مجلة الرسالة/العدد 417/القصص

مجلة الرسالة/العدد 417/القصص

ملاحظات: سمبر ايدم Semper Idem هي قصة قصيرة بقلم جاك لندن نشرت في مجموعة When God Laughs & Other Stories عام 1911. نشرت هذه الترجمة في العدد 417 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 30 يونيو 1941



سمبرايدم

عن الإنجليزية

للأستاذ فوزي الشتوي

كان الجراح (بكتل) رحيماً على غير عادته، برغم حادثة بسيطة، أو بعبارة أدق برغم إهمال بسيط حدث في الليلة الماضية، فأدى إلى وفاة رجل كان ينتظر له الشفاء. وكان الرجل من أولئك البحارة الكثيرين، إلا أن وفاته أقلقت كبير الممرضين منذ الصباح. ولم يكن سبب قلقه وفاة الرجل، فهو يعرف الجراح (بكتل) في مثل هذه المسائل، ولكن جزعه كان يرجع إلى نجاح العملية الجراحية برغم دقتها وخطورتها، وبهذا انتقل أمر شفاء المريض من يد الجراح إلى يد الممرض وإلى العناية بأمر العلاج؛ ولكن الرجل مات، بدون سبب سوى إهمال بسيط، ولكنه سبب كاف لإثارة سخط الجراح (بكتل) وسبب كاف لإسماع كبير الممرضين قوارص الكلام، ثم إرسال موجة من الاضطراب بين صفوف جميع الممرضين والممرضات لمدة 24 ساعة كاملة

وعلى رغم هذا كله كان الجراح (بكتل) رحيماً على غير عادته، فعند ما أخطره كبير الممرضين وهو يرتجف رعباً بوفاة الرجل الفجائية لم تنفرج شفتاه عن كلمة تقريع أو لوم، وظلتا مضمومتين فانسابت منهما علامات الغضب بسكون لم يقطعه إلا سؤاله المستبشر عن صحة الرجل الآخر. ولم يصدق الممرض ما سمع فمن المستحيل أن يكون الدكتور سمع الموضوع فأعاد شرحه

ففقد الدكتور (بكتل) صبره وقال: فهمت. فهمت، وماذا جرى لسمبرايدم، هل هو مستعد لمغادرة المستشفى؟

- نعم يا سيدي وهم يساعدونه الآن على ارتداء ملابسه. قال كبير الممرضين مكملاً تقريره مسروراً لأن السلام يستقر بين جدران المستشفى:

فلم يكن للأرواح عند الدكتور (بكتل) من قيمة، وكان فقدها أحد حوادث المهنة التي لا مفر منها؛ أما الحالات وخصوصاً الحالات الغريبة، فقد كانت كل شيء لديه. ولهذا عوضه شفاء سمبر ايدم عن وفاة البحار

أطلق الناس على الدكتور (بكتل) اسم الجزار. أما زملاءه فكانوا يعتقدون أنه لم يقبض على مبضع الجراح رجل أجراً ولا أكفأ منه. لم يكن رجلاً خيالياً ولا عاطفياً، بل كانت طبيعته علمية مضبوطة وصادقة. لم يكن الرجال في عرفه سوى ودائع لا شخصية لها ولا قيمة، إلا أن أمره كان يختلف في الحالات الغريبة، فكلما كان الرجل محطماً، وكلما قل الأمل في شفائه زادت أهميته في عيني الدكتور بكتل، فهو يتخلى عن شاعر الملك إذا كانت حادثته عادية ليعني بأمر متشرد تحدى جميع قوانين الحياة ورفض أن يموت

