مجلة الرسالة/العدد 41/مهجور اللغة
مجلة الرسالة/العدد 41/مهجور اللغة
روي إن ابن زيدون قام على جنازة بعض حرمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم فما سمع يجيب أحدا بما أجاب به غيره، قال الصلاح الصفدي: واقل ما كان في تلك الجنازة ألف رئيس ممن يتعين عليه ان يشكر له، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر.
وورد إن ابن نباتة الخطيب المصري أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها (أيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه ترجعون) وكان الحريري صاحب المقامات كلما جمع بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي وأراد أن يفرق بينهما بقوله (فلما اصبح الصباح) أتى بعبارة تغايرها لفظا في كل مقامة.
وليس في هذا كله ما يدعو إلى الغرابة وان دل على البراعة، فان اللغة العربية تمتاز في سائر اللغات بكثرة الترادف في الألفاظ والتعدد في الصيغ، يذكرون إن للخمر فيها مائتي اسم وللجمل خمسمائة وللسيف الفا، وهذا مما يساعد الكتاب على التوسع في العبارة، ويعيبهم على التفنن في أساليب الكلام، ولكن العجز قعد بكتابنا عن أن يحفظوا على اللغة هذه الميزة وان ينتفعوا بها في كتاباتهم، فهم يصيغون عباراتهم على نمط واحد، ويجرون في أساليبهم على طريقة متفقة، وتجدهم يستعملون ألفاظا محدودة، وأبنية متكررة ويميلون إلى الترهل واللين، حتى أصبحت ثروتنا اللغوية يكتنفها الإبهام والغموض، وأصبحت أساليبنا في الكتابة ضعيفةواهية لا تلمح فيها أثراً للفن والجمال.
وكتابنا معذورون في هذا ماداموا لا يشتغلون بمتن اللغة، فقل منهم من يهتم بكتاب اسمه (القاموس) أو (اللسان) أو (أساس البلاغة) وقل منهم من يعرف شيئا اسمه (فصيح ثعلب) (فقه اللغة) أو غير ذلك من كتب اللغة، يكتفي الواحد منهم يأخذ لغته من الصحف والمجلات، وبمعرفة جمل من الألفاظ من نوع (فحسب، ومهما يكن من شيء) ليجعل نفسه في عداد الكتاب ثم لا يستحي من اتهام اللغة العربية بالعقم ونضوب المادة ورميها بالتأخر والقصور!!
أنا لا أرجو من الكتاب أن يترسموا طريق ابن زيدون في كتابته، ولا أن يذهبوا مذهب ابن نباتة في أسلوبه، ولا أن ينهجوا منهج الحريري في سجعه وتكلفه، إنما أدعوهم إلى التمكن من فقه اللغة ومتنها، والارتفاع بالقواميس والمعاجم فان هذا مما يساعدهم على تلوين الخطاب وإحياء كلم اللغة الميتة، فكم في لغتنا من الألفاظ مهجورة، وكم في قواميسنا من مفردات مهملة، مع إنها تصلح للاستعمال والتداول على اسلات الأقلام، فمثلا كلمة (يتمعج) بمعنى يلتوي ويتثنى لا تجد الكتاب يستعملونها مع إنها سهلة النطق والرسم وقد تكون أولى من مرادفاتها في الاستعمال، ومثلها كلمة (يعمس في الأمر) بمعنى يتجاهله ويتغافل عنه إلى غير ذلك من الكلمات التي نحن في حاجة إلى إيحائها والتي في تداولها تغزير لمادة الكتاب.
وإحياء مهجور اللغة معناه ان تستعمل كل كلمة غريبة مجهولة وان تجريها على أي وجه كان، وتدرحها في أي عبارة كانت، وإنما هذا مقام يحتاج إلى البراعة والدقة، وورد عن ابن شهيد الأندلسي انه قال (جلس إلي يوما يوسف الإسرائيلي، وكان افهم تلميذ مر بي وأنا أوصي رجلا عزيزا علي من أهل قرطبة وأقول له: إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاور النسيب النسيب، ومازح القريب القريب، طابت الألفة وحسنت الصحبة، وإذا ركبت صور الكلام من تلك، حسنت المناظر وطابت المخابر، أفهمت؟ قال أي والله!! قلت له وللعربية إذا طلبت، وللفصاحة إذا التمست، قوانين من الكلام، من طلب بها أدرك، ومن نكب عنها قصر! أفهمت؟ قال نعم، قلت: وكما تختار مليح اللفظ ورشيق الكلام فكذلك يجب ان تختار مليح النحو وفصيح الغريب وتهرب من قبيحه قال: اجل، قلت: أتفهم شيئا من عيون كلام القائل؟
لعمرك أني يوم بانوا فلم أمت ... خفاتا على آثارهم لصبور
غداة التقينا إذ رميت بنظرة ... ونحن على متن الطريق نسير
ففاضت دموع العين حتى كأنها ... لناظرها غصن يراح مطير
فقال: أي والله! وقعت (خفاتا) موقعا لذيذا ووضعت (رميت) و (متن الطريق) موضعا مليحا، وسرى (غصن يراح مطير) مسرى لطيفا، فقلت له: أرجو انك تنسمت شيئاً من نسيم الفهم، فاغد عليّ بشيء تصنعه الخ.
وفي هذه الحكاية يشرح لنا ابن شهيد كيف يكون استعمال الغريب وأحياء المهجور من الألفاظ، فيرى أن تختار الكلمات الصالحة، وان يراعى في وضعها القرابة والنسب، حتى تحسن الصحبة وتطيب الألفة، وهو رأي صحيح ولكنه يحتاج في تنفيذه كما قلنا إلى البراعة والدقة، فلعل الكتاب يستجيبون لدعوتنا، ولعلهم يراعون هذا في كتاباتهم فيكونوا قد بروا بلغتهم وخدموا أساليبهم؟
الزقازيق
محمد فهمي عبد الطيف