مجلة الرسالة/العدد 42/الحركة الأدبية في ألمانيا بعد الحرب

مجلة الرسالة/العدد 42/الحركة الأدبية في ألمانيا بعد الحرب

مجلة الرسالة - العدد 42
الحركة الأدبية في ألمانيا بعد الحرب
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1934



للأستاذ ران

مدرس اللغة الألمانية بالجامعة المصرية

- 1 -

في سنة 1918 انهارت دعائم ألمانيا على اثر حرب اضطلعت بضرامها ضد عصبة متحالفة تفوقها قوة ومنعة. ومنذ سنة 1918 إلى سنة 1924 جازت ألمانيا غمر أعوام تفيض بالأزمات الداخلية والخارجية، فمن حروب أهلية، إلى صنوف من الذلة في السياسة الخارجية، إلى تدهور العملة، إلى جوع وقحط؛ وفعلت هذه كل شيء لتدفع الشعب المنكود إلى وهاد اليأس. وفي سنة 1924 استحالت شئون السياسة الخارجية إلى شيء من التحسن، وثبتت العملة، واندفعت ألمانيا في دهشة الصديق والعدو، إلى تقدم اقتصادي سريع، ولبثت حالتها المادية والمعنوية حتى وقوع الأزمة الاقتصادية الكبرى ظاهرة الثبات والاستقرار.

يقابل هذين العهدين من تاريخ ألمانيا السياسي، عهدان أدبيان مما بعد الحرب. فإلى سنة 1923، كانت تسود الثورة الأدبية والفوضى. وفي سنة 1924 بدأ عهد من الاستجمام والدعة والرجعة. وإذا كنا نلخص أحوال هذين العهدين - مما يلي الحرب - فإنا سنقتصر طبعاً على ذكر الأسماء والحركات التي ظهرت في هذه الحقبة ذاتها؛ وسنغضي عن ذكر كثير من الشعراء والكتاب الأحياء المعروفين، إذ قد ظهر معظمهم قبل الحرب؛ وما صنع عهد ما بعد الحرب سوى أن ثبتهم في مراكزهم، ومن هؤلاء ريكارد اهوخ، وجرهاردها وبتمان، وتوماس وهينرنخ مان، وغيرهم.

- 2 -

تعرف الحركة الأدبية الثورية في العهد الأول مما يلي الحرب عادة بأنها حركة (التعبير) وكان (التعبير) في الأصل أساساً لبرنامج جماعة من الرسامين ثاروا على فكرة (التأثير) في الرسم فاستعار الأدب من الرسم هذه الكلمة علماً له. وهي في الأدب كما في الرسم علم للثورة. وقد كانت بادئ بدء برنامج عصبة صغيرة من الشعراء والأدباء الذين حاولوا - شأن كل جيل - أن يمكنوا لطابعهم الخاص وآرائهم الخاصة، وان ينحرفوا في عنف أو هوادة عما للجيل المنصرم من مظاهر الطموح إلى الجمال. ومن هؤلاء بعض الشعراء الشبان الغنائيين الموهوبين (مثل الزه لاسكار شيلر، وارنست شتاتلر، وجود فريد بن، وفرانتس فرفل، وبخر وغيرهم) والى جانبهم بعض النقدة المنتجين الأقوياء مثل كارل اينيشتين ولودفج روبينر، وفردينايد هراديمويف. وظهر إلى جانب هؤلاء خلال هذه الحقبة أيضاً جماعة من القصصيين وكتاب المسرح مثل جستاف مايرنك مؤلف قصة (جولم) وماكس برود مؤلف (طريق تيشوبراه إلى الله) وكارل شتر نهايم، وليونهارد فرنك، وجورج كايزر، وارنست تولر، وفالتر هازنكلفر. بيد أن أهم ظاهرة في الحركة هو أنها كانت وما زالت غنائية في اتجاهها. بل إن (التعبير) كان يعني شهر النضال في سبيل الهام حر وطابع مطلق من كل قيد، أو بعبارة أخرى كان يعني ثورة العواطف والغرائز على أغلال عالم آلي مسير، وعلى الاتجاهات الفنية التي تصفدها قواعد العقل: تلك هي المبادئ التي دفعت بالحركة الأدبية سريعاً إلى الفوضى في الشكل والموضوع