وهكذا كانت الحال في حالة سمبر ايدم. لم تجذب الدكتور بكتل غرابة أطوار سمبر ايدم ولا صمته، ولم يحاول إزاحة الستار عن مأساة غرابه كما حاول الصحافيون إثارة الناس دون جدوى في صحف الأحد. لم يثر شيء من هذا اهتمام الدكتور بكتل، وإنما أثار اهتمامه أن رقبة سمبر ايدم قطعت، وفي هذه النقطة وحدها تركزت كل لذته، فقد قطعت من الأذن إلى الأذن، وما كان جراح واحد من ألف ليرى بارقة أمل في شفائه، ولكنه بفضل عربات الإسعاف السريعة وبفضل الدكتور بكتل عاد مرة أخرى إلى الحياة التي حاول أن يتركها

وعندما عرضت الحالة على مساعدي الجراح بكتل هزوا رؤوسهم وقالوا محال، فقد أصيبت الحنجرة والقصبة الهوائية والعنق بأضرار بالغة فضلاً عن كمية الدماء الكبيرة التي نزفت. وبناء على هذه النتيجة جرب الجراح بكتل عدة وسائل، وأجرى عدة عمليات جعلت زملاءه برغم تضلعهم في الفن يقفون مشدوهين وأكثر من هذا أن الرجل شفى

وهكذا مر اليوم في المستشفى بسلام دون أن يسوده الاضطراب والذعر نتيجة لتقرير كبير الممرضين. فقد كان من الأمور السارة أن يغادره في ذلك اليوم سمبر ايدم صحيحاً معافى، بل إن جثة الطفل الذي صدمه الترام فعجنتها لم تؤثر على المرح السائد ولم ترسل موجه الأسف العادية

وأثارت قضية سمبر ايدم إعجاب كثيرين، وأثارت كثيراً من اللغط؛ فقد وجد في أحد منازل الإحسان مقطوع الرقبة والدم ينزف منها فتساقطت نقطة على الغرفة السفلي فدب الذعر في صفوف سكانها؛ وكان من الواضح أنه فعل فعلته وهو واقف ورأسه منحنِ إلى الأمام حتى يظل نظره موجهاً إلى صورة موضوعة على طاولة، ومسندة إلى شمعدان، فأتاح هذا الوضع للجراح بكتل أن يتم معجزته. فلو تغير الوضع وكان انحناء الرأس إلى الخلف، لتمددت الأوعية العنقية وتم الانتحار على خير ما يرام، ولفقد الجراح بكتل لذة تنفيذ أعجوبته

ومضى سمبر ايدم طول مدة عودته إلى الحياة في المستشفى دون أن ينبس بكلمة؛ حتى ضابط البوليس لم يظفر من شفتيه بأية معلومات أو تفاصيل. ولم يعثر على إنسان واحد عرفه أو تحدث إليه؛ فقد كان ظاهرة غريبة شاذة. دلت ملابسه على أنه من أحط طبقات العمال، ولكن يديه دلتا على يدي رجل مهذب. وفحصت ملابسه قطعة قطعة فلم يعثروا فيها على ورقة واحدة أو دليل واحد يدل على ماضيه أو مركزه الاجتماعي، فلم يكن لديهم إلا الصورة الفوتغرافية

أما المرأة التي كانت تنظر من خلال الصورة فكانت بديعة صافية الجمال تلتقي عيناها بعيني المحدق فيها. وعبثاً بحث المخبرون السريون عن اسم مصورها؛ فقد كانت من تصوير أحد الهواة. وفي أحد الزوايا ظهر خط نسائي دقيق كتب (سمبر ايدم، سمبر الأمين) باللاتينية؛ وكما يذكر كثيرون كان وجهها من الوجوه التي لا ينساها الإنسان أبداً. نشرت صورتها في عدة جرائد رئيسية؛ ولكن مثل هذا الإجراء لم يظهر دليلاً جديداً وإن أثار فضول الجمهور ووفر المجال أمام الصحفيين للفروض والتخمينات

واشتهر المنتحر المنقَذ باسم سمبر ايدم لزوار المستشفى وفي العالم أجمع؛ فهو لم يحاول تغيير هذا الاسم. وتعب الصحفيون ورجال البوليس والممرضون في استطلاع أمره، ولكن شفتاه لم تنفرجا عن كلمة واحدة رغم بريق عينيه الذي كان يدل على أن أذنيه سمعتا وأن عقله أدرك ما وجه إليه من أسئلة. وأخيراً أهملوه وبقى له اسم سمبر ايدم

