مجلة الرسالة/العدد 412/من وراء المنظار

مجلة الرسالة/العدد 412/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 05 - 1941



في الترام أيضاً. . .!

لعل هذه ثالث مرة أكتب فيها عما وقع عليه منظاري في الترام مما

يصور أخلاق بعض الناس في مجتمعنا الواسع، والترام لا تنس أيها

القارئ مجتمع له خطره. وإن عجبت لهذا التعبير فأخطر ببالك مبلغ ما

تمتلئ به طيلة النهار وساعات من الليل تلك المركبة من أنماط الناس

مرات كثيرة متتابعة.

وما اتخذت موضعاً لي يوماً بين هؤلاء الناس إلا وقع منظاري على ما لا أحب أن يقع عليه، ولو أني رحت أحدثك كل يوم بما أرى لجئتك كل يوم بالطريف، بل ولحملتك على أن تستزيدني إن سكت.

وماذا عسى أن أعرض عليك اليوم مما شاهدت والمجال لا يتسع له كله وليس فيه ما أحب أن أدعه، وما أعرض عليك ما أعرض محبة في نشر ما يعاب وإنما أشهر بما يعاب بغية القضاء عليه. . .

هذان يافعان من أبناء مدارسنا يكلم كلاهما صاحبه وكأنه يتعمد أن يسمع الراكبين جميعاً، وليت العيب قاصراً على ما يحدث كلاهما من ضجة مكروهة، بل إنهما ليتحدثان في غير تحفظ عن أمور أحسب أن الحديث فيها مما يوجب الخجل لو جرى بينهما على انفراد، دع عنك ما ينعت به كل منهما صاحبه من الألفاظ التي نستطيع صدورها من السوقة إذا عظمت بينهم جلبة المزاح، أو إذا استحرَّ بينهم بالأيدي والألسن القتال. . . وما أرى على وجه من هذين الوجهين أي شعور بأنهما تقع عليهما أعين الناس.

ودع هذين إلى ذلك الذي يتحدث إلى جيرانه عن إحدى القضايا فيذكر أسماء معروفة ويعقب على كل أسم بما يشاء له أدبه من قاذع السباب في غير تحرج ولا مبالاة.

ثم ما فصيلة هذا (الإنسان) الذي جعل يحملق في فتاة أمامه من بنات المدارس لا يكاد يتحول نظره عنها وإنما يتحرك بصره إذ يتحرك صاعداً من طرفي قدميها إلى قمة رأسها فيستقر بعض الوقت في مواضع معينة، ثم يهبط إلى أسفل من جديد متوقفاً عند كواضع الاستقرار حتى يعود إلى حيث بدأ ليصعد من جديد، وهكذا دواليك دون أن يفطن هذا الأفندي إلى ما يكاد يزهق روحها من ضيق وارتباك.

وما هذا الذي راح يقضم اللب ويلقي بقشره في سرعة فيقع على ملابس من هم حوله في غير وعي منه كأنما يفعل ذلك في حجرته الخاصة؛ فإذا فرغ ما في يده دسها في جيب سرواله فعادت ممتلئة، ودار فكاه فألقيا بالقشر تباعاً كأنهما تلك الآلة التي تفصل القمح حبه عن تبنه في الأجران.

وماذا يريد ذلك (البارد) الذي يطيل النظر إلى ملابس من هم أمامه، كأنما يتفرج على معروضات الأزياء في إحدى (الفترينات). يفحص ببصره أربطة الرقبة والقمصان والحلل ولا يتحول بعينيه عنك مهما أبديت له بنظراتك من دهش أو استنكار!!

على أن هؤلاء جميعاً أهون شراً وأقل خطورة من ذلك الذي جلس في طرف المقعد إلى اليسار وأخذ يبصق كل بضع ثوان بصقة لا يبالي على أنف من ولا على عين من وقع رشاشها العذب الذي ينثره الهواء على من خلفه، كأنما يتحتم على راكب الترام أن يلبس قناعاً من الأقنعة الواقية. . .

ومثل ذلك الظريف هذا الذي يتحرك لينزل فيطأ بنعله وجه نعلك، أو يفزع بيده طربوشك فما تدري إلا وقد طار عن رأسك، أو يتحاشى الانزلاق إذ يقرب من السلم فتستقر لطمة منه على عينيك أو خدك أو أنفك بحيث لو سددها إليك من يتعمد ذلك - لا قدر الله - ما جاءت محكمة كما تجيء من يد ذلك الذي يمر بك أثناء نزوله من الترام، وإنه ليقع منه ذلك فلا يلتفت إليك بكلمة اعتذار أو بنظرة أسف! وسبحان الذي سوى الجبلات.

ودع عنك غير من ذكر (المتشعبطين) على السلم والمتحاربين مع (الكمساري) من أجل مليم مشكوك في أمره، أو على الأكثر من أجل قرش زائف، دع عنك هؤلاء فالأمر محصور بينهم وبين (الكمساري) إلا إذا نفخ هذا في زمارته فأوقف الترام وأخذ الجميع بذنب صفيق أو صفيقين.

أقسم لك أن ذلك كله حدث في الترام في وقت معاً، فإن لم تصدقني بعد هذا القسم فليس لدي شك في أنك لم تركب هذه المركبة.

الخفيف