كان الكاتب (المعبر) كأنه (فرتر) مبعوث، ولكن هؤلاء الثوار الجدد كانوا بالأخص يخالفون (فرتر) القديم في ميولهم الفنية كل المخالفة، على أن الميول الثورية أيام (فرتر) كما هي في ظل (التعبير) لم تكن تقف عند الفن. فقد كان البحث يتجه إلى طابع فني جديد، وكان يطمح إلى حق التدخل في أعمق ظروف الحياة الخاصة، ولكن الحركة كانت تتجه بعواملها الثورية بالأخص إلى تحطيم النظم الحكومية والاجتماعية والأخلاقية القائمة؛ كان هذا هو الجيل الذي ازدهر في معركة الطوائف قبل الحرب، وفي جحيم الحرب، وفي أحياء العمال، وفي ميدان الحرب؛ وما يكاد يعرف عالما غير عالم البطش والروعة؛ عالما يهوي الضعيف فيه إلى حضيض البؤس، ويبدو القوي عنيفا مطلق الهوى. وعلى هذا المنوال نشأت العواطف الأساسية لهذا الجيل، وهي عواطف رأفة ورثاء لضحايا هذا العالم، وعواطف طفولة، وعدم مسئولية نحو نظام اقتصادي عنيف ونظام سياسي قاهر أكثر عنفاً، وبالاختصار عواطف ثورة واستهتار. كذلك كان هذا الجيل يؤمن بالعاطفة الإنسانية التي شوهتها التقاليد والعرف. وبالخبر المحض الذي غاض في غمر من الكسل والخبث. وكانوا ككل الثوار الخياليين لا يرون في الحاضر ولا في التاريخ شيئاً غير بطش الدولة الجهنمية، وظلم الضعفاء، واضطهاد العقل والروح من طبقات سيدة لا ضمير لها ولا وازع.

وقد بدا لهم كما بدا لفوتر، أن الدين والعلم والفن قد زيفت لصالح الطبقات الغالبة. بيد أن هنالك فرقاً بين تكييف آلام الحياة في الماضي وبين تكييفه الجديد، وهي آلام تهم حركة (التعبير) فقد كان فرتر القرن الثامن عشر أيضاً يقطع علائقه مع مجتمع العصر وثقافته، ولكن بقيت له اللغة القومية، وكان يقيس خمول المجتمع بمقدار ما يضطرم في صدره من فيض البيان وعنفه، ذلك البيان الذي تلقاه من جيل إلى جيل. وكان يتلقى صلات الماضي البعيد المجيد، كما يتلقى من حاضره ما لم يغشه الفساد. وكان فرتر يرى نفسه في مرآة اللغة القومية النقية المخصبة، فإذا أخرسه الألم، أمدته بما يقول فيما يعاني. وقد بدت هذه اللغة القومية للشاعر الفتي الذي ظهر في نهاية الحرب مهيضة منهوبة، وألفاها طعمة للسادة الخاملين والطبقات الوسطى الراضية المسترقة، قد استحالت على يدهم إلى أداة خاملة خالية من المعاني

ولسنا نجد ما نقوله عن الطابع الشعري، فقد بدا شكله لهذا الجيل الفتي عليه العفاء مثلما بدت ظروف الدولة والمجتمع، وبدا له الجد والوقار كأنهما وضع مجرد منافق والجمال كأنه امتياز وضيع لرفاهة التجار الاغنياء، وان رنين العواطف قد غدا رنين لغط مجرد، أو غدا بلسما مخدرا

وقد اندفع الشعراء الغنائيون الجدد، بعوامل ترجع إلى الأحقاد الاجتماعية وإلى بعض مثل الجمال، سراعا إلى معترك من الفوضى اللفظية والفنية، ونشأ في ذلك المعترك رغم تناقصه مذهب لعبادة القبيح

وبدأ أولئك الغنائيون (المعبرون) بالخروج على كل قواعد النظم والروى وتنسيق العبارات، بل على قواعد اللفظ ذاته، وانتحلوا لأنفسهم لغة خاصة لم تكن اكثر من سلسلة طويلة من الزفرات المتقطعة والغمغمة والصياح، قد ضحى فيها اختياراً بكل منطق خارجي، وكل جمال ونبل في اللفظ، ويستحيل علينا أن نقدم هنا أمثلة، مثلما يستحيل علينا أن نترجم كتابات الفرنسيين أنصار الحقيقة المغرقة، أو شعراء اكسفورد المحدثين. ونضطر أن نحيل القارئ إلى الشعراء والكتاب الذين سبق ذكرهم. ففي هذا الضرب من الشعر كله في هذه اللغات، ينعدم كل تنسيق منطقي أو صوغ للجمال. بيد أن لهذا الأسلوب مزاياه في التأثير بما يقوم عليه من العناصر اللفظية الخاصة بكل لغة، وهي مؤثرات يفهمها كل إنسان يعرف هذه اللغة، دون أن يعني بشرحها أو ترجمتها

