مجلة الرسالة/العدد 42/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 42/العُلوم

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1934



ويسألونك عن الأهلة

للدكتور احمد زكي

الأهلة مواقيت

كذلك ارتآها العرب، وكذلك ارتآها الأقوام من قبل ومن بعد. دارت الأرض فاختلف الليل والنهار، وانتظم دورانها فثبت يومها فكان وحدة الزمن الطبيعية الأولى. ودار القمر حول الأرض فصغر في ظلمات الليالي مرآه حتى انعدم. وكبر حتى استكمل فاستدار، وعرف الناس ثباته على ذلك، وثبات ما يمضي بين انعدامة وانعدامة، أو استدارة واستدارة، فاتخذوا من ذلك وحدة زمنهم الطبيعية الثانية فأسموها شهراً. ثم طلعت الشمس عليهم من المشرق، وأخذ يُشمل مطلعها حتى بلغ الغاية في الاشمال، ثم أخذ يُجْنِب حتى بلغ الغاية في الاجناب، وأختلفت بذلك الفصول فاحترْت حتى بلغت غاية الحر، ثم ابردت حتى بلغت غاية البرد، ودام هذا الاختلاف وثبت وانتظم، فوجد الناس فيه وحدة زمنهم الطبيعية الثالثة الكبرى فأسموها العام

وكان لابد لوحدات القياس أن تتناسب، وكان لابد أن تقسم بعضها بعضا، وان تنقسم بعضها ببعض، فلما تلمسوا ذلك عند اليوم والشهر والعام، وجدوها لا تنقسم انقساماً صحيحاً، وحاولوا التأليف بينها فاستطاعوه بين اليوم والعام بالبسط والكبس، فكانت السنة البسيطة، وكانت السنة الكبيسة، واستعصى عليهم تأليف ما بين الشهر والعام، ما بين القمر والشمس، فانفردا كل بتقويم، فكان التقويم القمري، وكان التقويم الشمسي، وتنافس التقويمان، وكانت الشمس أصل الحياة فاتفق تقويمها وحوائج العيش فشاع وذاع، واستقر التقويم القمري حيث كان لابد أن يستقر، فكان لتوقيت الصوم والحج وصنوف العبادات وبالرغم من أن التقويم الشمسي يعتمد على اليوم والعام فحسب، فانه لم يستطع أن يغفل الوحدة الثانية المتوسطة التي خلقها القمر، أعني الشهر، أرغمه عليها ألفة الناس لها وحاجتهم إلى وحدة تقع من حيث طولها بين اليوم القصير والعام الطويل.

كذلك خلَّف القمر في لغات الأمم أثرا من معنى ما استُخدم فيه من قياس الزمن. فقد اسماه الإنجليز (مون واسماه الارلنديون (ماي والألمان (مُند والغوطيون (مينا والإغريق (ميني والهنود القدماء (ماس واسم الشهر في الإنجليزية (منث وفي الألمانية (مونات وفي الفرنسية (موا وفي الغوطية (مينوبس وفي اللاتينية (منسيس وفي الإغريقية (مين وفي الهندية (ماس فبين اسم القمر واسم الشهر في اللغات تطابق تام أو تشابه كبير. ويظهر أن هذه الأسماء جميعها مشتقة من اللغة الهندية (ما) ومعناها (يقيس) وذلك أن القمر به يقاس الزمن، من هذه اللفظة نفسها لاشك يرجع اشتقاق الكلمات الإفرنجية التي معناها (مقاس) وهي بالإنجليزية وبالفرنسية وبالألمانية وباللاتينية وبالإغريقية ومن اللفظة الأخيرة (المتر) المعروف

