مجلة الرسالة/العدد 416/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 416/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 06 - 1941


للدكتور زكي مبارك

امتحان جديد - فلان وفلان - محصول (الرسالة) - أقسمت

بالخمر والنساء - الإفراج عن ديوان (سبط ابن التعاويذي -

الصلات الأدبية بين مصر والسودان - الأستاذ محمد فريد أبو

حديد - لا تنسوا أندية السودان

امتحان جديد

ومن المحنة جاء الامتحان، كما جاء الابتلاء من البلاء!

وقد امتُحِنت مصر في هذه الأيام بضروب من الخوف والجوع بسبب الغارات الجوية، فما الذي أعددناه لنخرج من هذه المحنة بسلام؟

السياسة الرسمية للسياسيين الرسميين، أما السياسة القومية فمُلقاة على عواتقنا، إن كنا أهلاً للظفر بثقة الوطن الغالي، فما واجبنا اليوم وقد وجدت شؤون لا يباح معها لعب ولا مزاح؟

قيل إن الذين هاجروا من الإسكندرية سبعون ألفاً أو يزيدون، فإلى أين تتوجه تلك الألوف؟

ندع الحكومة تدبر من هذه الشؤون ما تستطيع، ثم نلتفت إلى أغنيائنا فنقول:

هذه فرصة سنحت لشكر الله على نعمة الغنى والعافية، والأمان، فماذا عندكم من فنون الشكر والحمد والثناء على واهب الغنى والعافية والأمان؟

إن كان الله ابتلى فريقاً من الفقراء بتعريضهم للخوف والجوع فقد ابتلى جماعات الأغنياء بتعريضهم للشح والبخل في أوقات لا يبخل فيها غنيُ بماله إلا وقد عرض نفسه لغضب صاحب العزة والجبروت

قلت خمسين مرة: (إن الأمم بأغنيائها) ولمثل هذه الأيام الفواجع أعددنا أغنيائنا، ليزدادوا قوة إلى قوة، فما ينمي الخيرات والثمرات غير الجود بها في أوقات البلاء

هذا يوم الامتحان، وهو امتحان يؤديه أغنياؤنا طائعين لا كارهين، فما نحب أن يكون عليهم رقيب غير ضمائرهم، ولا نقبل أن تتدخل الحكومة لحملهم على البر والإفض فيضيع المعنى الشعري الجميل، الذي يمثل رفق الأغنياء بالمهاجرين الفقراء، عن طيب نفس وبلا انتظار لأمرٍ يصدر من هنا أو هناك!

أغنياؤنا اليوم مدعوّون لوليمة روحية لا تتاح في كل يوم، فأمامهم فرصة للشعور بمعاني جديدة لم يشعروا بمثلها من قبلُ، الشعور بمعاني الكرم والإيثار والإفضال، وهي معانِ أشهى وأطيب من الأنس بالمال المكنوز في أوثق الحصون

فالبائس الذي يكرمونه اليوم، ليس صُعلوكاً يتسول حتى يملكوا كف أيديهم عن الإحسان إليه، وإنما هو أخُ مواطن صدته الظروف القواهر عم مواصلة عمله في مدينة معرضة لعدوان الباغين على الحق وعلى الإنسانية

وهذا المواطن المصدود عن طلب الرزق يستطيع أن يؤدي خدمة تنفعه وتنفعكم إذا أردتم أن يدفع ثمن القوت والإيواء.

نحن لا ندعوكم إلى تدليل المهاجرين حتى ينسوا أن الدنيا دار كفاح ونضال، وإنما ندعوكم إلى تيسير وسائل الرزق الحلال لمن يستطيعون أن يعملوا بلا إجهاد ولا إرهاق

أما الذين لا يصلحون للعمل من الأطفال والعجائز، فهم غيوث تساق إليكم، وما أسعد من تواتيه الظروف على تربية طفل يتيم، أو إسعاد عجوز فقد من يعوله من أهل وأبناء!