وقد ذهبت الثورة على المبادئ والقواعد المرعية إلى حد اقصد إلى معالجة القبيح الشاذ. نعم استعمل أولئك الشعراء الروى والقافية ولكن دون شكل ولا قاعدة، بل حولوا الوزن والتناسق إلى خلل وتنافر. ولم يكن شعر هذا العصر يمتاز فقط بالتحلل والغموض، ولكن يمتاز أيضاً بنوع من الضيق والقبح والشناعة. وليس هذا فقط فيما يتعلق بحرية التعبير، بل هو كذلك يتعلق بالميل إلى ذلك التبسط العنيف القبيح، والى ذلك اللفظ الضعيف المغصوب، فقد كان هذا الميل هو طابع الإنشاء

ويرد أنصار (التعبير) على ذلك بأسباب يرجع بعضها إلى الطموح إلى الجمال، فيقولون إن الأمر يتعلق بتجارب لفظية وصور فنية للأشياء أهملت ولم تطرق من قبل، ويرجع البعض الآخر إلى العاطفة وفلسفة التاريخ حيث يقولون أن البيان الذي أتى به عصر محطم ممزق يجب أن يقوم على شيء من الخلل والقبح والهوس، وان ميلاد عصر جديد، أو إنسان جديد كامل يقع دائماً في غمار الألم والقبح. ثم يقولون إن عين العصر الحاضر كعين ساكن جهنم في أسطورة أفلاطون لابد أن ترى اليوم قبيحاً، ما يراه عصر جديد، أنقى الانطباع والجمال.

- 3 -

وما كان ذلك كله ليرضي غير طائفة قليلة من المفكرين الخبثاء أو الذين لا خلاق لهم. ولو لم تكن الحرب وما بعد الحرب لبقيت الحركة محصورة في هؤلاء. ولكن هذه المحاولات التي كانت تقصد إلى عدم المساس بالأذواق والمظاهر الشعبية في الفن والأدب بل تقصد إلى إثارتها، استطاعت بسبب انحلال العصر واضطرابه أن تغزو أوساطاً عظيمة

ذلك أن الرجل العادي الذي فقد صوته في جحيم الخنادق وذعر الهزيمة؛ ألفى في هذه الموسيقى الثورية المضطربة بيانه الطبيعي وبدا الأسلوب الجديد الذي صيغ سراعا في صوت الملاك، أو صوت الحيوان، ولكن لم يصغ قط في صوت الإنسان الأمثل، في نظر الجموع، أنشودة أولئك المساكين الذين كانوا يرقدون نصف عراة في الخنادق لا يفكرون في غير حياتهم، أو أنشودة أولئك المشردين المنبوذين الذين كانوا أيام الجوع يبتهجون بافتراش الغبراء وأكل الأعشاب. وقد كانت الجماهير الزاخرة، ولا سيما جمهرة المتعلمين تعتقد أن الزمن سيدور دوره. وكان الاعتقاد عميقاً سائداً بأن البراءة ستأتي أو سيأتي عصر تنهض فيه الأحوال الأخلاقية والاقتصادية. وهكذا حظيت هذه العوامل التي بعثت الخيال الجديد بظلامه وخفائه وحماقته بتأييد الجمهور. ولعل الرسالة كانت أقوى من فهم الشعراء أنفسهم وأقوى من ثروتهم اللقطية؛ وكان ثمة اعتقاد بأنها رسالة رسل أو أنبياء. ألم يكن ثمة دليل على عمق الرسالة حين تحطم الإناء تحت ثقل ما فيه؟

- 4 -

ولقد كان ذلك الخيال الذي أقامته حركة (التعبير) ضد (التأثير) والذي كان يعم من الوجهة النظرية لصوغ الحالة النفسية من جديد، وينكر كل استقلال خارجي، بل كل شرعية خارجية وكل شكل وضعي، يلتقي مع ذلك بحاجة للوسط الذي يعني بالفلسفة، هذا إلى تلك الحساسية الدقيقة التي أذاعتها في الطبقة الوسطى فلسفة (فرويد) النفسية والتي اتجهت نحو تصوير الغرائز المضطربة والمثل النفسية

وكانت الفلسفة الألمانية الرسمية، منذ فاتحة هذا القرن تتجه بلا ريب إلى معارضة الفكرة الواقعية، أولاً على يد الأشكال المعتدلة للفلسفة الكانتية ومنذ سنة 1910 ظهرت حركة واضحة تميل نحو فلسفة واقعية روحية (وقوامها فلاسفة مثل، مينونج وهوسرل، وبعض تلاميذ مدرسة ديكرت، وحركة الأحياء الهجلية، وهنز دريش وغيرهم) بيد انه قلما كان يفرق أحد بين الواقعية والآلية، فكانت كل هذه الميول تتجه إلى إنكار الشكل والمقدار سواء في الطبيعة أو البيولوجيا أو الاجتماع.

