مجلة الرسالة/العدد 416/رسالة. . .

مجلة الرسالة/العدد 416/رسالة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 06 - 1941



(للناقد الأزهري)

في أوائل القرن الهجري الحاضر كان يقيم في باريس جماعة من التلاميذ المسلمين الذين نزحوا من بلادهم لأجل العلم والتثقف، وكان يقيم بها أيضاً عالم مسلم من أهل الجزائر اسمه (سليمان بن علي)

توجه هؤلاء التلاميذ المسلمون إلى هذا العالم الجزائري المسلم يسألونه عن حكم لبس قلنسوة النصارى (البرنيطة) ويذكرون أن أحوال باريس تضطرهم إلى لبسها، لأنهم كلما مروا في شوارع باريس بلباسهم، توقف الناس عن يمين وشمال، وصاروا ينظرون إليهم متعجبين، ولأنهم يريدون أن يمنعوا عيونهم من ضرر البرد القارس في هذه البلاد. . . الخ

درس الشيخ هذا السؤال، ووضع في الجواب عنه رسالة مفصلة سماها (أجوبة الحيارى، عن حكم قلنسوة النصارى) أباح فيها لبس البرنيطة وأيد بما وسعه أن يؤيده به على طريقة فقهية سائغة

أفزع ذلك عالماً كبيراً من علماء الأزهر في ذلك الحين هو المرحوم الشيخ محمد عليش مفتي السادة المالكية فكتب رسالة في الرد على هذا العالم الجزائري تناوله فيها بألوان من الإقذاع والتسفيه، ووصمه بالجهل، والقصور، والتهجم على الشريعة، والخروج على إجماع المسلمين. . . الخ

وهذه نصوص من الرسالة (العليشية) نضعها أمام القراء،

قال الشيخ بعد الديباجة:

1 - (أقول: يأهل الذكاء تعجبوا ممن كان عيبه مستوراً، ففضح نفسه، ونادى به عليها بين الناس وصير عيبه مشهوراً، وبيان ذلك أنه تقرر في شريعة الإسلام أن السفر لأرض العدو للتجارة جرُحة في الشهادة، ومخل بالعدالة، فضلاً عن توطنها وطول الإقامة بها، وهذا الرجل (يقصد الشيخ الجزائري) كان مجهولاً مستوراً فعرف بنفسه بأنه من علماء المسلمين خرج عن حد الشريعة وتهتك، ولم يبال بالجرحة في شهادته، ولا باختلال عدالته، واختر مساكنة الكافرين في ديارهم، وزهد في مساكنة المسلمين وفسيح بلادهم. فيالها من فضيحة، وما أفظعها من وقيحة! ولم يشعر بها من شدة حماقته وكثافة جهله، وشدة غباوته. . .) 2 - (يأهل الذكاء تعجبوا ممن كان عيبه مستوراً فأبى إلا إشاعته وصيرورته مشهوراً، وبيان ذلك أن قوله (أتوا من بلادهم لأجل التعلم) فيه اعتراف بالجهل بما يطلب تعلمه وما لا يطلب، وذلك أنه قد تقرر في شريعة المسلمين أن المطلوب تعلمه من أقسام العلم العلوم الشرعية وآلاتها وهي علوم العربية، وما زاد على ذلك لا يطلب تعلمه، بل ينهى عنه. ومن المعلوم أن النصارى لا يعلمون شيئاً من العلوم الشرعية، ولا من آلاتها بالكلية، وأن غالب علومهم راجع إلى الحياكة والقبانة والحجامة وهي من أخس الحرف بين المسلمين. وقد تقرر في شريعتهم أنها تخل بالعدالة. وهل كذب الرب جل جلاله في قوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهراً من الحياة وهم عن الآخرة هم غافلون) وصدقت أنت في زعمك يا مفتون؟ فما أقبح حالك! وما أفظع مقالك)

3 - (إن قوله: امتداد القلنسوة يمنع عيونهم من ضرر البرد فيه فضيحة عظيمة، ومثقبة وخيمة، إذ لم يلتفت لمنع الامتداد المذكور من السجود للملك المعبود!)

4 - (وقد بقيت عليك وعليهم ورطة الإقامة في بلاد الكفار بالاختيار حيث لا جمعة ولا جماعة ولا أذان ولا إقامة ولا شعيرة من شعائر الإسلام، ومحل عبادة الأصنام والأوثان والصلبان؛ كيف يرضي بذلك من في قلبه إيمان؟ لا سيما وهو معرض للموت في كل نَفَس وأوان، وقبورهم حفر من النار، فكيف يختار المؤمن دفنه بها؟ فاخلعوا فوراً زي الكافرين، وهاجروا لبلاد المسلمين إن كنتم مؤمنين)

5 - (وقوله لم يرد تحريمها لا في كتاب ولا في السنة ولا في أقوال الأئمة فيه نداء على نفسه بالجهل والقصور، إذ قد دل الكتاب على تحريمها بقوله: (واسجدوا)، وبقوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) وبغير ذلك من الآيات؛ ومعلوم أنها مانعة من السجود، ودلت السنة على ذلك في قوله: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء. الحديث؛ وانعقد الإجماع على تحريمها ولا بد من استناده لكتاب أو سنة، وهو معصوم عن الخطأ كما هو معلوم؟ كيف يجوّز أحد من المسلمين لبسها وهو كفر إجماعاً أو على قول؟!)

