فتكون النتيجة - ويالهول! - أن يفقد اعتباره أمام الأمة، وأن يكره بعد حين قريب أو بعيد، على التخلي عن مركزه التاريخي العظيم فيها! وهو ضروري للدين، لأن الدين عدو الجهالة والجمود، ولو كان الإسلام يرضى بالجهل أو يسكت عنه، أو يحب الجمود أو يصبر عليه، لما عاش هذا العمر المبارك الممتد إلى آخر الزمان إن شاء الله، بل لما وصل إلينا اليوم إلا طعيناً جريحاً، أو هرماً عملت الليالي والأيام فيه، ولكنه وصل إلينا شاباً تجري في شرايينه دماء الحياة نقية متدفقة، وصل إلينا قوياً غلاباً مرَّ بحضارات وحضارات فلم يضق بشيء منها صدراً ولم يقف أمام واحدة منها حائراً متردداً، ولا مأخوذاً مشدوهاً؛ وصل إلينا سليما منتصراً، قد تكسرت من حوله النصال، وتحطمت السهام؛ ذلك بأنه دين الفطرة والعقل والعلم الإصلاح!

وهذا الفهم الصحيح ضروري للأمة نفسها، لأن الأمة تنشد لأبنائها ثقافة قومية إسلامية خالصة، ولا ترضى بأن تفنى في غيرها، أو تؤخذ بثقافة غربية عنها عاجزة عن أن تمدها بوسائل الحياة التي تصلح لها، قاصرة عن أن تثير في نفسها شعور العزة والكرامة والتطلع إلى تاريخها ومفاخرها. تنشد الأمة لأبنائها هذه الثقافة وتتجه إلى الأزهر طالبة منه أن يمدها بها، لأن الأزهر قد زامل تاريخها الذي به تعتز، ولأنه هو الذي حفظ لها هذه الكنوز في الدين والفقه واللغة والأدب، ولأن الأزهر هو مدرسة الشعب العليا التي تجمع ابن الفلاح وابن الصانع وابن التاجر من سواد الأمة الذين يفهمون حاجاتها، ويدركون ما يصلح به شئونها!

فإذا ما تخلف الأزهر عن تلبية هذه الرغبة، ولم يقابل ثقة الأمة به، وتعويلها عليه، بالنشاط والعمل والتقدم نحو الكمال، ولم ينتفع بهذا المركز الفريد الذي ميزه به تاريخه وعلومه وطبيعة رسالته - أذاق الأمة لباس الحرمان والفجيعة، ودفعها إلى أعداء الإسلام كرهاً من حيث لا يحتسب

تقول الأمة الإسلامية للأزهر: إن من أعز آمالي أن أحمل عليك عبء تزويدي بما أحتاج إليه من قانون وتشريع، وفقه وقضاء، وأن أعمل برأيك الناضج في جميع نواحي الحياة: في الاجتماع، في الاقتصاد، في السياسة، في العلم، في الأدب، ولكن ينبغي أن يكون منك تقدم وخطوات عملية في جميع هذه النواحي، تشعرني بأنك عرفتها ودرستها عن خبرة وفهم وتحقيق ومقارنة، ولا أكتفي منك بهذه الدراسات اللفظية الأثرية، ولا بهذه الأفكار التقليدية التي لو كان أصحابها الآن بيننا لتخلو عن كثير منها لقد كان الفقيه المجتهد يغير رأيه في المسألة الواحدة مراراً، لاطلاعه على ما لم يكن قد اطلع عليه، أو لانكشاف حالة لم تكن قد انكشفت له، أو لمناقشة عالم أقنعته بما لم يكن مقتنعاً به؛ وقد مر على هؤلاء الرجال المفكرين قرون وقرون، وحدثت أحداث، وجدّت نظم، وتغيرت دول، وانكشف للناس من أسرار الله في الحياة ما لم يكن قد أنكشف، وظهرت مشكلات ومسائل وقضايا من طراز جديد، فكيف يلتوي عنق الأمة إلى الماضي من غير نظر إلى الحاضر، وكيف نقف والفلك المحرك دائر؟ في البلد شركات مالية تقوم على أساس من الاقتصاد خاص، وفي البلد مصارف أصبحت جزءاً مقوماً من نظام المال في الدنيا، وفي البلد ألوان من النظم والمعاملات لم تكن معروفة فيما مضى، فهل درستم نظام هذه الشركات والمصارف؟ وهل تفهمتم أصول هذه المعاملات والنظم؟ وهل تبينتم من ذلك كله ما يتفق مع التشريع الصحيح ومالا يتفق؟

في البلد مشكلات اجتماعية، وعلل تحتاج إلى الإصلاح، فهل فكرتم في أن تجدوا حلاً لهذه المشكلات ودواء لهذه العلل، ثم عرضتم ذلك عرضاً منظماً جاداً حازماً على ولاة الأمور، وأقنعتموهم بالصلاح فيما تعرضون؟

إن أحداً من الناس لا يستطيع أن يقول: إن التشريع الإسلامي ليس كفيلاً بإسعاد المجتمع، وإنهاض الأمة؛ ولو قال ذلك أحد من الناس لكان ممعناً في الخطأ، جاهلاً بالحقائق، أو عدواً للإسلام جاحداً بفضله

ولكن قبل أن تنادوا بذلك، تحللوا أنتم أولاً من هذه القيود التي أثقلتكم. تحللوا من هذه الدراسات اللفظية الأثرية التي شغلتكم. برئوا أنفسكم وكرموا وجه العلم من أن تخلعوا على كل رأي قديم، مهما كان أمره، هذه القدسية التي لا يعرفها الإسلام إلا لله ورسوله!