وكانت الحركة الوطنية قبل الحرب بل وأثناء الحرب أيضاً، تعضد هذا الاتجاه، وكانت ترى في تراث أجست كونت وجون ستوارت ميل، ثقافة خصيمة تجب محاربتها. ولكن بتقدم الميول الروحية ارتد المفكرون إلى الفلاسفة الألمان القدماء: ايكهارت، بيمي، وفختى، وشلنج، وهجل

ومن اليسير أن نبرهن على أن دعاة نظرية (التعبير) قد استقوا من هذه الميول، سواء من الوجهة الشخصية. أو الوجهة المادية. بيد أن الحركتين كانتا تسيران جنباً إلى جنب في محاربة الآراء الغربية كما وضعت غالباً، وكانتا تطاردان نفس العدو في مواطن كثيرة. فمثلا نعرف جميعاً أن حركة (التأثير) التي تقاومها حركة (التعبير) كانت تتصل أوثق صلة (بالواقعية) الفرنسية وكانت الرواية والقطع المسرحية الألمانية التي أثار عليها (التعبير) أيضاً حربه العوان، في العشرة أعوام الأولى من القرن الحالي، تستقى إلى حد كبير من التعاليم الطبيعية الجبرية والاجتماعية

بيد أن الفلسفة والفن الجديد كانا يلتقيان في تمثيل (الواقعية) أما حركة (التعبير) فكانت تجعل من (الوضعية) وصوغ العبارة محور فنها، وكان الفلاسفة الجدد من جانبهم يمثلون الميل إلى تصوير العالم في صورة تفيض فيها الجوانب المادية، وتتأثل فيها العناصر المعنوية: أعني الفكرة والروح والحياة، أو تكون لها قواما

- 5 -

ثم إن هذه الرجعية الروحية في الفلسفة قد اتخذت صورا ومناحي شتى فبدت أحياناً في الأشكال الصارمة لنظرية المعرفة والمنطق. وأحياناً في ميدان الاجتماع، وطورا في ميدان النظريات الفنية، وأحياناً في مباحث الخفاء. وهكذا استطاعت أن تمد الفن الجديد لا بنظرياته العلمية فقط، بل استطاعت أيضاً أن تمده بالصورة العالمية التي ينشدها

ولقد ظهرت هذه الآثار واضحة في الرواية والقطعة المسرحية اللتين أخرجتهما حركة (التعبير) فكلتاهما انحدرت إلى غمار الخيال المغرق. وفي عوالم محطة أو ممزقة مهلهلة يبدوا فهيا الشغف بما وراء الطبيعة، وما وراء النفس والعناصر الشيطانية الخبيثة. فأما الرواية، فقد عالجت الحوادث الخارقة، وقصص الأشباح، وأشخاص الهائمين في العالم. والعلم بالاتصال بالله؛ وكذا تشبهت الرواية بالأدب الروسي في معالجة قصص المجرمين الذين يتصفون بالصلابة الخارقة أو يزعمون الإلهام من الله، والقضاة ذوي الكبر والقلوب الغليظة، والمذنبين التائبين الذين هم أصفى قلوبا ونفوسا. وأما الرواية المسرحية فقد رسمت صور الشقاء للمعدمين الأطهار، ورسمت على العموم صورة الكفاح المتناقض بين الفكرة المستنيرة والمادة المظلمة، وشرحت الأسباب القديمة المعادة لعقوق الابناء، ومعركة الضمير التي تضطرم في صدور الشبيبة الديموقراطية السلمية التي تتنبأ للعالم بمستقبل عظيم زاهر في ظل النظام الجديد، وصورة المناظر المغرقة لمدنية عظيمة ذات معترك من الحقيقة والظاهر، والغنى، والفقر، والتسول، والمال، والرذيلة، والعالم الخفي، والعالم الأنيق، كذلك عادت الرواية المسرحية إلى معالجة موضوع القصص الدينية القديمة. ومن الصعب أن نقول إلى أي حد ترجع هذه الصور والمسائل إلى أثر الفلسفة والتيوسوفية، والى أي حد تمثل فقط الحقيقة المروعة لأيام الحرب وما بعد الحرب، وعلى أي حال فقد كانت الحقيقة هي أعظم غذاء لهذه الآثار كلها. فلما تغيرت هذه الحقيقة في سنة 1924 غاضت هذه الآثار كما يغيض الطيف. أما في دوائر الأدب الرفيع فقد اضمحلت الحركة منذ سنة 1922، وكانت في الواقع ظاهرة الفراغ. ذلك أن الدأب على تصوير ضعف الأخيار وبؤسهم، وكونهم يكافحون في عالم قاس أضحى نغمة قديمة مضحكة بغيضة وغدا الاشتقاق من العالم الخفي ومجتمع الفقر والرذيلة فناً سهلاً وغدا يشف من ثمرات كل عام عن ضعف ذهني سيئ. أما الرجال الذي عنوا بمعالجة مشاكل هذا العصر فقد توفروا على دراسة الاقتصاد والتاريخ والفلسفة. ومن ثم فقد انهارت دعائم هذه الحركة التي قامت فطيرة مغرقة. وكان أسلوبها الذي غفل عن الصقل والغاية أحب الأساليب إلى العاجزين. وهكذا سرعان ما غدت حركة (التعبير) لا تعني شيئاً سوى (الفقر الأدبي).

- 6 -

بيد أن العصر الجديد (منذ سنة 1824) عاد فأخذ يتلمس طريقه إلى التقاليد القديمة في حذر بل في روعة. ولما توطدت دعائم الظروف الاقتصادية عاد العمل والحياة فاستقاما ببطء، وعادت الأرزاق الدنيوية تسترد مكانتها وقوتها بعد أن غدا الحصول عليها ممكناً. وغاض الشعور بأن كل شيء يضطرب ويهتز؛ وأخذ الإنسان ينظم شأنه في العالم، وكان لذلك أثره في تقدم الآداب ما بين سنتي 1924 و 1930.

عاف الإنسان الأحلام، وأخذ يقدر الحقائق ويقدر أساتذة الكتاب. وسئم الإنسان الاتهامات الخطيرة وكذلك الوعود التي ليست أقل منها خطورة وعاد يروض نفسه على تذوق العواطف الطبيعية وعلى تقديم الجهود المحدودة ولكن السليمة. أجل، سئم الإنسان إغراق العصر الذاهب وقبحه، وأخذ يقدر احتشام العاطفة وقيمة البيان، وقضى على ذوي الغي والقصور وعاد الإنسان يطلب الصقل والتهذيب.

وإن الإنسان ليشعر في هذه الأعوام الأخيرة إلى أي حد كان أولئك الناس يغرقون في استعمال العبارات الجريئة؛ ولقد غاضت الرغبة كما غاضت الجرأة في تحري الصور الجديدة أو العنيفة أجل، كان عصر الرجعة، وعصر استرداد التقاليد الأدبية التي خلفتها القرون ولم يكن عصراً ضعيفاً ولكنه أيضاً لم يكن مضطرباً ولم يكن يتلمس طريقه في الظلام.

ولم يكن هذا الجيل أيضاً من الوجهة الخارجية جيلاً جديداً حل مكان الجيل القديم، ولكنه كان طائفة من عمر الجيل المنصرم نضجت في سكينة أو كانت أقدم وأطول عمراً. ونحن نمثل لتلك الطائفة بقصصيين مثل هانز كاروسا، والبرخت سيفر، ويوسف بونتن، ويوسف روت وأرنولد تسفايج. . فهؤلاء فياضون بالرجولة، بل انهم يبدون أحياناً شخصيات هائمة: وهم قديرون على أن ينسجوا من حوادث الحياة اليومية صوراً ينفذون إلى أعماقها ويصوغون منها اللآلئ التي توجد في كل حقيقة وفي أصغر حقيقة. وهم كتاب حقيقة، ولكن جردوا من كل النظريات الفلسفية والاجتماعية. هم كتاب قصص، وكتاب قصص فقط، لا يتجنبون المدهش الخارق ولكن ليس لديهم ما يحول دون قصده وتحريه. فإذا قصدوه تناولوه بحذر، بل بإحجام كشيء تتأثر له حقاً، ولكنه ليس مما يجب أن يكون لنا. فمثلا كتب كاروسل مذكرات عن الحرب، ولكن كل ما يورده فيها من خطوب الحرب لا يكاد يبدو بين ثنايا القصص ووصف الحوادث اليومية

كذلك كان حال الشعر في هذه الفترة؛ ونستطيع أن نمثل لها برتشارد بلنجر أو بفيلكس براون. وقد عيب على هؤلاء أنهم يغرقون في التعلق بالطبيعة، بيد أنهم لجأوا في التعبير إلى ذلك البيان الفني الذي ازدهر جيلا بعد جيل، وفيهم يشعر الإنسان بأثر شعراء المدرسة القديمة مثل جورج، وهوفمانشتال، وريلكة. ولقد كان لأولئك الشعراء القدماء شيء من لون النبوة، ولكن الشعراء الجدد تنقصهم الصياغة الفنية وكذلك كل ما يدخل في عالم التصوف أو الدين. وشعرهم صور قصيرة، ولكنهم يجانبون ذلك الغي الواضح، ويبدو في شعرهم هوى الفن والعناية بصقل العاطفة، والحرص على صوغ البيان.

وإن هؤلاء لأنبل من يمثل هذه الفترة، ولكن يوجد إلى جانبهم من يمثل الحقيقة، الخشنة، فمثلا توجد طائفة من القصصيين مثل برنو فرنك والفريد نويمان، ترعى قصص المخاطرات والعجائب، وهؤلاء يهتمون بالوقائع قبل الشكل. بيد أنهم رغم التعلق بالخوارق والمدهشات، كتاب حقيقة، لأنهم ليسوا ككتاب القصص (المعبرين) يبحثون عن المدهش في عالم من الخفاء، بل يلتزمون جانب الواقع، ويستمدون المدهش من شغف خالص بالواقع، ويستخرجون من الواقع قصصهم وغالباً أشخاصهم العنيفة المدهشة

ونستطيع ان نضع بين هؤلاء اميل لدفيج، فهو يميل إلى الخوارق والمدهشات، ولكنه يصوغها في أسلوب عادي، بل أحياناً في أسلوب ركيك مبتذل.

وينتمي إلى هذه الحقيقة الخشنة، أيضاً كتاب قصص الحرب المتأخرين، الذين نالوا حوالي سنة 1930 شهرة عالمية، ونذكر من هؤلاء رين، وجليزر، وريمارك. فان كتبهم إنما هي وثائق، ولكنها ليست رفيعة من ناحية الفن الأدبي

ويجدر بنا أن نشير أيضاً إلى كاتب مستقل اللون ولكن يتصل بحركة التعبير، وهو الفرد ديبلن، وهو طبيب اجتماعي في برلين، ففي كتابه المسمى (برلين ميدان اسكندر) يصور وقائع حياة عامل نشأ في بيئة المدينة على نمط سينمائي، متأثراً في ذلك بأسلوب جيمس جويس

- 7 -

وإنا لنصارح القارئ بأن ما أوردناه عن الحياة الأدبية الألمانية بعد الحرب لا يكفي إلا لشرحها بصورة موجزة جدا. فإذا كانت حركة التعبير قد اضمحلت وعفت بسرعة، وإذا كانت النزعة الجديدة إلى الحقيقة برغم ما أنتجت من مواهب قليلة لم ترتفع إلى اكثر من مستوى متوسط، فليس علينا أن نعتقد أن الحياة الأدبية في هذه الفترة كانت ضئيلة. ولقد تحدثنا فيما قبل عما وجه من الاهتمام ولا سيما من جانب الطبقات الوسطى إلى مسائل هذا العصر الفلسفة والسياسة، وقلنا أن حركة التعبير لم تصمد لأن مناهجها لم ترق في عين المفكرين الحقيقيين، وأنها اتخذت للتعبير عن الأزمة الفكرية التي هزت أركان بلاد العالم كلها بلا استثناء، وهزت الرأي العام الألماني حتى بعد سنة 1924 بما اقترن بها من الضغط السياسي والاقتصادي.

ولقد كانت المصائب المادية التي ترتبت على الهزيمة سبباً في أن هذه الأزمة العقلية وقعت في ألمانيا قبل أن تقع في غيرها من أمم أواسط أوربا وغربها وفي أنها ربما كانت أعم وأعمق أثراً. اجل لقد حولت هذه الهزيمة ألمانيا في بضعة أشهر من أقوى دولة في أوربا وأحسنها نظاماً إلى بلد يمزقه الجوع والحرب الأهلية، وقد بينا أن حركة التعبير إنما كانت ثمرة لما وقعبألمانيا من تحطيم جميع الملكيات والضمانات وانهيار الطبقات، وتحطم جميع مثلها الوطيدة، وهي ريح لم يقف عصفها بالجندي المحارب، ولكنها شملت جميع السكان قاطبة. كذلك كانت هذه المصائب سببا في حمل جميع الطبقات خلال هذه الأعوام، على الاهتمام بالدين والفلسفة والسياسة. ولما أن ثقلت هموم الحياة، لم يبق للفن سوى القليل، وهذا هو السر في كون هذه الصورة التي قدمناها من قبل تبدو ضئيلة عجفاء، كذلك الحركة العلمية عانت من هذه الظروف، فقد كانت من قبل تجد في ألمانيا تحت تصرفها احسن القوى، ولكن أولئك الرجال ألفوا أنفسهم عندئذ يواجهون تلك المسائل الفكرية والسياسية التي لا تدع بعد مجالا للعمل الهادئ المنظم، وغدا من الضروري قبل أن يستأنفوا عمل الجيل القديم ويسيروا به أن ينظموا أراءهم العلمية وأن يجربوها من جديد. كذلك تطور كثير مما يتلقاه الطالب في الجامعة من العلم الوضعي ولم يبق ذا أهمية علمية فقط، بل غدا أيضاً ضروريا لمعالجة المسائل الماسة التي أتى بها الحاضر. صحيح أن الألماني الفتى كان يهضم العلم كما كان يهضمه من قبل، ولكن لا ليسير في البناء بادئ بدء، بل ليجد لنفسه مكانه الخاص في ذلك المعترك الفكري

كانت تقوم في كل مكان جماعات عاملة تضطرم جميعاً بهذه المسائل التي لا نهاية لها؛ واقترنت بقيامها حركة أدبية معينة؛ كذلك لا يكاد يوجد اليوم في فرنسا أو إنكلترا كاتب كبير لم يشترك بكتاب وضع أو أكثر في معالجة المسائل التي شغلت ذلك العصر. كذلك اشترك جميع الكتاب الألمان الذين ظهروا قبل الحرب بهذه الوسيلة في معالجة مسائل ما بعد الحرب؛ وكان ذلك نذير التجدد والفتوة. كذلك تحول كثير من هؤلاء الكتاب من روائيين متشككين إلى نوع من العطف والاشتراك في الشعور مع معاصريهم ونذكر بعض هؤلاء؛ فقد عنى (هرمان هيسه) مثلا بمشكلة الشباب وعنى (يعقوب فاسرمان) بجموح الطبقات الوسطى الجديدة وغطرستها وعنى (اوتوفلاكه) بأزمة الزواج، وعنيت (ريكاردا هوخ) بشرح صور الإخلاص والتصوف الألماني بطريقة جديدة. واخرج توماس مان، القصصي الشهير ما قبل الحرب، عددا من القصص الصغيرة التي لا موضع للكلام عنها هنا، وهي في مستوى إنتاجه قبل الحرب. بيد انه إلى جانب ذلك تحدث إلى أمته حديث المربي، وقد عرفته من قبل وصافا للأسر الذاهبة والشخصيات الضعيفة. وتحدث بشجاعة ولكن بتحيز دائماً عن (ضرورات العصر) مشيرا بذلك إلى المسائل الشائكة الخاصة بنظام الدولة والمسائل الخارجية وكذلك معنى النفسية الجديدة؛ وتحدث بالأخص عن تقاليد الفن والحياة؛ عن تراث القرن التاسع عشر كله من جيته إلى فاجنرونيتشه ثم إلى الروس. وفي سنة 1924 ظهرت روايته التهذيبية الكبيرة (جبل الساحر) وهي رواية في الظاهر فقط، ولكنها في الأصل صورة لأوربا في أحوال صمتها ومرضها ونقاهتها، وضعت في شكل مناقشة بين جماعة من الشخصيات الأوربية ذهبت بسبب المرض أو غيره إلى آكام دافوس (في سويسرا).

- 8 -

كذلك اشترك في هذا الجدل علماء مثل ماكس فيرومكس ترلنش. بيد أنه قد اضطلع بأعظم قسط من هذا الجدل طائفة من الشخصيات ليست من رجال العلم ولا من رجال الفن، ولكنهم كفلاسفة مستقلين استخلصوا جميع التقاليد، وتحدثوا عن طوالع العصر على نحو ما فعل تاين في فرنسا عقب كارثة سنة 1870. ومن الحيف أن نصف هؤلاء الرجال بأنهم فنانون أو علماء، فقد فسروا العلوم الطبيعية والتاريخية في عصرهم بطريقة فلسفية سياسية. ومثل هذه الجهود لا يمكن أن تخلو من العيب، فهي تتطلب كثيرا من المعارف الشخصية وقوة التناسق، والنظر إلى الحقائق ومقدرة كبيرة على التنبؤ: بيد أنه إذا كان الشخص المستقل يبالغ في تقدير كفايته في هذا الميدان، فكذلك يجب ألا ننسى أن مرحلة التطور لا يمكن أن تحل دون أن تبذل هذه الجهود للتطلع إلى كل شيء

ونستطيع أن نذكر ماكس شيلر، ولدفيج كلاجي، بين الذين أسسوا فلسفة جديدة في علم طبائع الإنسان

وقد كان كتاب أزوالد شبنجلر (انحلال الغرب) أشد ما يمثل هذه الطائفة. وهو كتاب أسوأ ما فيه عنوان. وقد اعتبر مع ما فيه من العيوب أعظم حادث أدبي في الحركة الأدبية الألمانية بعد الحرب

وفي هذا الكتاب يدرس شبنجلر قوانين النمو والانحلال في التاريخ، ويشرح بصفة عامة الأشكال التاريخية بأسلوب الدرس المقارن في العلوم الطبيعية في أصول الاصطلاحات الخاصة بالنبات والحيوان، ويتناول في بحثه كل ما يتصل بمصير الإنسان وطالعه، سواء من ناحية الدولة أو من ناحية المجتمع، وكذا من ناحية الفنون والعلوم الرياضية بنوع خاص. ويعتقد شبنجلر أنه قد استطاع بهذا العرض أن يطلع مواطنيه على المكان الذي يستأنف من التاريخ سيره، وعلى واجبات العصر الذي سيلي، ومصاير القرن الآتي. بيد أن شبنجلر لم يكن بالطبع أستاذاً في جميع العلوم التي تناولها بحثه، ويستطيع الإنسان دون جهد أن يحصي عليه الخطأ في كل خطوة. وقد أنكر العلم والفلسفة كتابه، ولكنه يعتبر مع ذلك إنجيلا لعصره وفيه مزايا لا تنكر. وإذا كانت روحه ثقيلة الوطأة، فأنه في ذاته مسهل الآراء، مبسط العلم، ذو بيان سلس قوي. كذلك يعتبر الكتاب من الناحية المعنوية قوي الحجة ينم عن أبدع الخواص الألمانية. وقلما أنكر على الألمان انهم يعرفون كيف يواجهون القدر المحتوم مواجهة الأبطال، فكتاب شبنجلر ينفس من أوله إلى آخره هذا الرضوخ الرفيع الرائع للقدر