6 - وقوله: إن النبي لبس جبة رومية ضيقة الكمين، فضيحة فاضحة، لأن الجبة الذكورة لم يختص بها الكفار ولم تصر شعاراً لهم. . . وكيف تتجاسر يا أحمق يا مفتون يا غبي على نسبة لبس ملبوس النصارى الذي صار زياً لهم وعلامة على ذلهم وإهانتهم وكفرهم، إلا أشرف الخلق ومنبع الدين الحق، فأي فضيحة أفضح من هذه الفضيحة، وأي شنيعة أشنع من هذه الشنيعة، يا أعمى البصيرة، ويا خبيث السريرة؟ شقيت شقاوة لا تسعد بعدها أبداً، وصار دمك مهدوراً، والسعي في سفكه واجباً مشكوراً)

7 - وختم الشيخ رده بهذه النتيجة بعد كلام طويل:

(إنه تقرر في شريعة المسلمين أن حكم هؤلاء أمرهم بالتوبة والرجوع إلى دينهم، والتزيي بزي المسلمين. وإمهالهم لذلك ثلاثة أيام، فإن فعلوا ذلك قبلت توبتهم، وخلى سبيلهم؛ وإن تمت الأيام الثلاثة ولم يتوبوا، قطعت رقابهم بالسيف، ولا يغسلون، ولا يصلى عليهم لموتهم على الكفر. . . والسلام على من اتبع الهدى حامداً لمن نور قلب المؤمنين بالإيمان. . .)

هذه هي الرسالة العليشية، ولكل قارئ أن يحكم عليها بما يشاء، وأن ينقد أسلوبها في البحث، ولغتها في الحوار، وأدبها في المناظرة، على أن يقدر ظروف العصر الذي كتبت فيه، ونوع الثقافة التي كانت تسيطر على أهل العلم يومئذ؛ فإن كثيراً من تلك الأحوال، قد هذبه الزمان، وأصلحته الأيام

وأهم ما في الرسالة في نظري مما ينبغي أن تستخلص منه العبرة، هو محاولة المؤلف في جد واهتمام تكفير بعض المؤمنين أو تفسيقهم لأنهم أخذوا برأي لا يوافق رأيه، ولا يتمشى فيما يحسب مع رأي جمهور المسلمين!

وهذه النزعة إلى التكفير أو التفسيق بما لا كفر فيه ولا فسوق ما تزال سائدة في جو الأزهر، وقد انبثت عدواها على يديه في كثير من أنحاء مصر والشرق، فمنكر الوسيلة والتوسل كافر عند فلان، ومنكر سحر النبي كافر عند فلان، والذي لا يتلقى بالقبول كل ما يروون من المعجزات والكرامات شاك مكذب، والذي يدعو إلى تهذيب العقائد مما ألم بها من خرافات وأوهام لا يعرفها الإسلام ضال مضل، والذي ينهى عن الإحداث في الدين والابتداع في العبادات متهجم على الشريعة، منكر لما تلقته الأمة بالقبول!

تجد هذا كله إلى الآن، وتجد العامة في أقاليم مصر وأقطار الشرق يتعاركون فيه ويختصمون عليه، ثم يتجهون إلى علماء الأزهر بأسئلتهم: ما قولكم دام فضلكم في رجل أنكر كذا أو حكم بكذا؟ أهو مؤمن أم كافر، أتطلق عليه امرأته أم تبقى في عصمته؟ فإذا جاءهم ما أرادوا من فتوى شهروه في أيديهم سلاحاً ماضياً فتاكا في وجوه خصومهم ومجادليهم، وأثاروا به حولهم من أسباب الشغب والفتنة ما الله به عليم وليس هذا فقط! بل إن العلماء الكبار ليتجهون أحياناً إلى جماعتهم الموقرة، فيسألونها في عناية واهتمام: ما قول سادتنا أعلام الأمة جماعة كبار العلماء فيمن قال. . . كذا وكذا أو ناصر كتاباً فيه كذا وكذا من الأحاديث الموهمة خلاف ما يرى جمهور المسلمين بأن أشرف على طبعه وقدم له: هل يكفر أو يغسق أو لا ولا؟

يرد مثل هذا السؤال على (الجماعة) من أحد أعضائها، فتهتم به، وتجتمع له، وتؤلف له اللجان، وتبحثه المرة بعد المرة، وتعكف عليه كثر من عام: كل ذلك من أجل كتاب قديم نشره رجل من العلماء مع اعتراف الجميع بأن ما ورد فيه من الروايات والأحاديث قد ورد في غيره من كتب التفسير والحديث!

ففيم كل هذا؟ وأي مصلحة للإسلام والمسلمين ترجى من ورائه؟ ولماذا؟ ولماذا لم يُحكم فيما مضى، ولم تحكموا أنتم، بكفر المؤلف أو فسقه، حتى تأتوا اليوم فتتساءلوا: هل كفر الناشر أو فسق؟ تعقدون لذلك الجلسات، وترجعون فيه إلى المراجع، وتؤلفون من أجله اللجان!

اللهم إن هذه نزعة لا يسرنا أن تسود الأزهر، ولا أن تشجعها جماعة كبار علمائه. فإذا كان القديم في زمن (عليش) قد احتمل ذلك أو شرح به صدراً، فإن الجديد في زمن (المراغي) قد مله واجتواه وضاق به ذرعاً!

(الناقد الأزهري)