دوران القمر

ومن المشهور المعروف أن القمر يدور حول الأرض، فإذا هو وقع بينها وبين الشمس، أضاءت الشمس منه النصف الذي يليها، فأظلم بذلك النصف الذي يلي الأرض فلا يرى الإنسان من القمر شيئاً، وهذا هو المحاق أو أول الشهر. ثم يسير القمر سيرته، فإذا بلغ الموضع المقابل للموضع الأول توسطت الأرض بينه وبين الشمس أو كادت، وعندئذ تضيء الشمس منه النصف الذي تراه الارض، فيظهر لنا كأن القمر كله يضيء وما هو بذلك، وهذا بدر التمام. وبين المحاق والتمام ينزل القمر منازل بين هذين، فيها يضيء الشمس منه أنصافاً لا ترى الأرض منها إلا أبعاضا هي الأهلَّة، فإذا زاد هذا البعض على نصف دائرة قارب البدر التمام فارتأته العين منقوصاً قليلا. ويسير البدر من التمام إلى المحاق فتتكرر الظواهر السالفة معكوسة، وبذا يتم الشهر

وفي الأهلة يرى الإنسان الجزء المعتم من القمر كأن نورا ضعيفاً ينيره، وذلك أن الأرض تعكس ضوء الشمس إلى القمر كما يعكس القمر ضوءها إلى الأرض، فلو أن للقمر أهلا يسكنونه لأسموا أرضنا هذه قمرا، إلا أنه أقمر وأسطع كثيرا من قمرهم، فقد يبلغ المعكوس منا إليهم خمسين ضعفاً

والأرض تدور حول الشمس في مستو، والقمر يدور حول الأرض في مستو غيره، إذ لو دار الثلاثة في مستو واحد لانكسفت الشمس في كل محاق، وانخسف القمر لكل تمام. ويميل المستوى الذي يدور فيه القمر عن المستوى الذي تدور فيه الأرض بنحو خمس درجات

ومن يرقب الأهلّة يعلم أن قرني الهلال لا يستويان على الأغلب. قال ابن المعتز

انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر

فالهلال على الأكثر زورق مائل، تارة يميل بصدره إلى الشمال، وتارة يميل بعجزُه إلى الجنوب، وهو في هذا كله يتبع الشمس ويداورها، فنوره من نورها، وهما قل أن يغربا من الأفق في مكان واحد، فإذا هما فعلا أو قاربا ذلك، وقعت الشمس عند غروبها في أسفل الهلال تماماً فاستقام الزورق. ثم يجري الدوران باختلاف المغربين فيعود الزورق فيمتلئ عنبراً ثقيلاً

والقمر يتم دورته حول الأرض في 32 , 27 يوما، وهذا شهره الحقيقي، ولكن أهل الأرض لا يروضون منه ذلك، فالشهر عندهم هو ما بين المحاق والمحاق، والقمر بعد جريانه 32 , 27 يوما واستتمام دورته يجد أن الأرض خدعته عن بلوغ المحاق؛ لأنها أيضاً تسير فيختلف موضعها من الشمس، فلكي يتوسط القمر بينهما لابد للمتعب المجهود أن يسير 2. 21 يوماً فيبلغ المحاق، وبذلك يكون الشهر 53 , 29

والقمر يدور حول نفسه، فكان المرجو من ذلك أن نرى كل جوانبه، ولكن الواقع غير هذا، فإنا لا نرى منه غير جانب واحد، نرى وجهه ولا نرى قفاه، وذلك أن القمر يدور حولنا ويدور كذلك حول نفسه، حول محوره، ويستغرق في الدورتين زمناً واحدا، فهو يدور حول الأرض مرة واحدة في الشهر، ويدور حول نفسه مرة واحدة في الشهر كذلك، فنحن دائماً نرى منه وجهاً واحداً. نعم قد يتذبذب القمر في دوراته فيرينا أذنه اليمنى، ثم يرينا أذنه اليسرى، وقد يطرق فيرينا شيئاً من أم رأسه، وقد يرفع رأسه فيُبيِن عن أدنى لحيته، وهو في كل هذا لا يُظهر غير ستة أعشار سطحه، أما أربعة الأعشار الباقية فقد شاء القدر أن لا تراها عين إنسان. وسترى في العدد القادم ماذا في القمر نفسه من أشياء.

احمد زكي