جربوا هذه الألوان من طعوم الحياة، يا أبناء هذه البلاد جربوها ثم حدثوني عما وجدتم من شهي المذاق

سبعون ألفاً يبدَّدون كما يبدَّد العِقد المنظوم؛ ثم لا يلتفت إليهم أحد من الأغنياء التفاتة الرفق والعطف والإشفاق؟

فلأي يوم ادخرنا أغنياءنا، إن لم نكن ادخرناهم لمثل هذا اليوم؟

الرفق باليتامى لا يمر بلا جزاء، والإشفاق على المنكوبين لا يفوت بلا ثواب، وإن الله لينظر إلى ما تعاملون به أولئك وهؤلاء، فما أنتم صانعون؟

سيخرج المحاربون بمغانم جديدة أقلُها القدرة على تعديل صحائف التاريخ

فما غنائمنا في هذه الحرب؟

ما غنائمنا إن لم نفز بفتح جديد هو تفجير ينابيع العطف والتآخي في الصدور المصرية؟

وما قيمة الحياة إن لم نذق فيها من طعوم الرغد غير الشبع والريّ في عزلة عن بلايا المجتمع؟

ما قيمة الحياة إن لم نثق بأننا أهل لإغاثة الملهوفين حين يعتسف البلاء؟

رحمة الله على أيامنا السوالف، ثم رحمة الله على ليالينا الخوالي!!

كنا أجود من الغيث حين نسمع بنكبة حلت بشعب من الشعوب، ولو ضَعُفت بيننا وبينه الأواصر والصلات، ألم يتوجع شعراؤنا الكبار للزلازل التي وقعت في بلاد الطليان وبلاد اليابان؟

ألم نؤلف اللجان لمنكوبي الحرب الفلندية؟

فما سكوتنا اليوم والنكبة حلت بسكان الإسكندرية وطن الفتوة والجمال؟

كان مصطفى كامل يقول: الإسكندرية معقل الحزب الوطني

وكان سعد زغلول يقول: الإسكندرية معقل الوفد المصري.

وكذلك كانت الإسكندرية مدينة مدّللة يتودد إليها جميع الأحزاب، فما حالها اليوم في أنفس الزعماء؟

الإسكندرية - مدينتنا البحرية الجميلة - تعاني عذاب التشريد ونحن صامتون صمت الأموات!

الإسكندرية - عروس الماء - التي دانت جميع شعرائنا وكتابنا تنظر اليوم إلى من يواسيها بكلمة رثاء، وإلى من ينظر إلى أبنائها نظرة إشفاق

وإلى من يتوجه أبناؤها المشرَّدون؟ إلى أين؟

أيتوجهون إلى الريف وأهل الريف في أغلب أحوالهم فقراء؟

دعوا هذا الحل، فهو لا ينفع بشيء، واسمعوا كلمة الحق:

يجب أن يكتتب القادرون من الأمة بمبالغ تتفاوت بتفاوت القدرة المالية، ثم يكون ما يُجمع من الاكتتاب ذخيرة تُدبر بها وسائل العيش المقبول لأولئك المنكوبين، على شرط أن يعيشوا من كسب أيديهم في الحدود التي تسمح لهم بالتسبب والارتزاق، وليس ذلك بالأمر المستحيل

وما سبعون ألفاً حين توزّع همومهم على ستة عشر مليوناً؟

أتريدون أن أقول مرة ثانية إنه عدد بلا محصول؟ أغنياءنا، أغنياءنا، أين انتم، أين أنتم؟

إنكم تهربون من منازل التكريم والتشريف، وإلا فكيف جاز ألا يزيد بركم بمنكوبي الغارات عن بضعة آلاف؟

أخرجوا من دنياكم في سبيل المنكوبين من مواطنيكم، لتظفروا بزاد نفيس من رضا الله الذي تفضل فأسبغ عليكم أثواب الغنى والعافية والأمان

أخرجوا من دنياكم، لتعودوا إليها أعزاء، فالله لا ينسى ولن ينسى من يخرج من دنياه لمواساة المكروبين

الله عز شأنه يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)

فهل علمتم أن هنالك وعداً أرحب من هذا الوعد؟

هو قول الله عز شأنه: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء)

وما عسى أن يكون الإنفاق في سبيل الله إن لم يكن في مواساة من دعوناهم لحفظ الحياة في أجمل المدائن، ثم نكبهم الدهر اللئيم بما أراد؟

أليس من الكرب الماحق أن تدعونا الكوارث إلى استدرار العطف على المنكوبين من أهل الإسكندرية وكانوا أشجع الناس وأسعد الناس؟

لو كنا نملك من أمورنا ما نريد لأقمنا قبوراً من الياقوت لمن عدا عليهم الموت من أهل الإسكندرية، فما كانوا إلا ذخيرة من أكرم ذخائر الوطن الغالي، فكيف نضن بالعطف على أحيائهم المنكوبين بالغارات، وكان آباؤهم وأجدادهم أمل الوطن في حماية ذلك الثغر الجميل؟

إسكندرية!! إسكندرية!!

إليك أقدم تحيتي وعزائي!