والى جانب شبنجلر نجد الكونت كايزرلنج مؤسس أكاديمية الحكمة في (دارم شتات) وهو محلل قدير لحضارات العالم وأديانه وفي مذكرات سياحاته: وفي دراساته عن أمريكا وعن الشعوب الأوربية نجد نوعا من دائرة معارف تتناول كل المسائل التي تهم الألمان بنوع خاص والأوربيين بنوع عام، منذ أن قربت السياسة الحديثة والاقتصاد الحديث بين تقاليد القارات العظيمة ورسالاتها وهذه الدراسات صورة قوية لكفاح الشباب الألماني ضد مؤثرات العالم الخارجي. ففي مئات الكتب وفي آلاف الجماعات، يتجه البحث إلى بيان أصل الإنسان، وما له من ماضيه الخاص، وما كسبه من الأمم الأخرى. وقد ظهر أثر هذه البحوث في المسائل السياسية وكان يشتد كلما تقادم العهد على الحرب، وذلك في نفس الوقت الذي تطورت فيه الحركة الأدبية من التعبير إلى الحقيقة، وأخذ الاهتمام يتجه من التحليل والمباحث الدينية والمثل الخيالية إلى ناحية الماضي القومي والى ناحية الشئون السياسية والعملية

ولا يسمح المقام بأن نصف هذه الحركة في دقائقها ولا أن نتتبعها إلى يومنا، ذلك أنا لا نستطيع أن نغضي عن العنصر السياسي تمام الإغضاء. فمن الواجب أن نبين مثلا أي قوى غنمتها المثل الخصيمة للديموقراطية، وكيف أن التقاليد الأدبية، والتصوف الأدبي الجديد، مالت إلى جانب الأحزاب غير الديموقراطية.

وقد كان مما له أهمية سياسية أن الطوائف الحرة ذاتها كانت تتلقى المؤثرات الأدبية الرفيعة القوية التي تهيئها لإنشاء مجتمع جديد غير ديموقراطي متدرج في الطبقات وإلى نظم جديدة للدولة.

ولا يسعنا قبل كل شيء أن نغض عن الأثر الذي خلفه شتيفان جورج، وهو شاعر كبير ذو مكانة هامة نبغ قبل الحرب، ولكنه لم يرتفع إلى ذروة التأثير في الطبقة الرفيعة إلا منذ الحرب، ولو شئنا أن نصف آثاره المنظورة وغير المنظورة لاقتضى ذلك فصلا بأسره، وآثاره فنية وأخلاقية وسياسية، فلنتصور شاعراً مضطرم الشاعرية ذا أسلوب صارم في نفس الوقت، كأنه في دائرة فنه نوع من القسس يعمل بروح القس. أجل لنتصور قسا كأولئك القسس الذين عاشوا منذ أربعة آلاف عام في مصر، وكان لهم إلى جانب التأثير الكهنوتي، أثر سياسي. ولقد لبث أثر شتيفان جورج السياسي خفياً غير منظور. أما أثره الفني والأخلاقي فيبدو بالعكس منذ عشرة أعوام في كتب تلاميذه. ونذكر على سبيل التمثيل كتاب جوندولف عن جيته وكتاب برترام عن نيتشة

- 8 -

ولا يدرك سوى أولئك الذين عاشوا خلال هذه الحركات المتباينة وعملوا معها. كيف أن العصر لم يكن خاملاً ولا مندثراً، وليس من الحق أن نصر على أن العصر كان خلواً من الآثار الأدبية الرفيعة. وإذا كان هذا العصر ينقصه التناسق وتنقصه العبقريات الأدبية الممتازة، فذلك يرجع إلى أنه عصر جدل شاق بين المثل القديمة والمثل الجديدة. وفي غمار هذا الجدل الذي اشترك فيه كل إنسان سر طرافته، بل وسر عظمته، وسنرى في المرحلة المقبلة. إذا كان عصر تعليم وغرس لجني جديد.

كتبت للرسالة خاصة

(ترجمها) (ع)