إن هؤلاء الذين سبقوكم قد قاموا بما يجب عليهم، وأدوا إلى الله أماناتهم، ولبوا حاجات عصورهم وكانوا يصدرون فيما يرون أو يقولون عن نظر وتأمل واقتناع، فمن البر بهم أن تسيروا على سنتهم، وأن تهتدوا بهديهم: فتلبوا حاجات عصركم - في حدود الشريعة - كما لبوا حاجات عصرهم، وتصدروا عن فهم ووزن صحيح لحاجات أمتكم، كما أصدروا عن مثل ذلك

ذلك هو النداء الروحي الذي يشعر الأزهري الناضج بأن الأمة تنادي به الأزهر؛ وذلك هو الصوت المدوي الذي ينادي به الدين أبناء الدين؛ وذلك هو الروح الكريم الذي يوحي به الإخلاص للأزهر ورسالة الأزهر؟

هذه إحدى الصورتين المتقابلتين في الأزهر!

الصورة الثانية

أما الصورة الثانية فيا الله! كيف أصورها؟ إنها صورة مظلمة قاتمة تنبو عنها العين، وينقبض لمرآها الصدر: شيخ يعيش في عصر النور والعلم ويأبى إلا أن يكون بروحه وعقله في عصر الجهالة والتعصب والغموض والإبهام

تقول له: قال الله، فيقول لك: قال فلان في شرح كذا أو حاشية كذا. وتقول له: تأمل هداية الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، واعتبر بتطبيقه لآيات الله، وفهمه وفقهه في أحكام التشريع. فيقول لك: هذه مهمة المجتهدين وقد انقضى عهدهم، وأصبح الزمان لا يجود بمثلهم. أما أنا فمقلد وسأبقى مقلداً، لأن فلاناً يقول في منظومته:

(وواجب تقليد حبر منهمُ. . .)

وهكذا يجعل التقليد واجباً له مرتبة العقيدة!

وتقول له: أنظر ماذا كان يفعل الأصحاب الأولون، وكيف كانوا يفهمون العقائد والأحكام كما نزلت في كتاب الله، لم تشبها الشوائب، ولم تفسدها المذاهب الباطلة، ولم تؤثر فيها النحل الغريبة؛ فيخالطه الشك في أمرك، ويجري لسانه بألفاظ يرددها ولا يفهم لها معنى: أهل السنة، المعتزلة، الباطنية، الإجماع، الإلحاد، الزندقة، إنكار الحقائق الشرعية. . . إلى غير ذلك. ولو سألته ماذا يقصد بهذه الألفاظ؟ ومتى حدثت في تاريخ الإسلام؟ ومتى جعلت معايير للكفر والإيمان لما وجدت جواباً!

وآفة الآفات في ذلك كله افتراض الثقة المطلقة في نظريات بعينها وأشخاص بخصوصهم، مع الشك المطلق أو الرفض المطلق لنظريات أخرى وأشخاص آخرين؛ ومثل هذه الطريقة لا يعرفها الإسلام ولا يرضاها لأهله، ويأباها القرآن الكريم الذي عظم شأن البرهان، ونعى على الذين يجمدون بدون تفكير على تقليد الآباء

هاتان هما الصورتان المتقابلتان في الأزهر. وقد أبدع الأستاذ الكبير صاحب الرسالة في تصوريهما إذ يقول في العدد الماضي من الرسالة: 1 - (هؤلاء هم شباب الأزهر الجديد أستاذة وطلاباً، قد جلت نفوسهم ثقافة العصر، وصقلتها مدنية الحاضر، فأشرقت عليها أشعة النبوة ساطعة بعد ما حجبها الغمام والفناء حقباً بعد حقب. فهم وحدهم الذين يدركون مسافة البعد بين روح الأزهر وحياة الناس، وهم وحدهم الذين يملكون تزييف الأباطيل المقدسة التي اتسمت بسمة الحق، وتسمًّت باسم الدين)

2 - (ولكنهم حول هذا الهيكل البالي أشبه بالأغصان الخلفة التي تنبت نضيرة على أصل الدوحة العتيقة، ثم لا يتسنى لها الغلظ والسموق لأن الجذور الشيخة لا تمدها بالغذاء كله، والفروع الميتة لا تمكنها من الهواء كله. فإذا لم يرسل الله رسول الإصلاح ويؤته ما آتى أولى العزم من الرسل، فيقطع من أعالي هذه الدوحة ما أعوج، ويجتث من أسافلها ما ذبل، ويكشف عن جذعها الواهن ما التف عليه من طفيلي النبت، بغى الجفاف على هذه الأفنان النواشيء فتذوى في زهرة العمر وبكرة الربيع)

فمتى يرسل الله هذا الرسول، يا فضيلة الأستاذ الأكبر؟

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة