مجلة الرسالة/العدد 419/الله!. . .
مجلة الرسالة/العدد 419/الله!. . .
لشاعر الحب والجمال لامرتين
بقلم الأستاذ محمد أسعد ولاية
(لما وجه لامرتين هذه الأبيات إلى (لامنيه) كان يومذاك على اتصال به منذ أمد قريب حيث استهواه الباب الأول من بحث ديني في (النكران) عام (1817)، فأنشأها خلال رحلة قام بها علي جواد بين باريس وديجون في الأيام الأولى من مايو عام (1819). وهذه القصيدة التي ترتبط بنوع تعليمي تكاد تشتمل على أروع أبيات تحدد وتصف القدرة الإلهية، وينذر أن يستند الشعر الفلسفي إلى إلهام متقد إلى هذا الحد)
(إلى الراهب ف. د. لامنيه)
نعم، إن روحي لتبتهج بالتحلل من قيودها:
طارحة عِبْء البؤس البشري،
تاركةً حواسي تهيم في هذا العالم، عالم الأشباح،
حيث أصعد إلى عالم الأرواح بدون عناء.
هنالك أطأ تحت أقدامي هذا العالم المنظور،
وأرتع حراً في ساحات الخفاء.
إنَّ روحي لتضيق في سجنها الرحب،
إنني في حاجة إلى مقر لا أُفٌقَ له
كقطرة ماءُ صُبَّتْ في المحيط،
يستغرق الخُلدُ في كنفه تفكيري،
هنالك ملكة الفضاء والخلود
وهي تجرؤ على استكناه الزمن والعام اللانهائي
تقترب من العدم، وتطوف في الوجود
وتعرف من الله الجوهر الغامض بيد أنني حينما أريد تصوير ما أشهر به
تتلاشى جميع العبارات كمجهودات فاشلة،
تعتقد روحي أنها تتحدث ولساني متلعثم،
يصفع الهواء عشرين صفعة خيال تفكيري.
لقد خلق الله للأرواح لغتين مختلفتين:
في نبرتين تاريخيتين إحداهما في الهواء،
وهذه اللغة المحدودة معروفة للناس
وهي تفي باحتياجات المنفي الذي نحن فيه
وتتكيف طبقاً للضربات القاتلة من تقلبات القدر،
فتبدل مع الأجواء أو تذهب مع الزمن.
أما اللغة الخالدة الأخرى النبيلة الجامعة اللانهائية؟
فهي اللغة الموهوبة بجماع الذكاء:
ولم تكن قط نبرة مائتة تذهب هباءً مع الهواء
إنها تعبير حي يُسمعُ في القلب:
فهي تُسمعُ وتُشرحُ وُيتحدثُ بها مع النفس،
وهذه اللغة الشعورية تخلب وتضيء وتلهب
وليس للنفس لكي تُعبِّر عن خَطَراتها الملتهبة
سوى تنفس الصعداء والحماس والوثوب.
هذه هي لغة السماء التي تنطق به الصلاة،
ولغة المحبة المفعمة بالحنان في الحياة الدنيا
في المناطق الطاهرة حيث أحب أن أطير،
يبعثني الحماس أيضاً على كشف أسرارها.
هو وحده سراجي في هذه الليلة الظلماء،
وهو الذي يفسر لي العالم أحسن ما يفسره العقل.
تعال إذن! إنه دليلي، وأريد أن أخدمك.
على أجنحتها النارية تعال واختطف!
هاهو ظل العالم قد أمحى عن أعيننا.
إننا نهجر الزمن ونجول في الفضاء:
وفي نظام الحقيقة الأبدي، هانحن أولاء وجهاً لوجه أمام الحقيقة!
وهذا الكوكب الفرد، الذي لا زوال له ولا فجر،
إنه الله، هو رب كل شئ، الذي يقدس نفسه!
كل شيء من فضله: الكون والزمن،
ومن وجوده الخالد، جميع العناصر الصافية.
اللانهاية مداه، والأبدية عمره،
النهار نظرته، والعالم ظله.
جميع الوجود يبقى تحت ظل يده
فالكائنات الطافية على أمواج الأبدية التي تجري من فيضه،
كنهر يتغذى من هذا المنبع الذي لا ينضب له معين،
يختفي في ويؤول إلى الفناء، بينما كل شيء يبتدئ.
إن صنعه الكامل إلي لا حد له مثله،
يمجد حين يوجد، اليد التي صنعته:
يحشد الخلق في الخلد بين زفرة وأخرى،
فهو إذا شاء قال: كن فيكون.
كل شيء منه وإليه
إرادته المقدسة هي شريعته الإلهية
ولكن هذه الإرادة التي لا ظلَّ لها ولا خوَر،
هي في وقت واحد: القدرة والإرادة والعدل والحكمة.
كل ما عساه أن يكون يجري فق إرادته
وكذلك العدم ينهض بمقدار:
الذكاء والحب والقوة والجمال والشباب، هو قادر على منحها بلا انقطاع دون أن ينضب له معين.
وهو يغمر العدم بنعمة القيمة
وأقرب علامات وجوده أنه يستطيع أن يخلق آلهة!
ولكن هؤلاء الآلهة من صنع يده، والأبناء من قدرته،
من شأنهم أن يبرهنوا على وجوده الخالد،
وهم يميلون بطبعهم إلى الإقرار بوجود خالقهم.
إليه مرجعهم جميعاً وهو وحده الكافي!
هذا هو الله الذي تعبده جميع النفوس،
والذي دان له (إبراهيم)، واهتدت إليه بصيرة (فيثاغورس)
وأشاد بذكره (سقراط)، ولمس وجوده (أفلاطون).
هذا الإله الذي أظهر الكون للعقل حقيقة،
والذي تنتظره العدالة، ويرجو لطفه الشقاء،
والذي دعا إليه عيسى فوق الأرض!
ولم يعد من أثر للإله الذي تصنعه يد الإنسان،
ذلك الإله الذي عبر عنه النفاق الخاطئ،
ذلك الإله الذي شوهت حقيقته يد الكهنة الزائفين،
والذي كان يعبده أسلافنا السذَّج وهم يرتعدون
إنه وحيد. إنه واحد، إنه عادل، إنه حميد
ترى الأرض صنعه، وتعرف السماء اسمه!
سعيد من يعرفه، وأسعد منه من يعبده!
هو الذي، بينما الناس في جحود أو إنكار،
يظل وحده في مصاف مصابيح الليل القانتة،
ينهض في المحراب حيث يجتذبه الإيمان؛
ويلهج بالمحبة والشكران،
ويحرق روحه كالبخور في حضرته! ولكن لكي تصعد إليه أنفسنا المحطمة
يجب أن تمنح أعلى قوتها وفضيلتها.
ينبغي أن نطير إلى السماء على أجنحة من اللهب،
فالرغبة والحب هما جناح الروح
آه لِمَ لَمْ أولد في مستهل الخليقة البشرية؟
حين لم تكد تنتشر من بين يديه،
قريباً من الله قرباً زمنياً، وأكثر قرباً بالطهر،
حيث تناجيه الخلائق، وتسير في حضرته!
لِمَ لمْ أر العالَم منذ بزوغ شمسه الأولى!
لقد كان كل شيء يحدثه عنك، وكنت أنت نفسك تناجيه،
وقد كان الوجود يلهج بجلالك المقدس،
وكانت الطبيعة الخارجة من أيدي الخالق،
تنشر بكل المعاني اسم منشئها:
هذا الاسم الذي حجب منذ أجيال سحيقة،
فإذا به يتلألأ في روعة أكثر بريقاً فوق مبتدعاتك:
ولم يَتَطّلعْ الإنسان فيما مضى إلا إليك،
فكان يدعو ربه، وكنت تقول: (أنا هو)
لقد تفضلت فتعهدت بمناجاتك تعليمه زمناً طويلاً كما يتعبَّد الطفل،
وبعد زمن طويل اقتضت مشيئتك أن تهديه سواء السبيل
وقد تجّلت له عظمتك مرة،
في أودية سِنّار،
في حرج عُرَيْب بصحراء سينا،
أو على قمة الجبل المقدس
حيث أملي موسى على العبريين شرعيته الجليلة!
وهؤلاء أبناء يعقوب أول مواليد البشر، ظلوا يتلقون المن من يديك أربعين عاماً،
وكنت توقظ نفوسهم بآيتك الحية،
وكنت توحي أمام أعينهم بلغة المعجزات،
وعندما نسوك، تنزلت ملائكتك
وأعادت إلى قلوبهم الحائرة ذكراك.
ولكن أخيراً، كنهر بُعد عن منبعه،
ذهبت هذه الذكرى الصافية في سبيلها،
ومن هذا الكوكب القديم أخبا ليل الزمان المظلم المناطقَِ المضيئة تدريجياً.
لقد أمسكت عن المناجاة، فالنسيان ويد الأجيال
غفلا عن هذا الاسم العظيم الذي تتسم به بدائعك،
ولقد أضعف مرور الأجيال الإيمان،
ووضع الإنسان الشك بين العام وبينك.
نعم، هذا العالم يا مولاي قد أصابه الهرم بالنسبة لعظمتك،
لقد نسىَ اسمك وأثرك وذكراك
ولكي نستعيدها يجب علينا أن نمتطي من جديد نهر الأيام موجة فموجة.
أيتها الطبيعة، أيها الفلك! عبثاً تراكما العين.
وا أسفاه بدون أن يرى الإنسان الله يمجد المعبد،
إنه يرى وعبثاً يتتبع آلاف الشموس،
التي تجري في صحاري السماوات جرياناً عجيباً،
إنه لم بعد يعترف باليد التي تحركها.
معجزة أبدية لم تعد معجزة.
إنها تسطع في الغد كما كانت تسطع بالأمس!
من يدري أين تبتدئ طريقها الجليل؟
من يدري إذا كان هذا السراج (الإيمان) الذي يتلألأ ويثمر قام للمرة الأولى في العالم؟
إن آباءنا لم يشهدوا قط سطوع دورته الأولى، والأيام الخالية لا يعرف لها أول قط.
عبثاً توحي عنايتك الإلهية
تجليك في هذه التطورات العظيمة على العالم المعنوي،
إن من تدابيرك أن ينتقل صولجان الملك عبثاً
بين البشر من يد إلى أخرى،
إن أعيننا التي ألفت تقلبها،
قد جعلت من العظمة عادة فاترة،
وكم شهدت الأجيال
كثيراً من تقلبات القدر الذكرى!
لقد قَدُمَ الدورُ، والإنسان الجامد في غفلة
أيقظنا أيها الإله العظيم، أوْح وبدَّل العالم،
أسمع العدَم كلمتك المثمرة
لقد آن الأوان، فانهض وتجاوز هذا الهدوء الطويل
اخلق عالماً آخر من هذا الفضاء الآخر.
إن أعيننا الغافلة لتفتقر إلى مشاهد أخرى
وإنَّ نفوسنا الشاردة لتحتاج إلى معجزات أخرى
بدل نظام السماوات التي لم تعد تحدثنا!
واقذف بشمس أخرى لأعيننا الحائرة
حطم هذا القصر القديم غير الجدير بعظمتك،
أقبل، وتجل أنت - أنت سبحانك - واحملنا على أن نؤمن
ولكن ربما قبل الأوان حيث في صحاري السماوات
ستكف الشمس عن إنارة الوجود
ومن هذه الشمس المعنوية (الأيمان) قد انكسف الضوء.
وسيكف رويداً رويداً عن إنارة التفكير،
واليوم الذي سيغدو فيه هذا الصباح محطما سيُغمس العالم في ليل أبدي!
إذن أنت ستحطم ما خلقت.
وهذا الحطام المنهار سيردد عنك جيلا بعد جيل:
(إنني الوحيد! وكل ما عداني لا يستطيع الدوام! فالإنسان الذي ينقطع عن الإيمان، ينقطع
عن البقاء!)
(الإسكندرية)
محمد أسعد ولاية