إلا أن الغموض الهائل والغرام العنيف لم يكن له معنى عند الجراح بكتل عندما استدعى مريضه إلى مكتبه، فهذا الرجل في عرفه هو الأعجوبة التي تمت على يديه فعمل فيه ما اعتبره فن الجراحة مستحيلاً، دون أن يهتم باسم الرجل أو ماضيه، بل كان من المحتمل ألا يطلب رؤيته مرة ثانية، ولكنه في هذه اللحظة كان كفنان يحدق في المخلوق الذي أوجده. فقد أراد أن يرى صنع يديه وعقله للمرة الأخيرة واحتفظ سمبر ايدم بصمته؛ وكان يبدو عليه السرور لمبارحته المستشفى دون أن يفوز منه الجراح بكلمة، وإن كان في الواقع لم يهتم بصمته أو بكلامه، وكل ما عمل أن اختبر رقبة المريض بدقة، فتحسس أثر التحام الجرح البشع الطويل متمهلاً كأنه أب يحنو على ولده. ولم يكن المنظر مريحاً، إذ كان يمثل خطاً يلف حول الرقبة ويختفي تحت الأذنين كما لو كان صاحب هذه الرقبة خارجاً من تحت حبل المشنقة

وصبر سمبر ايدم على هذا الاختبار كأنه أسد سجين، فكل رغبته أن يختفي عن أعين الناس. وأخيراً قال الجراح بكتل وهو يضع يده على كتف الرجل ويختلس نظرة أخيرة إلى صنع يديه:

- حسن! لن أحجزك. ولكن دعني أقدم إليك نصيحة صغيرة: عندما تحاول قطع رقبتك مرة ثانية ارفع ذقنك ولا تلقها إلى الأمام ثم اذبح نفسك كبقرة

ولمعت عينا سمبر ايدم علامة على أنه سمع وفهم؛ وبعد لحظة كان باب المستشفى يغلق خلفه

كان ذلك اليوم أحد أيام الجراح بكتل المليئة بالعمل، فلم يتح له أن يشعل سيجاره الكبير إلا بعد أن أوشك العصر أن ينتهي. وكان آخر حادث عرض عليه حادث رجل يجمع الخرق كسرت إحدى عظام كتفه. تخلص منه بسرعة وجذب نفساً طويلاً من سيجاره وأوشك أن يغادر طاولته، وما كادت رائحة الدخان وأشكاله البيضاء تنتشر في جو الغرفة حتى سمع صوت جرس إحدى سيارات الإسعاف السريعة يطن في أذنيه منبعثاً من نافذة الغرفة المطلة على الشارع، وتبعها دخول نقالة تحمل إنساناً جديداً

ووضع الجراح بكتل سيجاره في مكان أمين وقال: (ضعه على المشرحة. ماذا حدث؟)

فقال أحد حاملي النقالة: (حادث انتحار بقطع الرقبة في زقاق مورجان، وأعتقد أن الأمل ضعيف وأنه مات تقريباً)

(حسن سأراه على أية حال)

ومال الطبيب الجراح على الرجل في اللحظة التي اهتز فيها جسمه هزته الأخيرة وأسلم الروح. وما كاد كبير الممرضين يراه حتى قال: (إنه سمبر ايدم! عاد مرة ثانية)

فقال الجراح: (نعم ولكنه رحل. ولا فائدة هذه المرة فقد أتقن التنفيذ. نفذ نصيحتي حرفياً.

خذه إلى معرض الموتى)

ووضع سيجاره بين شفتيه ثم أعاد إشعاله وقال لكبير الممرضين من ثنايا الدخان المتصاعد: (هذا يعادل الرجل الذي فقدته أنت في الليلة الماضية، فنحن متساويان الآن

فوزي الشتوي