مجلة الرسالة/العدد 418/من طرائف الأزهر القديم

مجلة الرسالة/العدد 418/من طرائف الأزهر القديم

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1941


من البكاء إلى الضحك!

لا تزال طوائر المنون تحلق في سماء الإسكندرية فترسل الصواعق

والشهب على أهلها الغافين في أكناف الأمان، فتدك المنازل، وتطحن

الأجساد، وتخسف الطرق، وتقذف الرعب في قلوب الناجين فيخرجون

من دورهم هائمين على وجوههم، في مدارج السهول ومسالك الحقول

وأزقة القرى، حتى إذا ارفض عنهم الهلع واستقر بهم الفرار، نظروا

في أنفسهم، فإذا هم على أرصفة المحطات، أو على حواشي الطرقات،

أو تحت أفياء الجدُر، في ملابس النوم، أو في مباذل البيت، لا يملكون

ما يمسك الرمق ولا ما يستر الجسم، ثم نظروا إلى من معهم، فإذا

زوجة تصحب غريباً وهي تظنه بعلها، وأم تحمل مخدة وهي تحسبها

طفلها، وولد ينادي أمه فلا يجاب، ووالد ينشد أسرته فلا يجد. وحينئذ

ينجلي الذهول، ويتضح الخطب، وتعيد الذاكرة إلى المشاعر تهاويل

المنايا السود في هوادي الليل المقمر، فيذكرون انقضاض القنابل على

المدينة، وانهيار المنازل على الناس، فيعاودهم الفرق فيذهلون، ثم

يساورهم القلق فيرحلون، وهم لا يدرون أين ينزلون، ولا من أين

يأكلون، والناعمون على سرر الذهب وحشايا الديباج ينظرون إليهم

كما ينظرون إلى أسرى الطليان في طريقهم إلى المعتقل، أو يسمعون

بهم كما يسمعون بجرحى الألمان في طريقهم إلى الموت!

أربعمائة ألف أو يزيدون أخرجهم القدر القاهر من ديارهم وأموالهم، ثم تركهم عاجزين في ذمة الوطنية والإنسانية. وإذا علمت أن الوطنية في عرفنا لفظ لا يذكر إلا في دعاية لحزب يريد أن يحكم أو لنائب يريد أن يُنتخب، وأن الإنسانية في رأينا معنى لا يفهم إلا في عمل تحته شهرة أو وراءه لقب، أدركت السبب في وقوف بني قارون من المنكوبين موقف تماثيل المسرح من المأساة!

إذن لم يبق للمهاجرين إلا أكواخ الفقراء، وعتبات الأولياء، وهبات الحكومة. فأما مواساة الفقراء لهم فحق وأما معونة الحكومة إياهم فيقين، وأما ضيافة الأولياء فبقيت كضيافة الأغنياء موضع الشك!

كتب إلينا مهاجر أديب بطنطا يقول: (أيأسني الأمراء والأغنياء من رزق الله، فلجأت بعيالي إلى مقام سيدي أحمد البدوي في الغربية، فلم ألق منه ما لقي اللاجئون إلى مزارع جناكليس في البحيرة، فهل التوسل بالأولياء عبث، والالتجاء إليهم في الخطوب باطل؟. . .)

أنا يا سيدي المهاجر أعلم الدين، والحمد لله، علم الفقيه المجتهد، ولكني لا أزعم لنفسي درجة الإفتاء، على أن بين يدي الآن شيئاً يشبه الفتوى صدر عن أحد مفتي الديار المصرية في عهد مضى، أقدمه إليك لعل فيه بعض الغناء، في موضوع هذا الاستفتاء!

وقع في نفس المفتي أن شيخ الأزهر إذ ذاك سمى هو وحزبه بين الخديو وبينه حتى أفسدوا حاله عنده، فاستعدى عليهم سيدي أحمد البدوي بقصيدة رفعها إلى مقصورته الشريفة، بعد أن قدم لها هذه المقدمة الطريفة. ودونك المقدمة والقصيدة: (التجاء واستنجاد، برجل الفتوة طويل النجاد، وإمام الأولياء، وسراج الأصفياء، الغوث الأوحد، سيدي وولي نعمتي البدوي أحمد، دامت إمداداته، وعمت في الدارين بركاته

آمين آمين لا أَرضي بواحدةٍ ... حتى أضم إليها ألف آمينا)

أيرضيك يا غَوث الورى وإمامهم ... غَبينة أهل الحق والحق ظاهر

تعدى لئيم القوم واشتد بغيه ... وجاء بكل الحقد وهو يجاهر

أتى بالمعاصي مُعْلناً وهو يدعي ... مكانة دين قيم، وهو فاجر

وساعده حزب على شكله سعوا ... بكل فساد أوضحته الكبائر

فَضّلوا جميعاً عن طريق رشادنا ... وأزهرنا منهم غَدا وهو صاغر

فجئنا حماكم نرفع الأمر سيدي ... ونطلب دينَ الله والله ناصِر وأنتم إمام الأولياء ولا مِرَا ... وأنت غياث الملتجى وهو حائر

إذا كان يا مولاي أزهر ديننا ... تدور عليه في الضلال الدوائر

فأين يكون الدين يا سيد الورى ... وأين يكون العدل والعدل عاطر

فها قد بسطنا بعض شأن يزيده ... وثم أمور قد حوتها الضمائر

فمنها دخول في البقا وهداية ... لأقوم طرق الله وهي المفاخر

وصحة جسم للذين أحبهم ... كذلك لي في العز والعمر وافر

ونصر على الأعدا وجاه مؤبد ... وفوز مبين دائماً يتقاطر

وتيسير ما أرجوه من كل مطلب ... وسُكنى جنانِ الخلد حيث الأكابر

ورؤية خير الخلق جهراً بسرعة ... فها قد مضى عمري وقل التناصر

فقل يا طويل الباع هاقد أجبتكم ... لكل الذي ترجون والله جابر

وصلَّ على المختار ربي مسلماً ... كذا آله ما قام بالذكر ذاكر

كتبه عبد الإحسان الواقف بالباب،

الراجي سرعة الجواب:

. . . . . . . . . . . .

مفتي الديار المصرية

فأنت ترى أن فضيلة المفتي غفر الله له لم يقنع باستعداء السيد البدوي (سيد الورى) على خصومة، وإنما دفعه الطمع في فضله إلى أن يسأله الهداية، وطول العمر، وصحة الجسم له ولمن يحب، والنصر على الأعداء، والجاه المؤبد، وتيسير كل مطلب، ودخول الجنة، ورؤية النبي جهرة. . . فإذا كان سيدي أحمد البدوي قد استطاع أن يستجيب هذه الرّغاب، فليس أسهل عليه من أن يمن عليك برغيف وجلباب. ولكني أفهم من أسلوب استفتائك أنك ستقول: سبحانك ربي! هذا شرك عظيم. ولعلك تمعن في إنكارك فتزعم أن ما أصاب الإسلام من قبح القالة، وما حل بالمسلمين من سوء الحالة، إنما يرجع إلى ما ران على القلوب والعقول من أمثال الرسالة العليشية، والقصيدة الصدفية. ولكني أعيذك بالله أن تسرع في الحكم فتخطيء الصواب. والخير لي ولك أن تعلن سؤالك إلى العلماء وتنتظر الجواب

أحمد حسن الزيات