فلان وفلان

من عادتي أن أنوه بما يقوله فيَّ أعدائي، وأن أسكت عما يقوله في أصدقائي، رغبة في السلامة من آصار التكبر والازدهاء

ولو أني أطعت الأستاذ الزيات لكان لي مع أصدقائي حال غير هذه الحال، فهو يدعوني من وقت إلى وقت لتلخيص رسائل قرائي، ولكن أعتذر لتحقيق المعنى الذي أشرت أليه، وهو السلامة من التكبر والازدهاء

فهل أستطيع اليوم أن أقول إني شعرت بالرهبة حين قرأت خطاب الأديب (رضوان العوادلي)؟ وهل أملك التصريح بأن خطاب الأديب (أحمد العجمي) أوقعني في زلزال، وكأنه خطاب الأديب (شلتوت) أو خطاب الأديب (أنور الحلبي)؟

إن لقرائي فضلاً لن أنساه، فهم يحببون إلي الدنيا والوجود، وهم يسوقونني سوقاً إلى الاعتزاز بسنان القلم وسلطان البيان

ولكن لي عليهم حقاً يفوق حقوقهم عليّ، وهو دعوتهم إلى أن تكون لهم غاية وطنية وروحية فإني أرى لهم قدرة على التعبير الجميل، وتلك موهبة يعز علينا أن تضيع

هل يذكرون أني حدثتهم مرة بأني لم أشرب فنجان قهوة في غير داري قبل أن أظفر بإجازة الدكتوراه وقبل أن أبلغ الثلاثين؟

شبابكم، شبابكم، يا قرائي، من أبناء الجيل الجديد

إحذروا، ثم إحذروا، أن تضيع من دمائكم قطرة في غير الواجب

وتذكروا، ثم تذكروا، أنكم خلفاؤنا في الحياة الأدبية والفلسفية

واعرفوا، ثم اعرفوا، أن المجد الأدبي لا يُنال بالأماني، وإنما يُنال بالجهاد الشاقّ، فكونوا عندما نريد لكم من كرائم الآمال، ثم تيقنوا أن الدنيا لكم إذا واجهتموها بعزائم المجاهدين الصادقين

كتب الله لكم عافية البدن، وطهارة القلب، وسلامة الروح

محصول (الرسالة)

بين الموظفين برياسة مجلس الوزراء أديب يتخير الأطايب من محصول (الرسالة) ثم يدونه في دفتر خاص، وقد لاحظت أنه لا يتخير إلا الفقرات الموسومة بالرصانة والرنين، وفي هذه الكلمة أوجه نظره إلى أن الكلام قد يصل إلى أوج القوة وإن لم يظهر أن صاحبه قد احتفل بالأسلوب

ومن أمثلة ذلك قول الأستاذ محمود الشرقاوي في وصف شمائل صاحب البلاغ:

(كان محرر السينما والمسرح بالبلاغ في إحدى السنين شاَّباً قليل الخبرة، ولو أنه طاهر النفس، فكتب عن إحدى الممثلات المصريات كلمة ذات وجهين أحدهما قبيح، وتحدثت هي في ذلك بالتليفون إلى عبد القادر باشا، وبعد لحظة دعا ذلك المحرر عنده وعنّفه أشد التعنيف، وأمر بفصله من (البلاغ) وكان كثيراً ما يفعل ذلك معه ومع غيره ثم يعفو، ولكنه في هذه المرة لم يقبل فيه شفاعة شافع، ولم يرى العاملون مع عبد القادر حمزة أنه غضب من شيء بمثل ما غضب في ذاك)

فهذه الفقرة بسيطة جدا، ولكنها قوية جداً، بفضل قوة المعنى الذي انطوت عليه إظهار الغضب على من يستبيحون غمز الأعراض

ولم يتسع وقت الأستاذ الزيات لرثاء عبد القادر حمزة في إحدى افتتاحياته التي يحتفل بتجويدها كل الاحتفال، فكتب في البريد الأدبي كلمة قصيرة، ولكن تلك الكلمة على قِصرها أدت الواجب في توديع صاحب البلاغ أجمل أداء، وأكاد أحسبها لخصت تاريخ صاحب البلاغ أبرع تلخيص

والمهم هو تذكير أصدقاء الرسالة بواجب فكرت فيه مرات كثيرة ثم صرفتني عنه الشواغل، وهو تعقّب كل عدد بالنص على ما فيه من دقائق تفوت بعض القراء

لو قام بهذا الواجب أحد أصدقاء الرسالة لنص على العذوبة في قول الشاعر محمود حسن إسماعيل

الليلُ ناداني ... من عالمٍ ثانِ

وقال: يا فاني ... هيّجت أحزاني

فهذا والله من نفيس الكلام، كما كان يعبّر محمد بن داوود طيّب الله ثرَاه!

أقسمت بالخمر والنساء

كان الأستاذ (محمد لطفي جمعة) قال في كلمة نشرها بجريدة الدستور: إن الشاعر علي محمود طه أول من أقسم بالخمر والنساء حين يقول:

أقسمت بالخمر والنساءِ ... ومجلس الشعر والغناءِ

وهذا حق، ولكن فات الأستاذ لطفي جمعة أن ينص على أسماء بعض الشعراء الذين سرقوا هذا المعنى من شاعرنا المهندس ليبيّن فضله في إذاعة المبتكرات من المعاني الشعرية

ولو أنه وفىّ هذا البحث بعض حقه لأشار إلى أن سبط ابن التعاويذي المتوفى سنة 584 في بغداد كان من بين الذين سرقوا معنى الشاعر علي محمود طه، فقد رأيته يقول:

أما وحقِّ المُدام صِرفاً ... يخجلُ من لونها الشقيقُ

وكلِّ هيفاَء ذاتِ دَلٍ ... يقتُلني قدُّها الرَّشيقُ

يشكو إلى رِدفها المعبَّا ... من جورِه خصرُها الدقيق

للصبِّ من وردِ وجنتيها ... وِرْدٌ ومن ثغرها رحيق

إلى آخر ذلك القسم الطريف

وهذه خدمة أكرِم بها صديقي شاعر (الجندول) أعزَّه الحبُّ ورعاه!

الإفراج عن ديوان السبط

وبهذه المناسبة أقول: إن الظروف سمحت بالإفراج عن ديوان (سبط ابن التعاويذي)، فقد كان معتقلاً في (مكتبة هندية) ثم اشترته (المكتبة التجارية) فهو اليوم في متناول من يشتاق إليه من عشاق الشعر البليغ

ولكن كيف وقع ذلك الاعتقال؟

كان الديوان قد نشر بعناية المستشرق مَرجُليوث؛ ثم مرَّت عليه أعوام وهو محبوس، لأسباب لا نعرف سرها الصحيح!

فإلى مرجليوث في قبره نوجِّه صادق الثناء على ذلك الجهد المحمود.

الصلات الأدبية بين مصر والسودان

أنست القاهرة بوجوه الأساتذة الاماجد حسن مأمون، وعبد العزيز عبد المجيد ومحي الدين عبد الحميد، وهم يلهجون بالثناء على ما رأوا عند عرب السودان من أريحية ومروءة وإخلاص. وقد عرفنا أن إقامتهم هناك من أطيب الفرص في حياتهم العلمية والأدبية؛ فأهل السودان أهل جِد، ولا يلقى بينهم أهل العلم إلا أكرم الرعاية والترحيب. وقد شعرتُ بالسرور يغمر قلبي حين حدثوني أن الحياة الأدبية هناك تفوق ما نتصوره بمراحل طوال، ولا غرابة في ذلك: فالصلات الأدبية بين شطرَي الوادي تعين على تحقيق ما نرجوه لأهل السودان من التفوق في الأدب والبيان

وقد انتفعت بمعارف الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد عن الحياة في السودان، وهي معارف صدرت عن قلبٍ يحب أولئك الرجال حب الشقيق للشقيق

محمد فريد أبو حديد

وفي هذه الأيام ترد الأخبار بأن الأستاذ محمد فريد أبو حديد استُقبِلَ بحفاوةٍ عظيمة في الأندية الأدبية بالخرطوم، وأنه دُعِي لإلقاء طائفة من المحاضرات، ومن المؤكد أنه ظفر من إخواننا هنالك بالإعجاب، بفضل ما يملك من صفاء الفكر وجمال الأداء، وإنه لأهل لما لَقِيَ من جميل الترحيب

ومن طريف ما وفق إليه أنه حمل خمس مجموعات من مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر وأهداها إلى الأندية الأدبية في الخرطوم. والذي يعرف مطبوعات هذه اللجنة يدرك قيمة الفرح الذي قوبلت به تلك النفائس

فهل أستطيع أن أرجو أستاذنا مدير دار الكتب المصرية أن يتذكر أندية السودان حين يُهدي مطبوعات دار الكتب إلى الأندية الأدبية والعلمية؟

وهل يتفضل معالي وزير المعارف فيشير بإهداء أندية السودان طائفة من مطبوعات المجمع اللغوي ومطبوعات كلية الآداب؟

زكي مبارك